Horof

Share to Social Media

ها قد وصلتُ أخيرًا.. لكن إلى أين؟!
هل أنا داخل الزمان أم خارجه؟!
أشعر أنِّي ضعيف، ضعيفٌ جدًا وعاجزٌ عن الحركة، أشعر بصداعٍ رهيبٍ لا أعلم من أين مصدره، أسمع أصواتًا كثيرةً من حولي لكني لا أستطيع رؤية أيَّ شيءٍ بسبب ظلمة المكان الشديدة، هناك جدارٌ ما يحيط بي، هل أنا في سجن؟!
ربما..
لكنهم عندما أرسلوني أخبروني أنني سأكون إنسانًا حرًّا، أملك حرية الإرادة وحرية القرار، ولا يبدو أنني كذلك الآن!
لقد أخبروني أنني هنا أستطيع أن أعزف الموسيقا وأن أرقص وأن أشعر بالحب، لكن كيف يمكنني فعل كل ذلك وأنا مقيدٌ هكذا؟!
لا بد أنهم كانوا يسخرون مني حينما قالوا لي ذلك الكلام، وحينما أقنعوني أن أخوض غمار هذه التجربة، لقد قطعت ملايين السنين الضوئية وتنقلت من نجمٍ إلى آخر بحثًا عن أرض المشاعر، وهأنذا أجد نفسي عالقًا في هذا المكان البائس دون حولٍ مني ولا قوة؛ لكن مهلًا، كيف يمكنني العودة إليهم؟ إنهم لم يخبروني بذلك! يا إلهي، هل سأبقى عالقًا هنا إلى الأبد؟!
لا، لابد من وجود مخرجٍ ما وعليَّ أن أجده، لكنني الآن مرهقٌ، مرهق جدًا ولا أستطيع التقدم خطوةً واحدة، سأغفو قليلًا لأرتاح من عناء تلك الرحلة الشاقة لعلي أستعيد بعض طاقتي التي فقدتها. لكن ما كل هذا الصراخ؟! مَن هم هؤلاء الذين يصرخون؟ هل هم عالقون هنا مثلي؟ أم أنَّ هذا هو عالمهم الذي يعيشون فيه؟ يا له من مكانٍ مزعج هذا الذي أتيت إليه، لا بد أن اسمه (عالم الصراخ)، فلا اسم يليق به أكثر من هذا، أو لربما هو عالم الظلام الذي لايوجد أي نور يهتدي إليه ولا حياة للألوان فيه، فوحده الأسود هو الذي ينتشر هنا كعباءةٍ يرتديها الظلام ولا يخلعها أبدًا، كل ما أخشاه هو أن أكون قد ضللت طريقي ونزلت في أرض الشياطين.
الأيام هنا تمضي كئيبةً، وهذه الجدران تضيق بي حتى بدأت أشعر أنَّ لحظة انطباقها عليَّ ليست بعيدة، ولكن -ولأكون صريحًا- رغم كل معاناتي إلا أنني قد بدأت أعتاد على وجودي هنا، مَن كان يصدق أنَّ الأرواح المخلوقة من النور يمكنها أن تعشق الظلام! نعم، لست نادمًا أبدًا على قراري، ولو عاد بي الزمان إلى تلك اللحظة التي خُيرت فيها بين أن أبقى حيث كنتُ أو أن أخوض غمار هذه التجربة، لاخترت خوض التجربة مرةً أخرى دون تردد.
لماذا؟ لا أدري! ولا أعلم ما الذي شدني وجعلني أتعلق بهذه الجدران رغم قساوتها! في داخلي أشياءٌ تتصارع فيما بينها وتجعلني أشعر بشيءٍ من اللذة، وهذا مالم يحصل لي طوال المليون سنة الماضية، لابد أنَّ هذه هي المشاعر التي كنا نسمع عنها والتي تتمنى كل روحٍ في أرض الأرواح أن تحصل عليها وتجرِّبها وتشعر بلذتها.
تلك الأصوات التي كانت تزعجني أصبحتُ أستأنس بسماعها، وعندما تختفي أشعر بالوحدة تتسرب لداخلي فأبدأ بالحركة يمينًا وشمالًا مراتٍ ومرات حتى أسمع ذلك الصوت الملائكي الذي يكلمني دائمًا، نعم يكلمني أنا، وقد أطلق عليَّ اسم (بنيَّ)، فدائما عندما أتحرك يقول لي:
"اهدأ بنيَّ"
وعندما أشعر بالألم في منتصف جسدي الصغير يقول لي:
"اصبر بنيَّ فلم نجد طعامًا اليوم"
وعندما أسمع أصوات الانفجارات كتلك التي كنت أسمعها عندما تنفجر النجوم ويبدأ هذا المكان الذي أنا فيه يهتز بقوة، وأسمع ذلك الصوت الملائكي يلهث ويئن من البكاء، عندها يتملكني الخوف الشديد وينتابني الفزع.
والذي يحيرني فعلًا هو أنني لست خائفًا على نفسي فقط، بل أنني أيضًا خائفٌ من أن يصيب ذلك الصوت أيَّ مكروه.
يا للعجب!
في بلاد الأرواح لم يكن أحد يكترث لأحد، فهناك لا خطر يهددنا ولا حاجة لنا لأن نأكل أو أن نشرب أو أن ننام أو أن نخاف أو أن نحب، حياتنا عبارة عن خواء لا بداية ولا نهاية ولا معنى لها؛ أما هنا فكل شيءٍ مختلف، وحياة الفرد مرتبطة بحياة الآخرين بروابط خفية تسمى المشاعر، تتدفق داخلنا كنهرٍ صافٍ لتبني منظومةً متكاملة من الأحاسيس المعقدة التي توصلنا لنشوة الشعور باللذة،
فالشعور بالألم لذةٌ ولشعور الحزن لذةٌ ولشعور الفرح لذة تجعل كل آلامي وخسائري الفادحة لاشيء أمام العيش في نشوتها للحظةٍ واحدة، أستيقظ في منتصف الليل أبكي، ألتف على نفسي وأنادي الموت ليخلصني من عذاباتي، وبعد لحظاتٍ أبتسم ثم أضحك كالمجنون بلا سبب، ثم أهدأ وأعود لأكمل نومي.
هكذا هي المشاعر بسيطة وعفوية ومتشعبة كأشعة الشمس التي تنعكس على كل شيءٍ مظلم فتضيئه ثم تختفي دون أن تترك خلفها أي أثر، حرةً، طليقة، متمردة، لا تلتزم بأية قوانين ولا تخضع لأحد، بعضها هادئ جدًا لدرجةٍ تجعلك تشك بوجودها، وبعضها كالعواصف العظيمة التي إذا بدأت فإنها لا تنتهي قبل أن تجتاح كل شيءٍ حولها، وبعضها حيادي بين التعقل والجنون، وهناك مئات الأنواع من المشاعر التي تعيش بداخل كل شخص هنا والتي يمكن أن نختصرها باسمين فقط، (الحب) و(الكراهية)، وما بينهما يوجد خيط رفيع جدًا مهمته خلق التوازن بين الخطأ والصواب، ولا بد لنا من ترجيح كفة الصواب حتى تعيش النفس في سلامٍ واطمئنان.
اسمع صوتًا آخر يكلمني أحيانا، وقد أطلق عليَّ اسم (أخي)،
ومنه عرفت أن اسم صاحب الصوت الملائكي هو (أمي)، فدائمًا ما يكلمها ليطمئن عنها وعني، وقد عرفت من خلال أحاديثهما معًا أن اسمه (سائر) وأنهما يعيشان في رعبٍ دائم لأن هناك من يحاول أذيتهما كل يوم، وأن أصوات الانفجارات تلك هي نتيجة صواريخ تطلقها الطائرات فتدمر كل شيء أمامها، وأن هناك شخصًا يدعى (أبي) يعيش منذ ثمانية أشهر في مكانٍ سيءٍ يسمى (معتقل) ولا أحد يعرف مكانه حتى الآن، وأنَّ هناك أطفالًا يعانون من المجاعات، وأسرى يعذبون، و نساءً تغتصب، وأوطانًا تُدمَّر.
وعرفت كيف يكون الشعور بالبرد والحر والمرض، لقد عرفت أمورًا كثيرة وأسماء كثيرة حتى باتت العزلة في هذا المكان المظلم أفضل لي بكثير من الخروج منه، لقد أصبحت متأكدًا أنَّ جميع هؤلاء الذين يعيشون هنا قادمون من أرض الأرواح مثلي تمامًا، جميعهم جاؤوا هنا ليشعروا بلذة الحب والفرح والحزن والألم، لكن بعضهم قد سيطرت عليه مشاعر الحقد والحسد والكراهية وألقت عليهم لعنتها فجعلتهم يقتلون الآخرين من أجل أن يسيطروا على هذه الأرض دون أن يشاركهم بها أحد.
ولكن كيف حصل هذا؟!
ففي أرض الأرواح الجميع كانوا متشابهين، جميعهم كانوا مسالمين، فهل هذه الأرض هي التي غيرتهم؟ أم أنها فقط كشفت مكنوناتهم على حقيقتها؟
أم أنَّ الحرب الحقيقية كانت منذ الأزل بين المشاعر ذاتها وأن من يأتي إلى هنا يجبر على القتال بأحد صفوفها؟
كل ما يجري حولنا يسخر مما يجب أن تكون عليه هذه الأرض التي يحلم الجميع بالمجيء إليها والعيش فيها.. كل شيء هنا يلفه الغموض، والغد هو المجهول الذي يخاف الجميع من مجيئه رغم أنه آتٍ لامحالة.
علاقة ارتباطٍ قوية نشأت بيني وبين (سائر) لدرجة أنني أصبحت أشعر أنني جزءٌ منه وأنه جزءٌ مني، أغضب لغضبه، أحزن لحزنه، أفرح لفرحه، ولا أشعر بالأمان إلا عند سماع صوته، وحينما يبتعد ويغيب لعدة أيامٍ أشعر بالكآبة تتسرب إلى قلبي، فأبتهل إلى الله بالدعاء ليعود لنا سالمًا من أي مكروه.
كيف لا وهو عيناي التي أرى من خلالهما كل شيء خارج هذا السجن المظلم؟.
كيف لا، وهو يحرم نفسه من النوم والراحة ليحمينا، ويعرِّض حياته للخطر يوميًا من أجل أن يجلب لنا شيئًا نأكله؟!
كيف لا، وهو السند والذخر والصديق، ولولا وجوده لكان طعم الحياة هنا أكثر مرارًا وقسوة؟. الأخوة هي لغز آخر من ألغاز الحياة على هذه الأرض الغامضة.
يا إلهي! لو أنني اخترت البقاء في مكاني فكيف كنت سأعرف كل هذه المشاعر؟! لو أنني لم آت إلى هنا لكانت خسارتي لا تعوَّض، فألف حياةٍ أبدية لا تساوي شيئًا أمام عيش لحظةٍ واحدة من هذه المشاعر.
نبيل أنت يا (سائر)، فرغم كل ما تعانيه إلا أنك لا تتردد في إنقاذ الناس من تحت الركام الذي تخلفه صواريخ الدمار، وتضطر للعمل ليلًا ونهارًا دون توقف من أجل إنقاذ أكبر عدد من الأرواح، أُصبتَ مراتٍ عديدة لكنك سرعان ماكنت تعود للعمل فور تماثلك للشفاء بل وحتى قبل ذلك، أنت التجسد الحقيقي لمشاعر الإيثار والتضحية، ورغم انتشار البؤس إلا أنَّ ضحكتك كلما أنقذت أحدًا ما تزرع في قلوبنا الأمل من جديد، فيفرد الحب أجنحته لتظلل جميع القلوب المنكسرة؛ أما مشاعر الأمان فتحاول جاهدةً هزيمة الخوف لكن محاولاتها دائمًا تبوء بالفشل.
قصفٌ جنوني يجتاح المنطقة، الأبنية انهارت وداهمنا الغبار من كل ركن و زاوية، وتصاعدت وتيرة الرعب، والأنفاس وصلت إلى الحناجر، الناس يركضون في كل الاتجاهات بحثًا عن مأوى يحميهم من الموت المحيط بهم لكن إلى أين؟! أين ينبغي لهم الاختباء من الأمطار الحديدية القاتلة؟!
رغم كل هذا العذاب وهذا الألم ترفض الأرواح التخلي عن حياتها في هذه الارض الملعونة، وتفضل البقاء هنا على الرحيل للحياة الأبدية، ألهذه الدرجة المشاعر غالية! أم أنَّ الموت مرعبٌ لدرجة تجعل الجميع يحاولون الفرار منه؟!
إحساسٌ مخيف ومقَلق، اسمع صراخ الأطفال وأشعر برائحة العفن تتسرب وتعشش في رئتي فأعلم أننا حوصرنا في القبو البائس من جديد، الخوف والرجاء والترقب ولحظات تمتزج فيها كل المشاعر وتتصارع.
الأصوات احتبست والوجوه احتقنت والألسنة تلهج بالدعاء، لكن ما كان لها أن تبدل في الأمر شيئًا.
الجوع الشديد عاد ليبتزنا مرةً أخرى، وغياب (سائر) طال هذه المرة دون أن نسمع عنه أي خبر؛ فهنا لا يسمع المرء سوى أنين الأطفال، استغاثات الجرحى، الانفجارات المتكررة، وفجأة يتوقف كل شيءٍ ويعم صمتٌ مرعبٌ وقاتل.
غادرت الطائرات تاركةً الناس بين قتيلٍ وجريح ومكلوم، هدأت الأجواء قليلًا ثم سمعت أصوات الرجال تنادي على النساء لتخرجن من القبر الجماعي.
ارتدَّت الأنفاس إلى الأجساد المنهارة وأخذت تلملم انكساراتها وتضمد جراحها، و بدأت الجموع تندفع خارجًا تبحث عن هواءٍ نظيف تتنفسه، ويمكنني أن أتخيل الأجساد الهزيلة والرؤوس التي غزاها الشيب والعيون الجاحظة والملابس الرثة المغطاة بغبار الركام، جميعها تخرج من القبر كأنها بُعثت من الموت وانتشرت كما ينتشر الجراد، ومع الجموع خرجت أمي، وسمعتها تصرخ باسم (سائر) ثم تركض وهي تبكي؛ فعرفت أنها رأته مضرجًا بدمائه، جثت على ركبتيها أمامه وهو يحتضر وأخذت تكلمه بصوتها المحشرج بالبكاء:
"ولدي (سائر)، انهض أرجوك، لا تمت فنحن بحاجةٍ إليك، أيها الموت فلتأخذني أنا بدلًا عنه، اتركه فهو لم يكمل عامه العشرين بعد، (سائر) لا تتركني وحدي يا بني فأنا لم يعد لي غيرك في هذه الدنيا !".
ولكنه في تلك اللحظات لم يكن يسمعها فقد كانت حواسه عالقةً بين عالمين، وقد سمعته يتمتم ويقول:
" أخيرًا، أخيرًا فتحت البوابة إلى أرض الأرواح وأصبح بإمكاني العودة من جديد!".
ثم شعرت بيده تلمس جدار السجن الذي أنا فيه ويقول لي:
"الآن حان دورك، اعتنِ بأمنا جيدًا يا أخي".
وفي تلك اللحظة علت صرخةٌ مدوية وصلت لعنان السماء، تخبر الجميع بألم الأم المفجوعة بفقدان ولدها الذي اغتالته الحرب كما اغتالت آلاف الشباب غيره، عندها ولأول مرة نسيت كل شيءٍ وشعرت بعواصف الحزن تجتاحني وبأنَّ قلبي ممتليء لدرجة الانفجار، وأني أريد أن أصرخ صرخةً يصل صداها إلى أرض الأرواح، أقسم فيها لأخي بأنني سأنتقم له ممن جعلوه يتألم، وسأدمر مشاعر الكراهية تلك التي عذبته، وسأقتل كل من يحملها، سألعن الحياة البائسة في هذه الأرض الملعونة التي تقتل السعادة داخل الأرواح ثم تطردها مهزومةً ومحطمة ومنكسرة.
شعرت بالدماء تغلي وتتدفق في عروقي وبأنَّ بركان غضب في صدري سينفجر، فأخذت أضرب جدران السجن من حولي محاولًا تحطيمها، وشعرت بتزلزل الأرض من تحتي وتشققها وبدأ شعاع من نورٍ يقتحم المكان فشعرت بأني سأختنق إن لم أصرخ بتلك الحروف العالقة في حنجرتي، فدفعت نفسي بكل قوتي محاولًا الخروج وصرخت:
" أخييي!".
في تلك اللحظة علا صراخ الأم الممددة بجانب جثة ولدها واختلطت دماء الموت بدماء الولادة، والصراخ يزداد كلما ازداد الألم..
اجتمعت النسوة حولها ليساعدنها ويخففن عنها، فقد حان الوقت لقدوم ذلك الطفل الذي تحمله في أحشائها منذ تسعة أشهر.
القلوب تخفق والعيون تتربص، ومضى خمس عشرة دقيقة على هذا الحال ثم توقف كل شيء وخيم الصمت للحظات بعدها سُمع صوتٌ جديد يصدح بالبكاء، هذا الصوت الذي عاش مأساة الحرب قبل أن يولد وسمع آلام الناس قبل أن يراها، والآن سوف يرى ويعيش تلك الآلام بنفسه في هذا العالم الذي يبنيه الناس مراتٍ ومرات ثم يدمرونه في كل مرة، يالسخرية القدر، من كان يصدق أنَّ كل هذا يجري في هذه الأرض التي هي ليست إلا نقطةٌ صغيرة في هذا الكون الواسع الفسيح؟! لا أحد.
فوق الأرض بين حطام المنازل المدمرة ترى الأرواح الصاعدة أسفل منها أم تودع ولدها بقبلة، وتستقبل طفلها الجديد بقبلة، تلف ولدها بقماشٍ أبيض لتدفنه، و تلف طفلها بقماش أبيض لتدفئه وفي قلبها اجتمعت مشاعر اليأس والأمل لتصنع مزيجًا من مشاعر لا يمكن لأحد وصفها أو الشعور بها غيرها هي، و لتنتهي حكاية وتبدأ حكاية..
وما بين الحكايات تختبر الأرواح مكنوناتها وتعيش كل روح تجربتها الخاصة في أرض المشاعر.

قد لا نستطيع اليوم إصلاح شيءٍ؛ لكن يمكننا أن نهيئ الظروف للأجيال القادمة ليصلحوا ما أفسدناه وآباؤنا..
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.