سميرةُ شابة ناضجة، ليس لها من حطام الدنيا إلا أمها، ترعاها كالأم الحنون حين تضع ولدها الصغير في المهد، فالمرض لازمها منذ زمنٍ بعيد، وأقعدها عن الحركة، فكانت سميرة خادمتها المطيعة بكل حب ووداد، فابتسامتها التي على وجهها توحي بتمام الرضا، وتدعو لها بالشفاء، ولكن عاجلها القضاء.
جاءها أصحابُ النصيب كثيرٌ وكثير، ولكنها رفضت أن تتزوج لمرض أمها فهي تحتاج إلى رعاية خاصة، فآثرت رضا أمها ورعايتها، عن أن تبني حُبها وأن تبني مع رفيق حياتها عشها، عاشت مع أمها هذه السنوات حتى استقر بها المقام إلى أن تُوفيت وعمرها ستة وثلاثون عاماُ، بلا ضجر.
لم يكن لها من الأقارب الكثير، ولكن ابن عمها وأمه جاءا ليقدما لها واجب العزاء، في شقتها المتواضعة والتي كانت من نصيبها من الميراث بعد وفاة أمها.
همس الابن في أذن أمه: يا أمي إن ابنة عمي ليس لها من أحدٍ يرعاها وإنها وحيدة في شقتها، وإنه من الأولى أن نكون بجانبها، فما رأيك أن أتقدم لخطبتها، فثارت الأم وارتفع صوتها حتى أن سميرة سمعت كلامها، فجرحتها جرحا على جرح، وألما على ألم، قالت: أتدري كم عمرها الآن؟؟ إن عمرها ستة وثلاثون عاماً، متى تتزوج؟ ومتى تنجب؟ لا يكون ذلك أبداً، وقامت الأم مغضبة وثائرة، ثم ذهبت مسرعة ولكن ولدها في هذه اللحظات التي كان عنده من المروءة أن ينقذ ما يمكن إنقاذه، وعرض على أمه هذا العرض النبيل، لكنها وقفت حجر عثرة أمام رغبة ولدها، حتى أثنته عن هذا الأمر، فما كان له عصيان أمرها، لقد كانت سليطة اللسان، غليظة الطبع، فآثر السكوت لأنه يعلم أن النهاية ستكون الضرب بالنبوت، ولم يرفع نظره من على قدمه حتى قام مهرولا خلف والدته دون أن يتكلم، والحمد لله على نجاة سميرة منهما، فقد كانت لحظة مروءة عابرة، لا تبني بيتا، ولا تشفي جرحا.
لقد كان هذا الموقف عصيباً على سميرة، التي ضحت من أجل أمها، لقد بكت كثيراً، بكت على وفاة أمها، كما أنها بكت أيضاً على حالها وعلى عدم وجود رجل يُكمل معها مسيرة الحياة.
بكت هذه البنت كثيراً وهي وحيدة فريدةٌ في شقتها، ولكنها لجأت إلى الله تبارك وتعالى ودعت في صلاتها وفي سجودها بأن يلهمها الله رشدها وأن يفك كربها، وأن يجعل لها من أمرها فرجاً ومخرجاً.
لم يكن لديها كثيرٌ من المال، ولكنها أرادت أن تلجأ إلى بيت الله عز وجل ففيه الطمأنينة والسكينة والرحمة، فباعت قرطها وأكملت ثمن تذاكر العمرة إلى بيت الله الحرام، قالت: أذهب إلى بيت الله لعل الله أن يخرجني مما أنا فيه من كرب، ويوسع لي ما أنا فيه من ضيق، فيسر الله لها زيارة بيته، فلما رأت بيت الله الحرام لم تتمالك نفسها من البكاء فظلت تبكي وتبكي وهي تلجأ إلى الله تبارك وتعالى وتتضرع إليه.
سمعت امرأة بجانبها في الحرم نحيبها وبكاءها، فتألمت لحالها، وقالت لها: يا ابنتي هوني عليك، فإنك في بيت الكريم "ولسوف يعطيك ربك فترضى"، فظلت سميرة تكرر هذه الآية الكريمة "ولسوف يعطيك ربك فترضى" مع بكائها الشديد ونشيجها الذي يقطع نياط قلبها، إلى أن هدأت وسكنت في رياض بيت الله الحرام، وظلت تكرر "ولسوف يعطيك ربك فترضى"، حتى استقر الرضا في قلبها.
انتقلت من بيت الله الحرام إلى المسجد النبوي الشريف، لتزور مسجد حبيبها محمد صلى الله عليه وسلم، ولما انتهت من زيارتها وانتهت من عمرتها جاء موعد حجزها إلى مصر، وصلت إلى مطار جدة، وركبت الطائرة وقلبها مشغول بهذة الآية : "ولسوف يعطيك ربك فترضى" وكيف يكون عطاءه وخزائنه ملآنة، وخزائنه لا تنفذ أبدا.
ركب بجوارها شاب من مصر يسمى (كريم)، ودار بينهما حديث ليقطعا به سآمة الانتظار وطول السفر، أنا هنا أعمل بالسعودية محاسب، وأنت: قالت كنت أعمل عمرة وجئت لأطلب المدد والعون من الله عز وجل، دار الحديث بينهما حتى وصلت الطائرة إلى مطار القاهرة، وأعجب كريمٌ بسميرة، وبأسلوبها وبطريقتها وبأخلاقها الكريمة.
قال: هل ينتظرك أحد من أقاربك؟ قالت: إنه ليس لي أقارب وليس هناك من أحد ينتظرني، فقال: إن والدي سيأتي إليّ ويأخذني بالسيارة، فأرجو ألا تمانعي أن نوصلك إلى بيتك، قالت لا أريد أن أحمّلكم أكثر من طاقتكم، فإن أهلك في انتظارك، كما يمكن أن أركب تاكسي من هنا، قال: إن بيتك في طريقنا، ولن يكون هناك تأخير.
ركبت معهم السيارة، وأوصلوها إلى بيتها وإلى شقتها التي كانت تسكن فيها بمفردها، ولكن كريما حينما أودعها الشقة، أودع معها قلبه، فقد ترك قلبه معها وذهب ليقضي إجازته.
مر يوم ويومان، ولكن كريم مشغول بهذه الفتاة، مشغول بها أيما شغل، لا يستطيع النوم ولا يستطيع الأكل، فقال لأبيه: أتذكر يا أبي سميرة التي أوصلناها إلى بيتها؟ قال: نعم قال: يا والدي إن قلبي مشغول بها من يومها، وإني أراها مناسبة كي أتقدم لخطبتها فعمرها ستة وثلاثون عاماً وأنا أربعون عاماً، وقد أوشك قطار الزواج أن يفلت من بين يدي ومن بين يديها.
فقال: يا ولدي إن كانت مناسبة لك فلا بأس، فقال: إنني أريد أن تأتي معي لنفاتحها ونكلمها، قال: نذهب إليها إن شاء الله بعد صلاة المغرب.
أخذ والده ووالدته معه، فطرق الباب وفتحت لهم سميرة وظاهر عليها أنها كانت تبكي وعلامات الحزن ما زالت تؤثر في ملامح وجهها، ولكن كان قلبها فيه طمأنينة وسكينة غير عادية وإن كان يظهر على وجهها غير ذلك، فهي أسلمت أمرها لله تبارك وتعالى، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان، لقد أحسنت إلى أمها، ووفت معها في حياتها وخفضت لها جناح الذل من الرحمة، فالله تبارك وتعالى يتولاها.
استضاقتهم على أكمل وجه وتنحت الأم بسميرة جانباً وقالت: إننا جئنا لنخطبك إلى كريم، فما هو قولك؟ وما هو رأيك؟
دمعت عيناها من شدة الفرح ثم قالت "ولسوف يعطيك ربك فترضى" "ولسوف يعطيك ربك فترضى" زرغدت أم العريس وقالت لها مبروك يا بنيتي، ثم أهدتها خاتماً كانت تلبسه في يدها، وقرأوا الفاتحة وتمت الخطوبة على أن يكون الفرح يوم الخميس القادم.
فكريم في إجازته يريد أن يستغلها استغلالا أمثل، فما كان منه إلا أن جهز كل شيء في شقته ولم يكلفها حتى ملابسها، قال لها: يا سميرة إنك أعظم هدية أهداها الله إلي وإني أريد أن أكرمكِ كما أكرمت والدتكِ من قبل، فكل ملابسك وكل تجهيزاتك وكل احتياجاتك هي هدية متواضعة إليك، أرجو أن تقبليها وأنت راضية النفس ولا تتحرجي من ذلك، فلقد كنا في يوم من الأيام مثلما أنت فيه، لقد كنا أحياناً نبيت بدون طعام نأكله ولكن الله سبحانه وتعالى وسع علينا وأفاض علينا من كرمه.
تم الفرح على أكمل وجه وتم الفرح على شكل لم تكن تحلم به سميرة في يوم من الأيام، سعدت سميرة بزوجها وسعد كريم بهذه الزوجة العفيفة الكريمة الطائعة لربها، وانتهت الإجازة سريعاً وسافر كريم إلى السعودية.
استأجر كريم شقة في حي الزهور بجدة، وجهزها ثم جهز أوراق سميرة للاستقدام إليه، فقدمت إليه بعد شهرين تقريباً، وجلست معه في هناء وسرور.
وفي خلال شهر من قدومها إليه أحست بتعبٍ وألمٍ في بطنها، فأخذها إلى المستوصف وكانت به الدكتورة سماح التي كشفت عليها وبشرتها بأنها حامل فلم تكن الفرحة تسعها وقالت وهي تبكي "ولسوف يعطيك ربك فترضى" "ولسوف يعطيك ربك فترضى"، قالت الدكتورة سماح: يجب عليك يا سميرة أن تأتيني كل أسبوع حتي أطمأن على حملكِ وأن نُهيئ الأمر على أكمل وجه.
فرح كريم بخبر حملها وسعِدا أيُما سعادة وقالت لكريم "ولسوف يعطيك ربك فترضى"، وعاشا بهذا الأمل، وكانت تأتي إلى الدكتورة سماح كل أسبوع حتى إذا قرُب موعد الولادة قالت لسميرة: يجب عليك أن تقيمي بالمستشفى هذا الأسبوع الذي قبل الولادة حتى تكوني في رعاية تامة وتكوني تحت ناظري، حتى تتم الولادة على خير، فالدكتورة كان لديها شعور بالقلق تجاه حمل سميرة ولكنها لم تظهر لها ذلك.
كان كريم يتردد على سميرة كل يوم ليطمأن عليها ويأتي لها بما تحتاجه ويطمأن على سميرة من الدكتورة سماح يومياً، حتى إذا جاء موعد الوضع كانت الدكتورة سماح على أتم الاستعداد وجهزت غرفة العمليات وجهزت طاقم من الممرضات، فإذا جاء الطلْق وبدأت تتألم سميرة من شدة ألم الوضع فكانت سماح تُعلمها دعاء النبي صلى الله عليه وسلم عند الولادة "اللهم يا مخلص الروح من الروح والبدن من البدن" فظلت تردد هذا الدعاء حتى إذا أذن الله تبارك وتعالى بوضع المولود فأخذته الدكتورة سماح ولفته في ثيابه الجديدة، ووضعت المولود بجوار سميرة وقالت لها: هذا ولدكِ وهي لا تملك نفسها من شدة البكاء، ولا تستطيع الحديث وما كان يُسمع منها إلا: "ولسوف يعطيك ربك فترضى ... ولسوف يعطيك ربك فترضى" وما هي إلا لحظات قليلة ثم يأتي إليها الطلق مرة ثانية فقالت الدكتورة سماح: هيئي نفسك للوضع مرة ثانية إنه التوءم الثاني، واستقبلت المولود الثاني ثم لفته في ثيابه ووضعته بجوار سميرة، وقالت: هذا توأمك الثاني، فقالت سميرة: "ولسوف يعطيك ربك فترضى ... ولسوف يعطيك ربك فترضى"، وما هي إلا لحظات قليلة ثم يأتي إليها الطلق مرة ثالثة وهي تتألم من شدة الوجع، فإذا هي بمولودتها الثالثة وتوأمها الثالث، إنها ابنتهم الثالثة، يا الله ثلاثة توائم مرة واحدة!! "ولسوف يعطيك ربك فترضى".
إن الله عز وجل هو الذي يهب "يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكراناً وإناثا ويجعل من يشاء عقيما"
متى تتزوج هذه؟ ومتى تلد!! يا سبحان الله لقد تزوجت وولدت في مرة واحدة ثلاثة توائم، كانت تحتاج على الأقل إلى ستة أعوام، ولكن الله تبارك وتعالى هو الذي يهب، فقد وهبها الله تبارك وتعالى ثلاثة توائم مرة واحدة.
وبعد أن انتهت الدكتورة سماح من توليدها والعناية بها وبأطفالها، أمسكت بيدها وقالت لها: أرجو أن تسامحيني وتغفري لي بأني لم أخبركِ بهذه التوائم الثلاثة، وأسأل الله عز وجل بأن يجعلهم توائم صالحين، فقد خشيت عليكِ من أن تتوتري، خاصة وأنه حملكِ الأول، وما زادت سميرة على قولها "ولسوف يعطيك ربك فترضى" "ولسوف يعطيك ربك فترضى"
كريم أتى ليتفقد زوجته بعد الوضع فإذا هي نائمة وبجوارها ثلاثة توائم، قال: سبحان الله ما بك يا سميرة ما هذه التوائم قالت: إن هذا هو رزق ربي لقد أعطاني ربي ثلاثة توائم مرة واحدة، "ولسوف يعطيك ربك فترضى" " إن ربي لغني كريم"
فقال: الحمد لله!! الحمد لله على عطائه، الحمد لله على عطائه، وأسأل الله عز وجل بأن يعطيكِ الصحة والعافية لأن تربيهم تربية صالحة بإذن الله عز وجل.
لا تقل متى وكيف؟، فأمره بين الكاف والنون، إذا قال للشيء كن فيكون.