أرض الأقدار
إسراء جمال
تابع الفصل الأول
في الحب والحرب كل المحظور مرجو وكل مطلب هفت إليه النفس محقق إما بقوة السواعد أو العقول، ولكن أين نبل المحاربين العظام، وأين ما سُطِّر على مر حكايا الجدات من زعامة حقة؟
فطرةٌ تدركها النفس البشرية أن اللاجئ للطعن بالظهر هو الضعيف مهما ملك من جبروت وسلطان، وأن الأعظم من انتصار المعركة هو انتصار الأنفس على طبيعتها المحبة للدماء والساعية للخراب ما ملكت القوة أو شعرت بالتجبر، لكن الأمر في تلكم الليلة مغاير تمامًا إذ حرقت المنازل، وصار العدو يزداد بطشًا كلما ازداد العويل، كلَّما لمح نظرةَ الذُّعر تطل متملكة ملامح أحدهم أو تسيطر على طفل سهت عنه أمه في زحام الفاجعة فصار ملقىً تتلاعب به أيدي هؤلاء كأنه دميةٌ غابت عنها الروح.
من هؤلاء الضخام، ومن أين جاءوا أو من أي طينة هم؟
هكذا تساءلت نفس كل منهم دونما همس عندما خمدت ألسنة النيران حولهم واشتعلت في قلوبهم كمدًا كأن معرفة العدو تخفف من وطأة الوباء، لكنهم لم يجدوا الوقت الكافي ليسألوا أنفسهم عن ماهية وضعهم أو عن مكان ملكهم الذي تغنى بالحماية والدِّفاعِ عنهم وإن كلف الأمر روحه، فبعدما نكلوا بهم هرعوا إلى القصر وإذ به خالٍ من حياة، ونادى قائدهم كريه المنظر رديء الصوت في الناس بنبرة سوء تمتزج بالشؤم:
_ اسمعوا وعوا، إنَّا حكامكم منذ اليوم وليس لكم عندنا سوى العراء من مسكن، إن أردتم أماكن للسكنى بنيتم لأنفسكم بيوتًا من طين الأرض، زرعكم ونتاج ما نبيع من صناعتكم وحرفكم لنا منه الثلثان ولكم الباقي لأجل أن تقدروا على خدمتنا ولكم من الماء حصةٌ توزع عليكم أول اليوم، ثمَّ سكت هنيهة وابتسم متشفيًا وقال:
_ إياكم والظن بأنكم تقدرون علينا أو قد تجابهون معشار ما أوتينا من قوة، ولا تأملوا النجدة فإننا قوم لم يغلبنا أحد.
وفي أعينهم ارتسمت جلية نظرة عدم الإدراك مما جعل فمه المقزز يزداد تبسمًا _إن جاز التعبير عنه بذلك_ وظل يتأملهم لردح من الزمان ثم زأر بأعلى صوته آمرًا حُرَّاسه أن يشرفوا على عمل القوم، عليهم أن يبنوا المنازل من طين وإلا أقيم لهم أخدود لم يتخيلوا اتساعه وسطوته ليلقى فيه صغارهم جميعا، وبدأوا يسوقون بقايا الناس ضربا وشدًا بل قتلًا لأنفسهم الشريدة.
ساروا كأنما قبضت منهم الروح، جماعات خامدة تسعى لتنهي ما أمرت به اتقاءً للبطش، واستمر الأمر على ذلك لأيام تساقط خلالها الكثيرون وألقوا من فوق تل " الزيف" فصاروا سرابًا كأن لم يكونوا، ومُحي كل أثر لهم من أذهان البقية، وبعد إجهاد أشرف الجميع بسببه على الموت انتهت المهمة وشيدت المنازل من جديد من طين الأرض المشبع برائحة الخزي، ومن حنكة السجان أن ترك للجميع يومًا للراحة بعد أيام العذاب فهرعوا يلقون بأجسادهم المنهكة كل على أرض ما يدعى "منزله" ليغطوا في نوم عميق، ومرت الساعات كسنة النوم وصحا البؤساء ويا ليتهم ما قاموا، لا يدرون كيف تبادرت لذهن أغلبهم لحظة الاستيقاظ اليائسة أن يلقوا بأنفسهم من وادي الزيف ولكن الأمر محض هراء، هؤلاء المسوخ يحيطون بهم من كل جانب، يعدون عليهم الأنفاس ويتحينون فرصة لمزيد من الفتك، ولا مفر.
في بقعةٍ كتلك حيث لا وجود للديكة التي تصيح معلنة مجيء يوم جديد، ولا حساب للزمن إلا من خلال قرص الشمس، في أرض هادئة وشبه منعزلة عما يجاورها إلا قليلا كان من الغريب تمامًا أن تتتابع كل تلك الأحداث المروعة محدثةً كل ذلك الارتباك لأهل المدينة.
" لست أدري ما بال العالم يأبى أن يذيقني حلاوة لحظة واحدة مكتملة دونما أن يتبعها حزن أو أسى، كأني من هؤلاء الذين قدر لهم أن يلمحوا الفرح بنظرة خاطفة لا تروي النفس ليعلموا أن شقاء الأحزان قادم لا محالة، وأن نفوسهم الشقية ستظل تتمنى أن تتملكها ولو نطفة من فرح فتغيبها عن العالم ولكني شقي طبع على جبيني مذ ولدت أني لن أذوق النعيم، والآن ما هذه الكارثة التي هبطت على رؤوسنا دونما هوادة؟
ألا يكفي المرء وحوش نفسه الكاسرة التي تلتهمه حتى تتواطأ معها أخرى على أرض الحياة، وإن كانت وحوش النفس أشد فتكا وأسوء حربا وإنما يكفي المرء أنه يخوض رحلة يتعرف فيها إلى ذاته بل وإلى العالم من حوله من خلال صراعات نفسه التي تتراقص وتيرتها بين خمول وهياج، ويتبدل موقفها بين السلام والهرج ليصل في النهاية _وإن لم يستقر على جانب_ لنظرة أوسع وأكثر تفهما للحياة من خلال نفسه على أن النفس قد يغلبها المرء وتغلبه بيد أنه دوما هو المنتصر بالنظر إلى النتائج.
إن تلك الوحوش الكريهة لا أظنها سوى انعكاس لمخاوف كل امرىء في هذه الأرض، ولكن كيف يكون الخلاص؟
إن أحدًا منهم لن يساندني لأجل محاربتهم، وهم على جبنهم محقون في ذلك فمن ذا الذي يقاتل وحشا ضاريًا ببضع إيمان وجسد هزيل؟!
لا بد أن هناك علامةً أو مُعينًا حتى على فهم ما يجري، لابد من معرفة كنه هؤلاء وما دفعهم لاقتحام أرضنا ووسيلة هزمهم أو حتى جلائهم عنا.
هكذا حدثته نفسه بعدما أفاق من ذهول تغشاه إثر المفاجأة، وسرعان ما تذكر واسط وعاتكة والشيخ سالم وأراد أن يستطلع أنباءهم ولكن كيف وهو منفي وحده لا يدري أهي نقمة أم منحة، ولا أي تدبير هو الذي أصابه بالأرق الذي قض مضجعه وجعله في هذا اليل القاتم يمتطي ظهر فينان ويسابق حزنه وآلامه التي لا ترحم ليكون بعيدا تمامًا عن كل ما قدر للقوم أن يصيبهم، أتراها الفرصة قد دقت بابه وتنتظر منه إظهار البطولة أم ترى كل هذا محض عبث وأنه سينام ويصحو ليعرج على واسط وينهل من تجارب الشيخ سالم؛ مريحة هي تلك الخاطرة لكنه أوقن أتم اليقين أنها محض هراء وأن عليه الآن أن ينحي كل هراءات عقله ويفكر في هذا الهراء الأكبر والمصيبة التي حملها على عاتقه بحكم ما ساقته إليه الأقدار، ولكن كيف يفعل كل ذلك وحده بقلبه المثقل بالفقدان وتأملاته التي تفنيه الواحدة منها آلاف المرات.
نظر إلى فينان مطولًا يتأمل ثباته، وحده من أصر على البقاء في زحمة الراحلين عنه، التاركين إياه لتفترسه أنياب الوحدة والآمال التي لم يعرف سبيلًا لتحقيقها يومًا، فينان هو الوحيد الذي يدعم روحه في جميع اللحظات التعسة وما توانى يومًا عن الوجود والدعم فهو وإن لم يعرف الكلام ففي حنانه وصحبته سلوى عن كل الملمات، أترى يكفي الإيمان بفينان ودعمه لخوض غمار هذا الأمر الذي يثقل النفس؟!
ها هنا لا توجد رفاهية الاختيار إما أن يشد رحال العزم أو أن يبقى شريدا طوال الحياة، مستعبدا هو وقومه الجبناء من ضخام البنية، عديمي الإحساس، كريهي الرائحة، وليستطلع الأمر هناك بصورة كاملة عليه أن يصعد "جبل العزم" فهو وحده يطوق المدينة ويظهر ما فيها بدقة هو الآن في أشد الحاجة إليها.
كان عليه أن يخفي فينان في مكان بعيد تحسبا لحضور أحدهم ولأنه خبير بكل حجر في المدينة فهو يعلم بوجود كهف قريب من جبل العزم يندر أن يعلم أحده عنه فسار بصديقه إليه، وربت على ظهره ونظر إليه بعطف يمتزج بالخوف وبصوت يتأرجح بين الثقة والاهتزاز مال على أذنه وقال:
_ فينان، إن الأمر صعب يا صديقي وإني أخشى تمامًا أن أتعرض لمرارة فقدك فكن هادئا ولا تنس أنك جواد أصيل، وإياكَ أن يصيبك مكروه فإن الطريق لم يبدأ بعد، سأذهب لأستطلع الأمر فالرؤية حال حضورهم من مسافة بعيدة لم تكن كافية وبمجرد أن أنتهي نقرر ما سنفعل وإلى أين نذهب.
لا يدري كيف طاوعته نفسه المترددة بأن يخوض هذه التجربة، ولا السبب في عدم هروبه وترك الجميع لقدرهم، أتراهم الأحبة يجعلوننا قادرين على بذل ما لا نستطيع عادة واكتشاف ما لم نظن يوما أنا ملكناه؟!
الأمر شديدٌ على نفسه خاصةً مع جرحه الذي يزداد اتساعه بالنفس حينا بعد حين وكادت الوساوس تهزمه لولا تلك القوة التي تملكته فجرأته على طرد اللامبالاة واندفعت بداخله نيران النبل لتبدأ في إحراق عشب فقدان الأمل وتبث الحياة في بذرة العزم التي كادت أن تجف.
وبحسب ما تناقله الأجداد وأثبتته التجارب فإنه للتمكن من صعود الجسر يجب على المغامر أن يحسم أمرا علق في الماضي بسبب ضعف العزم أو أن يعقد النية على خوض أمر تردد في فعله بسبب ضعف الإرادة وإلا فلن يستطيع الصعود وإن صعد فإن الجبل يهتز من تحت قدميه فيرديه قتيلا لذا كان واجبا التأني والمراجعة فكذبة واحدة قد تودي به وكلمة واحدة قد تكون الأخيرة فبدأ يراجع عقله ويهادِنه حتى تذكر ذلكم الهدف الذي لم يتحقق أبدا بسبب ضعف نفسه؛ لطالما عزم مرات ومرات على عبور البحر وإن استحال ذلك وعلى الرغم من أنه يحبه ويبثه همومه إلا أنه دوما يخاف من غدر أمواجه ودقائقه، لا يعرف لذلك الشعور سببا لكن نفسه تنقبض كثيرا بمجرد التفكير في الأمر فقد كان يخشاه دونما اعتبار لكونه صديقا حميما، من الجائز أن يكون ذلك لرهبته الشديدة من التوسع في الأمور والخوض في تفاصيلها ولكن المؤكد أن الأمر معقد كثيرا لدرجة أنه ظل لسنوات يحاول كسر أجزاء ذلكم الحاجز، وما تفتت منه سوى القليل.
أغمض عينيه يستعيد نفسه، يتخيل متعة الرحلة وروعة الوصول منبها نفسه لكثرة الصعاب، فكر بالتراجع كثيرا ولكنه انتهى دونما أن يدرك السبب، رفع جفنيه كأنما يزيح ثقلا شديدا ونظر للجبل متمتما:
"إن الأمر أبسط بكثير مما قد يبدو عليه، وإن كل هذا سيصير لحظة خاطفة من الماضي"
وبدأ التسلق محاولا السيطرة على ما يحادثه به عقله من مساوئ، بدأ يرتفع شيئا فشيئا ثم يتوقف لينال جسده بعض الراحة وعقله بعض السكون، وبعد أن قطع منتصف الطريق اختل توازنه قليلا وكادت أن تزل قدمه، وها هنا سيطرت عليه رغبة الاستسلام وحادثته نفسه:
" إن الأمر لا يتطلب سوى أن تتمرد، أن تدع الموقف البطولي وتفكر بما قد يؤول إليه حالك، إنك شاب عفي ولن يصعب كسب الرزق ولا جني المال، وإن معرفة الناس غير مرتهنة بالمكان إضافة لكون أغلب البشر ينتابهم الفضول حول الغرباء وليس أفضل من الفضول المقنن بذرة لجني ثمرة الألفة والتخفيف من حدة الغموض، ثم قل لي ماذا قد تصنع يداك العاريتان الملطختان بالضعف لك أو لهؤلاء البؤساء؟! "
ولكن صوتا ما تردد صداه في نفسه ليحثه على إكمال المسير وكبح جماح كل الوساوس بيد أن الأمر أصبح مربكا للحد الذي جعله يفيق من غفلته ويحاول استعادة توازن جسده ونفسه فثبت قدميه وجعل يديه تتمركزان في وضع يسمح له بالحركة وتابع قليلا حتى وصل لركن يستطيع فيه أن يجلس ليريح جسده وبمجرد أن لامس ظهره تراب الجبل سيطر عليه الإرهاق وتكالبت عليه جنود النوم وثقل الجفنان وأخذته سنة لم تكن بالحسبان ورأى فيما يرى النائم قبسا من نور يقبل عليه وحين اقترب إذ بها أمه تبتسم كطفل وليد وتمد يمناها لتمسح على رأسه، كان خائفا مضطربا فنظرت إليه نظرة عوضته كل ما فقده من حنان واحتضنت كفيه وقالت:
_ ما بالك يا ولدي، إن صبرك هذا وإن أخفى الكثير إلا أن قلبي قلق ونفسي متطيرة وإنك يا صفي قد ألهتك دنياك فقعدت عن البحث عنا، أهان عليك فراق أمك يا ولد؟!
فأجاب والدمع يخنقه:
أنا ثقيل يا أمي وآلام منتصف رأسي تتزايد ودمع العين جاف، أنا ثقيل القلب، ملئ بالدموع التي لم تذرف، وحسبك منها سبيلا للهلاك، تتداعى ملامحي الداخلية رويدا رويدا لتسقط بي في براثن جب سحيق، فيه الكلام والضجيج والناس كثيرون، والوحدة قاتلة!
فأجابت ببسمة المجرب وإشفاق المحب:
_ هي الحياة يا ولدي، تارةً تُراقِص قلبك بغنج وأخرى تذيقه الويلات وبين هذا وذاك كلنا مسيرون، والأمر المجاني لدى الجميع هو الأنين لذا حسبك من وهنٍ يحبس روحك عن بعض متع الحياة حتى وإن كنت حانقًا عليها.
وتابع هو كأنه لم يدرِك حرفا مما قالت:
_المثير في الأمر أن داخلي لا يكف يتداعى وتنبئ أسناني بسمة بسمة عن ضحكة تلوح في الأفق كأنها الجسور فتبرز تجاعيدًا سعيدة، ووجهًا مزركشًا بالبهجة وعلامات الشباب ودم القلب الذي يقبل الربيع حتى في غير موسمه، وأمان تلامس النجوم، وأنا ها هنا أصفق بحرارة.
قالت هي في حنو وعيناها ترقبان دمعاته المتمردة:
_إن كل ذلك يا ولدي يثبت أن ما زُرع فيكَ قوي الأصل شديد البنيان، لا تقتلعك أعتى الرياح ولا يرديك الطوفان، ولو وجدتَ مصابًا في نفسك أو قلبك فإنه وسيلة لتقوى وإن عجزت عن إدراك ذلك وإن كل عقبةٍ في الطريق هانت أو عظمت هي سبيل ليشتد عودك وتقوى نفسك.
تابع محاولًا أن يكفكف دمع روحه:
_ إني أرقب المشهد يا أمي بعين الخبير دون اغترارٍ بالظاهر، أو قتلٍ للحقيقة الغضة، عساها تكون سخرية المجرب تطغى على يقين الواثق فليكن، كدليل على الروح الخربة التي أجرجرها كل يوم في طرقات الحياة سعيًا وجهدًا وعملًا وحبًا وتعود آخر كل طريق صفر المادة والمعنى، وبلا عزاء ينتصب ليخفف عنها ولا محبة، تعود لتسكن الجسد العاري دونها، والسقيمة دونه، والبائسان معا عن كل ذرة حب، أو مقام ود صادق ينالانه لدى أحد فيبذل تجاههما ولو القليل.
وهنا امتدت يداها لتجذبه تجاهها محتضنة إياه بحنان وقالت بهمسٍ شديد:
_إن الألم يا ولدي ليس وسيلة للقتل وإنما هو أشد سبل الحياة قوة إذ يطرحك جريحا لا تقدر على تحريك يديك ليعلمك أن القوة لا تدوم مثلها ككل ما في الحياة فيورثك التواضع ويمسح على قلبك بسماحة تفيضها على الخلق، إن العالم متكدس بموتى يظنون أنفسهم على قيد الحياة وقد عدموا ما قد يحييهم من أمل.
_ ولكني وقلبي مستبعدان، ملازمان لصرخات الجميع، منفيان آن الفرح ودموعه المالحة على عذوبة الأمل، وبريق عينين شعر صاحبهما أنه ها هنا كل شي، أنا ثقيل وراض بل إن كل ثقلي هو ما يبعث الحياة في روح كللها الإعياءُ وناداها الموت الذي تقبل عليه تارة وأخرى تستسلم لمطر يزهر الطريق فتنبعث أشعة الشمس ورغبة الحياة ليسقيا كل ولهٍ لها، ولكني دائما أسير بثقلي، أحملني على كفي ولا أفعل سوى التفكير في الإفلات..
انتابها الصمت للحظات كأنما تتقوى لتخفف عنه ما أصابه ثم شددت من احتضانه وقالت بصوتٍ واثق:
_ إن الألم مفراقٌ يا بني بين صاحب القوة ومدعيها فقلما تجد من يُضمِد الجرح ويقف صامدا ليتابع المسير، والحياة على قسوتها تبش أحيانا كأنها تَرفقُ بمن أخذها على محمل الجد، أما عن الغياب فما ضررني أن بقيت جوارك أتنعم بحسن طلعتك ولكنه الداعي الذي لا يُرد نادى فأجبت.
_ولكني اكتفيت وأمات الشوق في روحي ما لا يمحوه نعيم الحياة مجتمعا، لست بالجاحد يا أماه لأنسى وأنتِ أعلم الناس بي، إني أناجيكم كل ليلة متوسلا أن تعودوا، ولكنكم مذ هجرتم كفَفتم الروح عنا قبل السمع فلم ننعم بلقاءٍ عابر ولا عودةٍ تُسكِنُ بعضا من أنين.
وتوقف بعدما أنهى بعضا مما فك عقدة لسانه وباح ببعض من مكنون صدره فأخذ يشهق ويزفر ليخفف عن مجرى تنفسه ما مر به من نزال، ونظر إليها فوجدها على حالها تزداد بسمة وتشع نورا واقتربت مربتةً على كتفيه:
_اعلم أني لست ببعيدة عنك وإنما أنا لك يا ولدي كالوطن، وأنت أحد قلة قلوبهم هي الوطن وأرواحهم هي الأمان فامض ولا تجزع، واعلم أن ما هو آتٍ أشد مما مضى فلا توسْوِسَن لك نفسك بالتقهقر ولا تغرينك بالاستسلام لأجل صعوبة المخاطر، قد زرعتُ فيك يا ولدي أن الحياة كفاح فاسْع لتنال مجدك الذي لن يكتبه سواك
مضت باسمة وأخدت معها كل ذرة ضوءٍ فأعتمت الدنيا بعينيه من جديد واستفاق تعلوه الدهشة، لا من زيارة أمه وإنما من حديثها الذي مال على جراحه يطببها، إنه سعيد فهي تحدثه لأول مرة رغم تعدد الزيارات، امتلأت نفسه بالأمل، مددَ ذراعيه ورفع بصره للسماء، كان الجو صحوا؛ السماء صافية رغم سوء الحال وسربٌ من طيور يحلق عاليا، رآه على ضعفه قويا بتمرده، عظيما بعلوه وفكر قليلا هل بإمكان العزم أن يعلي من شأن المرء ويصبغه بقوةٍ لطالما عدمَها، وهل تلكم الطيور تدرك ما سيَعرُضُ لها من صعاب؟!
وسرعان ما تذكر قول الشاعر:
_ لا بِقَومِي شَرُفْتُ بَلْ شَرفُوا بِي .... وبِنَفْسِي فَخرْتُ لا بِجُدُودِي
فقام يكمل التسلق وبعد جهدٍ وطول نضال وصل بغيته فاستلقى على بطنه يستطلِعُ الحال، وجدا القوم ضخاما، طوال القامة كأشجارٍ شامخة والقبح سمةً طاغية كأنهم خرجوا من رحم أقبح ساحرة، رأى القوم يعملون بالزراعة والحرث وسرعان ما كانوا يهبون لعقاب من يتراخى منهم والأخدود قائم يلقى فيه من يحاول الرفض أو التمرد، حاول البحث عمن تظهر منه علامات القيادة ولكن دون جدوى، ووجد النساء تتردد على القصر حاملاتٍ للطعام وماء البئر فأدرك طبيعة الوضع، وأسف على حال عاتكة التي صارت إحدى الجواري بعد أن عززها أبوها الذي يهمل الآن تحت وطأة الرعاع، ظل لساعات يراقب، يتلمس جديدا ولكن دون فائدة، الوضع كارثي وعلي طلب المساعدة ولكن من ذا يصدق شريدا دون أهله خاصةً بعدما انتشر من أنباء عن العصابات الناهبة للقرى، وتلك القرية التعسة أَنَجَتْ منهم لتُبلَى بالأفظع!!
سيطر عليه التفكير حتى كاد يودي به؛ البحر يحيط بالمكان وهو لا يستطيع المغامرة بإلقاء نفسه وسط وَكْرِهمْ لجلبِ مركب فحتى وإن حالفه الحظ للوصول مؤكد سيلفت الأنظار عند عودته كما أنه لا يعرف مخرجا آخر، راحت الأفكار تتراقص في عقله ثم تنهدم على منطق الاستحالة، وابتسم فجأة حين تذكر حديثا له مع الشيخ سالم عن القرية وطبيعتها، وقد بادره الشيخ قائلا:
_ إن الطبيعة هنا رائعة، وإن اجتماع البحر والجبل هيأ لنا مناخا رائعا للعيش، أما عن السماء فأظنك أعلم بروعة نجومها مني، ألم تفكر في الخروج من هنا يوما يا صفي ولو على سبيل الارتحال؟!
عفوية سالم شجعته على التبسط في الحديث فابتسم صفي قائلا:
_ لم تدعُني الحاجة يوما لذلك ولكني لا أنكر أني فكرت في الأمر كثيرا وكنت أنتهي باليأس لعلمي أنه ما من مخرجٍ سوى البحر، ولست من مُحبيه.
_ ماذا إن أخبرتك أن هناك سبيلا آخر!
هكذا أجاب الشيخ بسلاسة، وصفي يحاول الحفاظ على ثباته فأكمل الشيخ:
_ هناك، عند أحد أطراف القرية يوجد مخرج آخر لا يتصل بالبحر ولا أحد يعرفه، كنت قد اكتشفته منذ سنوات أثناء عزلتي بعيدا عن ضجيج القرية، الأمر غريب يا صفي ومحير، كيف نعيش هنا كل هذه السنوات ونُجبر على عدم الخروج؟!
وما العلة في كون من يخرجون هم حاشية الملك وأهله؟!
هل كُتِب علينا النفي أم أنَّ الملك خشي من رحيل رعيته بلا رجعة؟!
إن في الأمر شيئا مريبا يا صفي وهو ما تأكدَ لي حين عبرت للطرف الآخر، فدعني أقص عليكَ ما رأيت وليكن الأمر بيننا.
ويا ليت عاتكة ما حضرت حينها تستدعي سالم لإحدى الضروريات فينتهي الحديث وينشغل الشيخ ولا يحين موعد آخر للخوض فيه لا لشيء سوى لإجلال صفي للشيخ الذي أسكته خوفا أن يكره عليه سؤاله.
وأدرك أن الهام في الأمر هو وجود مخرج وأن عليه الآن أن يبحث عنه في حذر وحكمة لتقع يدُه على طرف الحل فتهدأ نفسه قليلا ويعرف ما سيفعل، ولأن صعوبة الهبوط أقل من الارتقاء شرع في ذلك وعقله لا يكفُ عن الحديث، كان وجهه شاحبا تُلمَحُ عليه أمارات التيه وعيناه بهما بعضٌ من زيغِ وحركاته ثابتةً تعرف طريقها ولا تحيد عنه، ولا يدري كيف منع تفكيره من أن يُشتِتَ انتباهه أثناء هبوطه لكنه عزى ذلك لبعض اطمئنانٍ تسرب لنفسه إثر ما تطرق إليه، وعاد قلبه لشدة الخفقان حين لامس الأرض خوفا على فينان خاصةً أن صعود الجبل لم يستغرقه من الوقت القليل، وبقلبِ وجلِ وعينٍ يهاجمها الاضطراب أسرع في حذرٍ إلى حيثُ فَيْنان كفقيد أمه الذي استردها بعد طول فقد، ومن عساه يُخبرُه هذا الشعور سوى نفسه، لو أنَّ للحصان لسان لدعاه أن يكف عن العاطفية أو لعله يساعده في تبديد وحشة روحه كما يفعل الأصدقاء!!
ولِما بينهما من تفاهم أدرك صفي شعور فينان بالجوع ولاحظ عليه ذلك، الآن عليه أن يجد مكانا ليتناول فينان ما يعينه على طول الرحلة وتتقوى روحه هو ببعضٍ مما تنتجه الأشجار أما عن الماء فسيبحث عن نبع ليرتويا إذ هو عازم على السير بكل شبر في القرية خاصة الحدود ليبدأ رحلته العجيبة.