Sottoo3

Share to Social Media

إيكـــــــو(1)
إيكـــــــو
شيـــــماء حسـن


هيلاس الإغريقية
الألف الثاني قبل الميلاد
إيكو
انقطع صوتي فجأة وامتنع الكلام عن الخروج من حنجرتي وكأن أحبالي الصوتية قد تمزقت، هناك شيءٌ يجذبني، فأعجز عن المقاومة وكأنه استولى على عقلي وروحي.
انتفضت ونهضت مِن مكاني كالذي مَسّه الشيطان وأَخذتُ أركض متسلقةً بلا وعيٍ أو إدراك مني، مسلوبة الإرادة.
تبدلت التضاريسُ مِن حولي، فلم أعد أرى سوى رمالٍ وصخورٍ من كل اتجاه، وجبلٍ عالٍ تتسلقه قدماي بكل رشاقة.
أَتعجب من قدمي التي تركض بثباتٍ وثقة، تعلم وجهتها جيدًا رغم جهلي أنا بها، حتى أبصرت عيناي نهرًا، وهناك من يستلقي بجواره، زدت من سرعتي وكأن هناك من يطلب دعمي، وحين اقتربت منه تعرفت عليه، تعجبت من روعته وجماله وهو ينظر إلى النهر.
لقد شغفني حُبًا من قبل وعشقته مرةً أخرى في تلك اللحظة، تواريتُ خلف الصخورِ أراقبه في إطراقٍ ووجوم، فسمعته يتحدثُ إلى النهرِ وكأنَّه يودع رَفيقًا، يقول بيأس:
"الوداعُ لمن أحببتُ بلا جدوى"
خرجت مني تلك الكلمات فجأة كأنها صدىً لكلماته، أرتد صوتي أم أني أتوهم؟!
كُل الأحداث تتكرر كما حدثَ من قبل، لم يُحرك الفتى ساكنًا وسقط هالكًا، انبعث منه طيفٌ يركض بألوان قوس قزح فاتبعته حتى حافة الجبل، فردتُ ذراعيّ وألقيت بنفسي خلفه، ارتطمت بالصخور في رحلة سقوطي، حتى أنني رأيتها تبكي وتنتحب رثاءً لي، وتصدح مدوية بحزن، وتحركت إِحداهُن من مكانها لتصرخ بلهفةٍ مستغيثة: "أنقذها يا سيدي، أنقذ إيكو"
وفجأة توقَّف الجميع، وتبدَّل حالهم من الصياح والصراخ إلى القهقهة والزهزقة، ونظرت إحدى الصخور بوجهٍ وَضَّاح المحيا مشيرةً بسبابتها تجاهي وبصوتٍ منبسط الأسارير قالت: "لقد حولها لطائر "
انتبهت فوجدتني أحلق بجناحين عظيمين وعنقٍ طويل، يا للعجب، لقد تحولتُ لعنقاء!
مررتُ على تلك الصخور، وشرعتُ في تقبيلها في مشهدٍ بدِيعٍ ومؤثر، واعتزمتُ الرحيل ملوحةً بجناحي، فاستوقفتني كبراهُن: "انتظري
وبصوتٍ حنونٍ ممتزج بدفءٍ واحتواء قالت لي: "انتبهي لنفسك يا إيكو."
لم أستطِع الرد عليها؛ فقد انقطع صوتي مرةً أُخرى، لاحظت حيرتي فابتسمت وطمأنتني، ومدت يدها إلى صخرةٍ صغيرةٍ بجوارها فناولتها الأُخرى بعضَ الأحجار الملونة مجمعة في عقدٍ وطلبتْ مني أن أقترب، لبَّيت، فحاوطَت عنقي بِه وأخبرتني أنها ستراقبني من خلاله وتساعدني على النطق، ثم وَضعت يدها على حبَّاته وابتسمتْ فوجدتني أتحدث، بلى، لقد تحدثْت وقلت لها أحبك ولثمتها بحرارة، ثم سألتها: "ماذا سيحدث بعد؟"
أخبرتني أن أذهب إلى فينيقيا لكي أَعيش دَورة حياة الطّائر حتى أولد من جديد، قائلة:
- "أنتِ الآن عنقاء تمتلكين حياةً متجددةً لا فناءَ فيها إلا ويتبعه بعثٌ جديد، ولكن عليكِ أن تبتعدي عن هيلاس لكي تتخلصي من لعنة هيرا."
-"حسنًا سيدتي الصخرة، سوف أرحل عن هنا ولكن سوف أشتاق لك وللجميع."
-"نحن أيضًا سوف نشتاق إليكِ يا عزيزتي، ولسوف نحتفظ بصداكِ ها هنا بيننا ليكن ذكرى جميلة منكِ يا إيكو الجميلة."
-"أنا أيضًا سوف أُرسل إليكم صداي مَع الرياح، وَأُشاركُّم كل خطواتي فلتطمئن قُلوبُكم، وداعًا سيدة روكين."
-"بل قولي إلى اللقاء يا إيكو؛ لعلنا نلتقي مرةً أُخرى ولكن بدون سقوطٍ وتحول، وَتقصين علينا المزيد من الحكايات كما كنتِ تفعلين في السابق."
-"إلى اللقاء سيدة روكينا."
ودعتهم باسطةً جناحيّ وصدى أَصواتهم من خلفي يودعني، ولا أدري كيف ومتى بدأَت دموعي في التساقط.
حلقت في الفضاء، كانت فِينيقيا وجهتي لكي أولد من جديد كما أخبرتني الصخرة "روكين" لعلِّي أُمنح هذه المرة الحبُّ الذي لطالما تمنيته وأجد من يحافظ على قلبي لأتخلص من معاناتي وأخرج من تلك الدائرة المقيدة بداخلها.
المسافة طويلة من هيلاس لفينيقيا، ولكني أشعر بالأنس فعقد الأحجار المتدلي من عنقي تصدر منه أصوات الصخور الصغيرة مبتهجةً، يطلبون من جدتهم روكين أن تقص عليهم حكايتي مرةً أخرى كما تفعل بعد كل مرةٍ من رحيلي عنهم، وها أنا ذا أنصت لحديثها عني، لا تَسأم من إعادة نفس الحكاية ولا هم يَملون من سماعها، لا يدرون أن أحاديثهم تلك وحكاياتهم هي من كان له الفضل فيما زخرت به أفكاري من حكايات وقصص تسلب الأذهان وتستلهب العقول لسماعها، وكانت تلك الحكايات أيضًا السبب في لعنتي وحُبستي عن الكلام.
-"هيا روكين الحنونة، قُصي علينا القصص فكُلنا آذانٌ صاغيةٌ."

روكين الصخرة
-"هيا يا صغاري، هلموا هنا وأنصتوا لأقص عليكم قصة إيكو الجميلة، تلك الفتاة الفاتنة التي كانت تشع بهاءً، جميلةُ الطلعة ورشيقة القوام، عيونها التي تشبه الفحم المشتعل، وشعرها الذي يشبه سلاسلًا متدليةً من الشمس، شفتيها المكتنزة كحبة كرز شهية، وجسمها اللدن الناعم، ونهديها المنتصبين كثمرتي رمانٍ تختبئان خلف وشاحٍ شفافٍ ملقى بإهمال حول عنقها الطويل الذي تظهر شرايينها من خلاله كزجاجة عطرٍ شفافة تظهر ما بداخلها وتنثر عبيرها.
فتاةٌ سخيةٌ في حبها؟ تعطي بلا مقابل، وتعطي بلا حدود، تهب العشق بجودٍ وكرم.
تميزت عن الجميع بتمكنها من ملكة الكلام؛ فقد كانت تسرد الحكايات المشوقة وتجذب ألباب المنصتين شوقًا لمجرى الأحداث، كانت حوريةً جبليةً تنتمي لجبل كيثايرون بهيلاس، وكانت تلهي هيرا عن مراقبة زوجها زيوس بالحديث المتواصل معها، وذلك ليتمكن زيوس من ملاحقة النساء والحوريات بحريةٍ تامة.
عند اكتشاف هيرا لهذا الأمر، عاقبت إيكو بجعلها تكرر الكلمات التي يقولها الآخرون دون أن تتمكن من الحديث بنفسها.
تلك المسكينة حرمت من شغفها الوحيد وهو الكلام، مما أثار الحزن في قلبها فاعتزلت الجميع وجاءت إلى هنا بعيدة عنهم.
-"أتقصدين يا جدتي أن إيكو لم تخلق بكماء، وأن صمتها ما هو إلا لعنة أصابتها؟!"
-"بلى، أصبحت صدًى للأصوات، بعدما كان صوتها يملأ الأرجاء بأمتع الحكايات."
- وماذا حدث لها بعد ذلك يا جدتي؟ كيف استطاعت التواصل مع الآخرين بعدما فقدت قدرتها على النطق؟
-"وقعت إيكو في حب شاب يدعى "نرسيس"، لكنه رفض حبها بالمقابل، كانت إيكو قد لمحت هذا الشاب أثناء تجواله في الغابة، فتبعته غيرَ قادرةٍ على الحديث معه بسبب صوتها المسلوب من قبل هيرا، فانتظرت حتى ينطق هو بكلماتٍ قد تمكنها من استخدامها للتعريف بنفسها.
بعد فترة، صرخ نرسيس مناديا لأصدقائه، فسأل:
-"هل من أحد هنا؟"
كررت الكلمة الأخيرة لتقول: "هنا." صرخ نرسيس من جديد، مندهشًا مما سمعه:
- "تعالي من هذه الناحية."
فكررت:
-"من هذه الناحية."
استمر الحوار على هذا الحال حتى قال:
-"انضمي إلي."
فرحةً بالموقف، خرجت إيكو من مخبئها واندفعت تجاه الشاب، لتطوقه بذراعيها، فعزف عنها وطلب منها الابتعاد عنه بفظاظةٍ وخشونةٍ.
حزنت إيكو بشدة لما حدث، فاختبأت في الغابة داخل الكهوف وبدأت بالاختفاء تدريجيا، ولم يبق منها سوى صداها، وتوجهت إيكو بالدعاء للآلهة لتعاقبه على قسوته، وذلك بأن يحب نفسه بشكلٍ جنوني ويظل يتعذب ببؤسه.
-"ومن هذا "نرسيس" يا جدتي؟ وكيف يرفض حوريةً جميلةً مثل إيكو؟! يا لغروره!
-" بالفعل، لقد كان فتىً مغرورًا وفخورًا بنفسه لدرجة تجاهله وإعراضه عن كل من يحبه؛ لاحظت الآلهة تصرفه ذاك، فأخذته إلى بحيرةٍ حيث رأى انعكاس صورته فيها ووقع في حبها دون أن يدرك بأنها مجرد انعكاس صورته، وأعجب بها لدرجةٍ عجز فيها عن تركها ولم يعد يرغب بالعيش، وبقي يحدق بصورته إلى أن مات، وبعد موته خرج طيفٌ من جسده، تبعته إيكو بدون إدراك حتى سقطت من فوق الجبل ذاك، وقبل الارتطام ولدت من جديد في جسد مخلوقٍ آخر، وتظل تتكرر مأساتها كاللعنة، فتعود بعد ذلك ويتراءى أمامها الموقف مرة أخرى كما انطبع في ذاكرتها لتلاحق الطيف وتتحول لمخلوقٍ جديد وتذهب لكي تبحث عن الحب وتعود وهكذا.."
تساءلت إحدى الصخور:
-"ألن تتوقف تلك اللعنة يا سيدة روكين؟"
-" فقط ستتوقف في حالةٍ واحدة؛ عندما تحصل إيكو على الحب الحقيقي الصادق الذي تتساوى فيه مشاعرها بمشاعر الطرف الآخر، بدون تضحيةٍ منها أو مبالغة، أو حبٍ من طرفٍ واحد، أو عذاب، ستتوقف عندما تكف إيكو عن العطاء بلا
مقابل، وتبدأ في إعطاء نفسها بعض المحبة، وقتها ستجد الحب الصادق، وستجد من يقع متيمًا في حبها، ويعطيها الكثير مما يحتاجه قلبها ويروي ظمأ روحها."
-"ولكن ماذا عن نرسيس يا جدتي؟ ألم تعد روحه مرةً أخرى كما عادت روح إيكو؟"
-"لقد عادت روحه بالفعل يا صغيري، هناك بجانب النهر نبتت مكانه زهرةٌ حزينةٌ تشبه حزن روحه على من أحب بلا جدوى، فقد كان يظن انعكاس صورته في النهر شخصًا آخر، حتى أنه ظنها حوريةً بحريةً صعبةَ المنال، فعشقها وشعر بعذاباتِ من تعذبوا بعشقه وذاق من الكأس الذي سقى منها الكثيرين، ولكن يا صغاري أتدرون شيئًا؟
لم يكن نرسيس مذنبًا في رفضه؛ فالحب ليس له قواعد، فنحن لا نستطيع إجبار شخصٍ على اعتناقنا أو إجباره على التخلص مما يكابده من شوقٍ وعشق والتخلي عنه بسهولة، ليس بيدنا حيلة؛ ففي البداية نغرق عاشقين، ومن ثم نتعذب إن لم يبادلنا من عشقناهم الحب، ثم نبدأ في التعلق وهو الشعور الأسوأ على الإطلاق، فالتعلق هو تلك الأنات التي تجتاح الروح، ذلك الخواء الذي يعيش بداخلنا، كطائرةٍ ورقيةٍ محلقة، لا يسعنا سوى النظر إليها بصمتٍ وبسمة أملٍ ورجاء بألا ينقطع الخيط، هو نزيف لدماء الروح قطرةً قطرة بهدوءٍ وروية، فالذي يتعلق يظل متمسكًا ويتأذى كفه من الألم خشية ألمٍ أكبر وهو ألم الفراق، رغم أنه يعلم أن في الحالتين ألم وعذاب، ولكنه يفضل عذابًا في حضرة محبوبه عن عذاب بُعده الذي يذبح الفؤاد."
-"وما الذي بوسع من يحب فعله يا جدتي سوى أن يبقى معلقًا بحبيبه؟ وماذا بإمكانها إيكو أن تفعل للتخلص من العشق والتعلق؟!"
-يا صغيري، بإمكانها فعل الكثير للتحرر ولكنها تنصت لقلبها دون أن توازن كفته مع كفة العقل، بإمكانها أن تصنع حلمًا لكل لحظة، يمكنها صنع المراكب الورقية وجعلها تطفو فوق بحر الذكريات، يمكنها صنع طائرة ملونة من الأحلام وتخرج كالأطفال بابتسامةٍ تلمع في عينيها وتحلق معها في السماء، وبعد استمتاعها بالتحليق ترخي يدها عن الخيط بدلًا من تمسكها الذي يدمي كفها وقلبها معًا، يمكنها دومًا أن تبتعد وترسم حلمًا آخر، بأن تعشق من جديد، ثم ترفع كفها ملوحةً لمن رحل وتلغي صك الملكية الذي وهبته إياه على قلبها، فلتكن فراشةً ملونةً تتنقل بين الزهور وتستمتع برحيقها، أو حتى لتكن هي الزهرة وتنشر عبيرها في الأجواء، ولتزهر كل فصلٍ ولا تكتفي بالربيع فقط، ولتملأ الخريف بالزنابق البيضاء وزهور دوار الشمس البديعة.
بإمكانها فعل كل ذلك يا ولدي، ولكن عقلها منساقٌ خلف قلبها، وقلبها أحمق لا تقوى على السيطرة عليه."
-"وما العمل إذًا؟"
-" فقط الأقدار من بيديها أن تفعل كل شيء، فلننتظر ونرى أين ستتوقف وبأي محطةٍ سترتاح من الدائرة التي تدور بها، لنرى أمقدرٌ لها أن تستقر ويهدأ قلبها وتنسى الماضي ذاك؟
تنسى زيوس وهيرا، تنسى نرسيس وعشقها له؟ وهل مقدر لها أن تُعشق كما تَعشق لتتوقف لعنتها أم ستبقى طوال العمر مصدرًا للعطاء بلا مقابل؟
لننتظر يا أولادي ونرى أحداث قصة تلك الراوية التي ما عادت تقوى على الحديث ولا حتى تستطيع النطق."
-"ولكن ماذا عن العنقاء تلك يا جدتي؟ كيف ستعود إيكو مرة أخرى لهيئتها الحقيقية؟"
ردت روكين الصخرة العتيقة بحنان على حفيدتها:
-"سأخبرك يا ابنتي كل شيء عن طائر العنقاء وكيف تتجدد حياته، إن هذا الطائر يمتاز بالجمال والقوة، وقد قيل إنه وبعد انقضاء سنوات عمره، وعندما يوشك على الموت، يترك موطنه ويسعى صوب الشرق ويختار نخلةً شاهقةَ العلو، لها قمة تصل إلى السماء، ويبنى له عشًا، بعد ذلك يموت في النار، ومن رماده يخرج مخلوق جديد، يشبه دودة لها لون كاللبن تتحول إلى شرنقة، ويخرج من هذه الشرنقة طائر عنقاءٍ جديد يطير عائدًا إلى موطنه الأصلي، ويحمل كل بقايا جسده القديم إلى مذبح الشمس فى هليوبوليس بمصر."
-"وهل سوف يحدث ذلك مع إيكو؟"
-"لا أدري، لعل الأمور سوف تختلف قليلًا إلى حد ما، فالمفترض أن تولد إيكو من جديد كطفلةٍ وليس عنقاء صغير، فلننتظر ونرى إلى أي حد سوف تؤول الأمور."



احتراق العنقاء
لمست عنان السماء محلقة حتى وصلت لفينيقيا مع شروق الشمس الذي يشبه سلاسل ذهبية تشعل الدفء في قلبي، رفرفت بجناحيّ مسرورة بها يداعبني النور المتساقط منها كأمٍ تلاعب صغيرها وتدغدغه.
لم يكن لدي أدنى علم بوجهتي، بل هي من كانت تجذبني إليها وكأن كل ما يحدث ما هو إلا فيلم مصور لأحداث معلومة وأنا بداخله أقوم بدوري المحفوظ عن ظهر قلب، منقادة إلى القدر المحتوم كسهمٍ منطلق اتخذ هدفه ولا سبيل للرجوع.
من بعيد، طلت شجرة كانت الأبرز من بين أخواتها، رغم أنها ليست الأكبر لكنها كان تشبه أمًا حانية، وجدتني مسلوبة الإرادة منقادة إليها، ارتحت على غصن من أغصانها، كانت محملةً بثمارٍ غريبة الشكل، والأفرع متدلية بسبب ثقل الثمار عليها وكثرتها، ووجدت بعضًا منها بلا ثمار، شامخة تنظر فروعها للسماء وكأنما هي جباهٌ مرفوعة.
نقلت عيني بين كليهما وراودني تخاطر الأفرع فيما بينهم، وكأن الفرع الشامخ يعتد بقوته وصلابته وينظر بتعالٍ إلى المتدلية منهم، ثم يسخر ذاك الغصن القوي ويبتسم بتعجرف وحماقة، فيخبره الآخر:
-"لم الكبر؟ ألأنك شامخ أما أنا فأنحني وألين؟! تواضع واترك غرورك، فإن كان لأحدنا أن يتعالى ويتكبر فليكن أنا؛ فأنا الغصن المثمر، كيف أنظر للسماء مثلك، أميل مع ثماري وأقص عليها قصص العشاق، أستسلم لثقلهم وجذبهم لي فأنا لثماري كالأم، وهم البنات والبنين، والطيور في أعشاشها تنصت لحكاياتي، وتبكي على لوعة العشاق وجوى المشتاقين."
حلقت حول تلك الشجرة المثمرة كثيرًا فأعجبتني ثمارها، وقفت بجوار إحداها وأخذت أنقرها وأتذوق حلاها، وكأنها أشجار الجنة، سقطت بذورها على الأرض ففاضت بثمارٍ ليس لها مثيل، التهمت ثمرة كاملة بنهم الجائعين ثم ودعتها وهمست إلى أفرعها:
-" لن أفعل شيء هنا، لن أؤذيك فاطمئنِ."
حلقت إلى نخلةٍ شامخةٍ وأخذت في جمع القش فوق أعلى أغصانها وأقواها بلا إرادة وكأنني آلة تعمل ببرمجة مسبقة، جمعت الكثير والكثير من الأحطاب حتى
اكتمل العش، فجلست بداخله ثم أطلقت صيحةً لا أدري كيف استطعت أن أخرجها من حلقي، خرجت ومعها شرز من نار، وما إن صحت كذلك حتى اشتعلت الأحطاب من حولي، شعرت بالدفء في البداية حتى طالت النيران ريشاتي فأحرَقَتْها وراح يتطاير رمادها ويسقط من حولي، ومن ثم اقتربت النار من جلدي الذي بدأ يذوب ويقطر منه الدهن.
كنت أشعر بالألم الشديد للحد الذي جعلني أفكر في التمرد على ذلك الطقس وأولي مدبرة، ولكن هناك ما يبقيني ثابتة شامخة، ويخبرني من داخل روحي أنه قد قضي الأمر وما عاد فيه رجوع، وإنها فقط بداية النهاية لحياة مريحة هانئة، صحت وأنا أحترق كالذي يناجي ويستغيث لعل هناك من ينقذه، رغم أنني أعلم جيدًا أنه لا مناص من القدر ولا تبديل للمكتوب.
ظلت روحي معي حتى آخر ذرة احترقت بجسدي، ومن بعدها فقدت شعوري بكل شيء.


1 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.