الجليد الأسود
مروة المصري
الجليد الأسود
اغمض عينيك، لا تخدع نفسك، لازلت تتلصص بإحداهما، اترك نفسك سابحا، يمكنك الآن أن تخطو أولى خطواتك على تلك الرمال الناعمة، هل تتحرك الأرض تحت قدميك ؟ هل تشعر بانحناءاتها نحو المياه ؟ فتلك هي الفطرة، أن تذوب الرمال طواعية للأمواج دون أن تفكر إلى أين؟ إنها لا تحب الركود بل الركوض بعيدا، هل تركض معها الآن؟ دع أذنيك تستمع إلى تلك الصفقات بين الأمواج و الصخور، و لتصفعك تلك النسمات الباردة ؛ لتملأ ضلوعك كما الهيليوم لتطفو و تعلو، أراك تشق البحر لاهثا باحثا عن المزيد..
توقف قليلا عن الركض و التقط أنفاسك، لما لا تدع المياه تحملك مستلقيا ؟! أنت في مواجهة السماء، ترى كل بوابات العبور لعقلك المستتر، هل أنت مستعد للتنقيب؟ كن هادئا، ستمطر قريبا، و ستهدأ كل العواصف ... أخبريني أين أنتِ الآن؟
كانت تلك الكلمات هي الخطوة الأولى لذوبان الجليد الأسود..
وقفتُ على قارعة الطريق، أتأمل ذلك الشتاء الزاحف نحوي ليلا بلا معطف، يخترق أوصالي شيئا فشيئا، و ليس ثمة من يمتطي هذه الطريق الوعرة غيري.
طالما هددني الكرى أن يغتالني ليقدمني فريسة سائغة لإحدى ذئاب (السهوب)، تلك الذئاب البيضاء السائدة لدينا في جنوب سيبريا، على الرغم أنه مسموح قانونيا بقتلها ؛ لأنها قريبة من المساكن البشرية و علاوة على ذلك فهي مهددة بالانقراض، لكن من يدري ؟ لعل إحداها يتربص بي، ولولا صفعات البرد لرقدت على جانبي الطريق حتى تصعد الشمس من مخبأها، و أخيرا برقت تلك الحافلة من بعيد.
ظللت ألوح لها حتى كاد أن يدهسني سائقها، فما إن رأني حتى ثار بوجهي : أي عاقل هذا يسير ها هنا غير هارب أو قاتل؟؟! هل جننت يا رجل؟ أم تريد الموت؟
لم يكف عن الثرثرة حتى حتى أزلت غطاء رأسي فساد الصمت؛ ربما راعه كوني فتاة أو أشفق علي لست أدري، لكنه ظل راهبا لصمته، كان يسترق النظر إلي بين حين و أخر، و كأنه يخشى أن أكون شبحا، أما أنا فكنت أراقبه عن كثب و هو يقود متصنعا الهدوء، كان شديد البنية، لا تظنه في بادئ الأمر إلا سائق في هيئة عسكرية لما يبدو على ملامحه من الجمود، لا يهتم كثيرا لذلك الصقيع الذي يغلف (كيميروفو)، كان شعره بنيا كما بدت عيناه أيضا التي تنم عن الفضول المقنع بالشفقة حيالي، بينما تخبرك تلك الأنف الفارسية و ذقنه المرفوع لأعلى أنه ينحدر من الطبقة الأرستقراطية التي تتميز بالحدة و الحزم، و جاءت تلك الشفاه الرفيعة لتؤكد حب العزلة و القدرة على التأقلم و كأنه ليس بحاجة إلى أحد، يبدو أنه ليس معتادا لوجود رفيق.
رأيته يتمتم ببعض الكلمات، لم أحسبه يحدثني حتى أوقف الحافلة و نظر إلي متأملا، ثم قال في شيء من التودد و الغضب الذي كشف عنه اهتزاز قدميه : يمكنني مساعدتك فقط أخبريني ما أتى بك إلى هنا؟ المكان هنا أخطر ما يكون، إن عمال المناجم أنفسهم لا يخاطرون بالسير فيه هل ضللت الطريق ؟ ألا تعرفين من أنت حتى ؟؟ بكماء أنت أم ماذا ؟! حاول أن يستنطقني، لكني لا أدري كيف أبدأ ؟ و ماذا أقول؟؟
تنفس الصعداء و أشعل سيجارا، كان يستنشق النيكوتين بشغف كسجين يفتقد مظاهر الحياة ،
ثم استطرد : لا أظن أنك لا تفهمينني، أشعر أنك تحملين كسورا و شروخا حطمت الكلمات على شفتيك، و روحك تريد أن تفارقك، لكن أرجوك لا تموتي في حافلتي، لا مزيد من حمل الأموات، يمكنك الصمود.
اعتدل في جلسته و أدار محرك الحافلة مرة أخرى، فما إن رأى عبراتي تنهمر حتى أطلق عبارته: دعي الجليد الأسود يذوب.
لأرى بعدها علامات الاستفهام تحلق لتغادر رأسه، و تخترق عقلي البائس كما كان حاله قبل دقائق،
ابتسم لأول مرة منذ ثلاث ساعات صمت و عبوس ثم أردف: منذ عامين افترش الجليد الأسود أزقة و شوارع ( كيميروفو) و ثارت مخاوف الناس؛ لأنهم يظنوا أنه جليد سام ناجم عن انتشار مناجم الفحم، حتى إن أحدهم قال لي ممازحا: هل هذا ما سيكون عليه الجليد في جهنم؟
و لأنني كنت نازحا من إحدى الولايات الأمريكية التي عملت بها لأكثر من خمسة أعوام اعتدت على رؤية الجليد الأسود على الطريق، لم يكن الجليد أسود كما يبدو للرائي، لم يكن سوى طبقة شفافة على أسطح الطرقات المرصوفة؛ لذا لم يكن مرئيا للسائقين و المشاة للوهلة الأولى، فكان الجليد الأسود يعني خطر الانزلاق و الحوادث.. فأنتي تشبهين الجليد الأسود رأيتك أول ما رأيتك كخطر الجليد الأسود، الشفافية تنسب لقلبك و السواد لون أحزانك الذي لطخ ذلك النقاء، أبكي، دعي الجليد الأسود يذوب، ربما يشفى قلبك و ينسكب السواد كما يفر ذلك الكحل الأسود في مقلتيك الآن...
فابتسمت ثم ابتسمنا سويا، و سألته: أتسوءك تلك العيون الهاربة من ليلة الهالوين؟
قال ضاحكا : سأتحمل كافة العواقب ما دمت لا أحمل في تلك السيارة الخربة منديلا.
لم يشأ أن يعاودني السؤال عن هويتي، لم يرغب قط في تجاوز رغبتي في ستر ثقوب قلبي و اختفى ذلك الفضول القابع في عينيه يخترق حديثنا.
كان كلا منا يعلم أنه طريق الموت، فكثيرا ما لفظت مناجم سيبريا ضحاياها على جنبات الطريق حتى إنك لتشم رائحة المنايا تحاصرك، و تسمع أصوات الأرواح المعذبة تطاردك إن لم تفر مسرعا لصرعك أحد الأشباح ليلا، إذ لا يمكنك أن تجد سائرا أبدا أو عابرا في تلك الناحية..
لكنه استبدلها جميعا بسؤال آخر على شفا من الجنون إذا كنت أود أن أرافقه حيث يذهب أم لا، دون أن يفصح عن وجهته أو مقصده، لأجدني بلا تردد أطأطيء رأسي كطفلة مدعوة إلى الخروج في نزهة، ذهبنا حيث مسقط رأسه بولاية (تكساس) والتي تعنى في إحدى اللغات الإسبانية القديمة (الأصدقاء).
في حقيقة الأمر لم أشعر بالاغتراب؛ فلم يكن لدي وطن سوى ذلك المنجم الذي نشأت فيه، لأجد أسرتي الكبيرة يراودها الاختناق و لا تعرف للشمس لونا، لا تدرك من النور إلا المصابيح المعلقة، فلم أكمل عقدي الثاني حتى شهدت مراسم دفنهم واحد تلو الآخر، إلى أن نازع حمام الموت أخي الصغير، فلم أحتمل ذلك الملاك أن يحمله ملاكا أخر، أو يقذف على الطريق لتأكله الذئاب.
شددت ذلك الوشاح الذي عُقد ليكون جبيرة بإحدى ساقيه وانطلقت لا أعلم إلى أين المسير ؟ أين المفر؟
و سرت على نهجه فلم أتطرق لخارطة وجهه، فلم أفتش عن مجرى تجاعيد عينيه التي باتت فيها آلامه لم، اتساءل عن سر تواجده على طريق الموت.
لكننا نشبه بعضنا البعض كثيرا؛ تكتسي روحنا بتلك الخيبات و الصدمات المتراكمة التي نسينا كيف نواريها، لم نعد نعبىء بها بل لما نخفيها و هذه هي عادة الوجوه القاطنة بسيبيريا؟!
لذا اتفقنا ضمنيا أن يتكأ كلا منا على الأخر، فلولا تلك الليلة العاصفة لما كنا الآن على ساحل الخليج في تكساس، و كأننا قررنا أن نغادر طريق الموت لنعبر معا إلى الحياة.
فكان أول ما أهداه لي هناك، تلك الجلسة التأملية التي أذابت ما تبقى بداخلي من الجليد الأسود.
حتى أتى ليسألني من جديد : أخبريني أين أنت الآن ؟؟ ثم اقترب أكثر فأكثر قائلا : هل لازال قلبك عالقا في ثوبه الأسود؟.