Horof

Share to Social Media

ملف الجرائم
منال عبد الحميد



نهض تاركًا بقايا غدائه على مائدة الطعام، لقد حرص على أن يتناول وجبته في غرفة المائدة، مصرًّا على أن يتبع نظامه الصارم حتى النهاية، إنَّ كلَّ هذه الدماء -المتناثرة هنا وهناك- لن تجبره على أن يتصرَّف كهؤلاء الأشخاص وضيعي الأصل، الذين يتحججون بأية مناسبة تافهةٍ ليخرجوا على أي نظام، وينتهكوا أية قواعد؛ لقد أعدَّ طعامه كذلك، وهو أمرٌ لم يكن منافيًا تمامًا لأساسيات السلوك التي اختطها لنفسه منذ حداثة سنه، لقد عوَّده والداه على الاعتماد على نفسه؛ حسنًا فعلًا، فقد أفاده هذا الدرس الصغير وجعله لا يحتاج إلى أحد، وهو يقلي شرائح اللحم ويسخن الخبز، ويجهز سلطة الكرنب الخفيفة، لم يعُزه شيء، وجبةٌ متكاملة وإن كانت غير صحيَّة تمامًا؛ سوف يراعي أن يقلل الدهون في طعامه بعد ذلك؛ فصحَّته تستحق منه قليلًا من العناية؛ لكن.. يا للعنة! إنه لم يعتد أن يقوم بمهام التنظيف المنزلية ولا يعرف كيف يؤديها بطريقةٍ مرضية؛ ولذلك فسوف يترك كل شيءٍ في مكانه ببساطةٍ، إن هذا هو مبدؤه الأول في الحياة (أفعل الشيء على أكمل وجهٍ، أو اتركه لغيرك ليقوم به)!.
حسنًا سوف يدع مهمة التنظيف الصغيرة لغيره، لرجال الشرطة حينما يقتحمون المنزل، للجيران إن كان لديهم قدرٌ معقول من التعاون وحسن التقدير ، لعابر سبيل سيء الحظ وحسن الذوق يكتشف الأمر، ومن ثمَّ يشمِّر عن ذراعيه ويكلف نفسه كجنيَّة (سندريلا) الخدومة بترتيب الأمور دون سابق دعوة؛ لأرواح أسلافه يحتمل، أو حتى ربما تنهض زوجته وأمه المولعتان بالتنظيم والترتيب والتنظيف مثله لتكملا المهمة، ومن ثمَّ تعودا للرقاد ثانية في بركة دمائهما!.
أخيرًا ألقى نظرةً راضية على المكان من حوله، لن يحتاج إلي أغراض كثيرة، والفوضى التي خلفها وراءه تكفي سلَّة قمامةٍ صغيرة لتداركها، مسح فمه ثانيةً بحرص في فوطة الطعام؛ ثم طبقها بعنايةٍ ووضعها بين طبقه والشوكة على طرف المنضدة، تمامًا حيث يجب أن تكون، ثمَّ جفف يديه، رتَّب ثيابه وعدَّل من هندامه، وتفحَّص نفسه بحرصٍ ليتأكد من نظافته وحسن هندامه، ثم غادر المنزل مخلفًا وراءه بقايا وجبة غداءٍ صغيرة على المنضدة.. وأربع جثثٍ طازجةٍ نازفة متناثرة حول المكان!.
من خلال فتحات السور راقب الغلام وهو يركل الكرة بقوةٍ تستحق الإعجاب وتثير الحسد، كان للولد ركبتان قويتان ورثهما -غالبًا- من جدِّه لأبيه، وعزيمة لابد -بكلٍّ تأكيدٍ هذه المرة- أنَّه أخذها مباشرةً عن أبيه، الرجل الذي يقف خارج حدود الملعب المرتجل يراقب ابنه يدفع الكرة ويتلقفها بطريقةٍ توحي بأنه سيكون لاعب كرة قدمٍ عظيم في المستقبل، أو ربما بيبسبول أيضًا، سوف يكون (جون) ناجحًا في الحالتين، إلا إنَّ هذا لن يغير من الأمر شيئًا، إنه يترك أطفاله لقمةً سائغةً وغنيمةً باردة للشيطان.. لقد صنع نفسه بنفسه،كوَّن ثروةً صغيرةً وحقق أحلام عائلته، وطموحات والده؛ لكن أحدًا ما لم يتوقف للحظةٍ لكي يتساءل: وما هي طموحات السيد (لست) نفسه، وهل تحققت أم لا ؟!
إنَّ القوة التي تدفعك لأعلي، هي نفسها التي تعرقلك عن النظر تحتك لكي ترى أية خسائر ضحيت بها في طريقك الوعر الطويل، لقد صنع حياةً مريحةً لطيفة لعائلته، بيتٌ كبير بغرفٍ كثيرة ومرافق كاملة، كل الكماليات التي حلمت بها (هيلين) حينما كانت تتمتع بكافة قواها العقلية، وتعرف كيف تحلم وتطلب وتصرُّ على مطاردة حلمها حتى تتمكن من الإمساك به؛ لكن لم يعد لـ(هيلين) أية صفة من تلك، لقد تسلل الشيطان إلي عقلها، قادها الزهري إلي سبيلٍ صارم منعزل، وجدت نفسها وحيدةً في مفترق طرق وتقطعت بها السبل، بينما زوجها بعيد، بعيدٌ جدًا، فلم تستطع أن تعود من كل تلك المتاهة المتشابكة إلا بعد أن ضاع منها الخيط وسقط منها المفتاح في مكانٍ ما، بلا خيط ولا مفتاح عادت وحيدةً فاقدة رشدها، بلا خيطٍ تضم به أسرتها إليها، وبدون مفتاح لتفتح به لنفسها وللآخرين كل بابٍ مغلق ومصفَّدٍ بالسلاسل تقابله في وجهها، صارت الحبيبة زوجةً، وصارت الزوجة أمًّا، وصارت الأم عمودًا للبيت، ثم صارت الحبيبة والزوجة والأم وعمود المنزل عبئًا على الجميع، على نفسها قبل الجميع .. كيف يتصور أحد أن (جون لست) خادم الرب الفقير، بإمكانه أن يتحمَّل كل هذا بمفرده؟ !
الرهن العقاري ومضاربات البورصة، (بابل) الجديدة الفائقة القدرة على سلب الناس مقدراتهم وأموالهم ومدخراتهم :
جلا: أنت الآن تملك كل شيء !.. جلا جلا : أنت الآن مفلسٌ على قارعة الطريق !
بمَ يُقدر شر الكهنة والسحرة، وطابخي ترياقات الشر القدماء، إن هو قورن بشر أباطرة البورصة ولصوص أسواق المال؟!
هه، إنَّ الربَّ لم يخلق شرًّا أبدًا؛ لكنَّ الإنسان فعل، والإنسان قد يكون شرًّا خالصًا، أو قد يكون هدفًا لسهام الشرِّ، إنه وعائلته ليسوا أشرارًا ؛ لكن سهام الشرِّ تلاحقهم، والخراب يتربَّص بهم، أيُّ بلاءٍ أعظم من أن تفقد كلَّ ما جهدت لتحقيقه وجمعه في لعبةٍ صغيرة صفيقة بلا قواعد، يلعبها رجالٌ لا ذرَّة شرفٍ لديهم؟! حتى الجنون والذبح والقتل والتنكيل؛ حتى الموت نفسه، لا تعادل هكذا شرٍّ ولا تدانيه!.
استمرَّت المباراة عشر دقائق إضافية، يجب أن يسجل كل فريقٍ في مرمى الفريق الآخر حتى تهترئ شباكهما، ويحك إنها مباراةٌ وديةٌ يا رجل، وليست بطولة كأس العالم، إنهم شبابٌ يلعبون، رجالٌ صغار يمرحون ويقصفون بفرحٍ وصخب، معظمهم لديهم آباء يحملون الصخرة -كبروميثيوس- على عواتقهم لينطلق أولادهم أحرارًا محلولين من كل قيد وكل حبلٍ يغلهم ويعرقل حركتهم، لقد تلقى (جون) الصغير تربيةً حسنة، جرَّب كل شيءٍ باعتدالٍ، وتزمُّت أبيه الديني لم يصنع طوقًا من حديد حول عنقه؛ فقط جعل الأسرة تبلل أقدامها بالخمر الجيد والطعام الطيب والرفاهية المعقولة، دون أن تغرق في مستنقع الشهوات، ودون أن تنجرف خلف تيار حياةٍ صاخبة، حتى يُلقي بها الموج على شاطئ مهجور عاريةً ضائعة، لا أحد من أولاده يدخن بشراهة أو يتلقى جرعاتٍ غير معلومة المصدر؛ حتى علاج زوجته معتدلٌ ومقبول -والحمد لله - ككل أنواع الأدوية، لا يؤتي بأية ثمار ، الربُّ وحده هو الذي يمنح المسحة الشافية، ويبعد الأدواء ويخلص الأبدان من متاعبها، والربُّ وحده يتفهم مشاعره ويقدِّر أحاسيسه في تلك اللحظة، وهو يجد نفسه مجردًا من قوة الأب وضعفه في نفس الوقت، فقد مصدر دخله الذي كان يعطيه القوة والسيطرة، ولكنه لم يصبح والدًا عجوزًا فقيرًا مسنًّا مستحقًا للشفقة والعطف، صار بين الحدَّين المسننين، لا يستطيع أن يستمر في ممارسة قوته، ولا يعرف كيف يعرِّض نفسه أمام أسرته في صورة الرجل المستحق لكل عطفٍ ودعمٍ ومساندة، لم يجرِّب إحساس التضاؤل والحاجة للعطف أبدًا، لم يطلب العطف أبدًا فلم يحصل عليه أبدا؛ حتى الأبوان الصارمان كانا يتعاملان معه كرجلٍ مُدرك، منذ أن درج على الدرب ماشيًا ممسكًا بيد الأم -خشية السقوط والتحطًّم- كلعبةٍ خشبية مطلية بغراء قاسٍ يحفظها، بينما قلبها هشٌّ متآكل، لكن على أية حال فاللصاق قوي بما يكفي لكي يقاوم حتى وصولهما إلي البيت،(جون) الأكبر و(جون) الأصغر، وهناك لن يكون أحدهما بحاجةٍ إلي قناعٍ زائف أو تصنُّعٍ؛ فالبندقية والبلطة تنتظران في البيت، ومن لديه بندقيةٌ مطيعة وبلطةٌ ماضية لا يحق له أن يقلق على المستقبل، لم يكن (جون الأصغر) قد فطن لوجود والده في الجوار بعد، استغرقته اللعبة تمامًا، فسنواته الخمس عشرة كانت تفور في عروقه مطلقةً طاقةً هائلة تدفعه دفعًا إلي المنافسة ومحاولة إثبات التفوق والجدارة، راح الغلام يسدِّد هدفًا وراء هدفٍ، يركض خلف الكرة ،كحلمٍ صغير يرمي إلي تحقيقه، وكلما نالها بقدميه ودفعها لتضرب وجه حارس المرمى المغلوب على أمره، أو تمرق بجوار أذنه مصفرةً كرصاصةٍ طائشةٍ، وتستقر في قلب الشبكة، كان يشعر بأنه يصنع يومه حقًا .
كان العالم يمور ويفور ويقذف الشرر في تلك الحقبة الشريرة، (السنوات الخاطئة) كما كان يسميها أبوه؛ لكن هل يزيد الشر والخطأ في نظر شابٍ صغير -لم يخسر نعيم الطفولة كاملًا بعد- عن فكرة تدخين سيجارةٍ في الحمام؟ أو مواعدةٍ صغيرةٍ مع فتاة مدرسة بملابسها الرسمية، في ظلال شجرةٍ مختبئين عن أنظار العالم؟ أو تصفح بعض الصور الخارجة في مطبوعةٍ رخيصة؟ هذا هو مقدار الشرِّ الذي كان (جون فردريك لست) يدركه، وآخر حدود معرفته به،
والولد معذورٌ في كل الأحوال؛ فقد نشأ في بيت تتردد فيه، لا أنغام السبعينات الصاخبة؛ بل أصداء وصايا الربِّ لموسى،وصاياه العشر:
( لا تقتل، لا تزنِ،لا تسرق، لا تشتهِ امرأة جارك....)..
وقد كانت الجدَّة من قبل قد نشَّأت أولادها -الأب وإخوته- على نفس هذه الوصايا؛ بيد أنَّ الوصايا الإلهية كانت جديرةً بإعادة النظر، قليلٌ من الحكمة كان جديرًا بأن يضيف لها وصيةً أخيرة في غاية الأهمية،لا تقسُ، لا تتجبَّر، لا تكن صلبًا جارحًا كسيخٍ من حديد، هذه الوصية الناقصة، لو أنَّ محرِّفًا بارعًا سمح لنفسه بدسِّها في سفر التكوين، لكان لعائلة (لست) مصيرٌ مختلف، ونهايةٌ جدٌّ مغايرة تمامًا، لماذا لم يعمد محرفو الكتب إلي إتيان هذه الخطيئة الصغيرة؟ لماذا لم يتمموا للربِّ عمله؟!
إن ابن (جون ليست) كان مغتربا عن بيئته في الحقيقة، ولم يكن يؤمن بأشعار سفر التكوين، ولا بحرفية التنزيل، ولا بعصمة من دونوا الكتاب المقدس، لقد حطَّم الفرخ الصغير البيضة الحديدية التي وُلد ليجد نفسه حبيسًا فيها، وتربية (هيلين) و(جون لست) أتت بنتائج عكسية، ولد يكتم مروقه، وبنت تريد أن تعمل في السينما!.
لم يكن أحد الأبوين على علمٍ بالحقيقة الأولى؛ لكن (جون) وحده عانى مغبَّة الاطلاع على الثانية، لقد تسلل الشرير إلي هذا المنزل ولن يغادره إلا وهو يحمل أرواح سكانه محملةً بذنوبها وآثامها إلى السعير، إلى الجحيم، إذن فلابد من تضحيةٍ صغيرة لإنقاذ الجميع.. تضحيةٌ صغيرة ليست أكبر من تضحية الولد الذي خلف المباراة محتدمةً وراءه وذهب مع والده عائدين إلي منزلهم لينضم واحدٌ منهم فقط إلي بقية أفراد العائلة، ويلحق الآخر بالقطار الذي سيقله إلي الجحيم الذي قرر أن يخلقه لنفسه، وأن يحكم على نفسه -حكمًا نهائيًا- بالبقاء فيه، لا هو ميت فيستريح ويُريح، ولا هو حيٌّ يتعب ويُتعب الآخرين معه!.
لم يكن الطريق بالسيارة طويلًا من الملعب الذي يتجمع فيه الأولاد، نهاية كل يوم ليلعبوا ويتنافسوا ويستمتعوا بوقتهم، حتى منزل عائلة (لست) القائم في (هيلسايد ويستفيلد)،حيٌّ راقٍ كان الانتقال إليه حلمًا من أحلام العائلة، وها قد تحقق الحلم لكن الثمن كان رصاصةً في رأس (هيلين) من الخلف، وقبلةً يهوذية الطابع على خد أمه، تبعها تحطيم رأسها كبيضةٍ فاسدة، أي ثمنٍ فادح ندفعه لتحقيق أحلامنا الصغيرة التافهة؟!
بيت بثماني عشرة غرفة يساوي مسلخًا تستلقي في أركانه خمس جثث، لا عدالة في هذا، لا عدالة من أي نوع، وعودة هذا الابن الغافل برفقة والده، الذي يوليه كل حسن الظن الذي في الكون، لا عدالة فيه أيضًا، كان (جون الأصغر) هو الأخير، هو آخر قيدٍ يعصب عيني (جون الأكبر)، أبوه الذي أهداه اسمه ولقبه، والمنزل والعائلة، والكرة التي طالما ركلها ذهابًا وإيابًا، وحقيبة المدرسة المصنوعة من الجلد الفاخر، وكل شيءٍ آخر، لكن غلطة (جون الصغير) أنه لم يتساءل ولا مرة عن نوعية الثمن الذي سيتحتم عليه أن يدفعه لقاء كل هذا، فلم يدر بخلد الغلام قط أنه سُيطالب بدفع ثمنٍ مقابل أشياء لم يطلب الحصول عليها أبدًا، بل استخدمها فقط لأنها وُضعت بين يديه..لا عدالة في هذا أيضًا !..
حياةٌ كاملة خالية من أية لمحة عدالة، والمنزل عامر ٌبالأنوار المضاءة تتوهج المصابيح خلف الستائر، ولم يكن من عادة الأم والجدة أن تتساهلا بشأن ترك المصابيح تعمل دونما فائدةٍ حقيقية في هذا الوقت من النهار، لم يفهم (جون الأصغر) الأمر وهو يراقب واجهة البيت وشرفاته من الباحة الخارجية، حيث استقرت العربة أخيرًا، وألقت حمولتها، لكنه ظنَّ أنه سيحصل على تبريرٍ منطقي يعينه على فهم ذلك التجاوز الصغير بمجرد أن يدلف بصحبة أبيه إلي الداخل، كان (بريرنول) طيب المظهر يستلقي في دعةٍ وسط أشعة الشمس البرتقالية المحببة، يبدو كتلةً من الطبشور الأبيض من عصرٍ جيولوجي عتيق، تحيط بها هياكل ديناصورات عملاقة متداعية ومتحللة، شعورٌ غريب وانقباض غير مبرر داهم (جون) الصغير، وهو يسير رفقة أبيه على الحصباء متقدمين نحو المنزل؛ لكن الأب تأخر قليلًا وتخلف للحظة، فتح الغلام الباب، وهو يطلق عقيرته مناديا باسم أمه وجدته، (باتريشيا) و(فردريك) أخويه، كانت تلك عادته، إنه بدافع من الرجولة المبكرة التي تدب في عروقه يحب أن يثبت وجوده في هذا المنزل، يجب أن يعلم الجميع أن (جون) قد عاد إلي البيت، إنها عادته.. وها قد عدت يا (جون) إلي البيت!.
لكن البيت يلفه صمتٌ حذرٌ غريب غير معتاد، لم يقطعه سوى خطوات الأب، وهو يتقدم آتيا من الحديقة، صوت دبيب الأب طمأن (جون) قليلًا؛ فاستدار طالبًا تفسيرًا، لكن ثمَّة مذكراتٍ كان قد تم إعدادها، ورحلةٍ وهميةٍ جري إعلام الجيران بها، وترتيباتٍ حذرة ومنظمةٍ للغاية اُخذت بالفعل، عائلة (لست) غادرت في رحلةٍ طويلة إلى كاليفورنيا، أكذوبةٌ كاملة منمقة، ومعدَّةٌ جيدًا، لها هدفٌ واحد، ألا يبحث أحد عن والدة السيد (جون لست) المسنَّة، ولا زوجته ولا أولاده، ليس لأى سببٍ آخر غير السبب الوجودي الأكثر بساطةً ووضوحًا في الكون؛ إنهم هنا والآن وفي هذا اليوم المحدد سلفًا -من قبل الرب أو من قبل الشيطان لا يهم- قد اختير لهم مصيرٌ واحدٌ مرعبٌ.. الموت قتلًا على يدي راعي الأسرة.. الابن والزوج والأب!..
الرجل الذي أنسته خسائره ومغامراته المالية أدواره الثلاثة، وأنساه الغمُّ الشخصي أنه هو -ولا أحد غيره- مَن كان يجب أن يمنح الأمان لهؤلاء الخمس أنفس، لا أن يقوم بدور قابض الأرواح بالنسبة إليهم!..
استدارت الروح الأخيرة المتبقية -جون الصغير- الابن الثاني والولد الأكبر وقرَّة العين، نحو أبيه طالبًا تفسيرًا، فكان جواب الأب رصاصةً مصوبة بدقةٍ إلي رأس ابنه!.. سقط الولد يتخبط على الأرض،مروعًا مرعوبًا من وقع المفاجأة أكثر مما روعته الرصاصة وأدمته، يتخبط في دمه الذي بدأ يسيل بغزارة مبللًا أرض المدخل الرخامي الأنيق، سال دم (جون) -الذي لم تهدأ حركته- ببطءٍ ناشرًا الهول حول بركة الدم الصغيرة التي صنعها، ومتسللًا إلي داخل صدر أبيه ورأسه وتلافيف عقله، التي أحس بها كلها تتبلل وتسيل وتقطر دمًا لزجًا ببطءٍ محدثًا صدى مزعجًا كصوت قطرات الماء وهي تقطر من صنبورٍ معطل، لم يتحمل (جون الأكبر) صوت الصنبور الخرب في عقله، تلك القطرات اللعينة يجب أن تتوقف؛ فصوب وأطلق رصاصةً ثانية نحو الجسد النازف المتخبط.. جسد ولده.. لعل الرصاصة وهي تنطلق تسحق معها كل الصنابير التالفة التي في العالم، وتُسكت أصوات الماء الذي يقطر منها؛ تلقى الابن الرصاصة الثانية فانتفض انتفاضةً مروعة، لكنه لم يهدأ ولم يسكن، بدا أنَّ الولد عصيٌّ على الموت؛ لقد منحته الحياة الصغيرة وقايةً من الفناء، ومنحه الرعب الذي يشمله درعًا يحميه من الهلاك السريع المجلل بالعار الكبير، أن تسقط دون أن تبدي أيَّة ردة فعل ، أيُّ مجدٍ في أن تموت كذبابةٍ سحقتها قدمٌ ثقيلة غبية؟!.
لكن الأب لم يُغلب على أمره، كان يحب (جون) حقًا؛ ولذلك كان مصممًا أكثر من أي شيءٍ آخر في العالم، على قتله، كان يعرف دومًا أنَّ الشرَّ الذي يسببه الحب يفوق كل شرٍّ تجترحه الكراهية، وأنَّ طاقة الحب أكثر تدميرًا من كافة أعاصير الشر والمقت والحقد والكراهية.. لقد خاف هؤلاء الذين يحبون بضراوةٍ وقسوة وشراسةٍ؛ لأن قدرتهم على الإيذاء والتنكيل حين يخيب أملهم تفوق كل الضرر الذي يمكن أن يحدثه عدوٌ كارهٌ سود الحقد قلبه، وأكلت الكراهية المقدسة كل وريد في هيكله، كان يؤمن بذلك، وهو على حقٍّ في إيمانه، لم يخدعه ربُّه لكنه بالتأكيد خدع نفسه، غير أنَّه لم يتصور أبدًا أن يأتي يومٌ يرى فيه نظرياته الفلسفية الباردة وهي تُطبق عليه هو شخصيا!.. لكن الصنبور لا يزال يسرِّب، ومع كل ذرة خبالٍ، مستتر بأقصى درجات التعقل والحكمة، أثارها صوت الماء المنساب من لا مكانٍ في وعيه، مضي يعالج ابنه برصاصةٍ إثر الأخرى، حتى انتفض الغلام للمرة الأخيرة وهمد أخيرًا، وفي جسده استقرت تسعٌ أوعشرُ رصاصاتٍ لم تطلقها إلا يد أبيه، التي لم تحركها سوى قوة الحب،لا قوة الكراهية وجنونها !
سكن (جون الصغير) أخيرًا، واستعاد جسده هدوء البويضة الخالد قبل أن يقلق حيوانٌ صغير دخيل صفو أيامها ويكدِّر عيشها فارضًا عليها نطفةً غريبةً عنها، وقد كان (جون لست) الكبير نطفةً غريبةً، طفرةً شاذة منحرفة، جنونًا صافيًا وشرًّا خالصًا لا تخالطه أية شوائب، الشوائب الوحيدة كانت هي أفراد أسرته، لذلك تخلص منهم ليستعيد وحدته الخالدة، وعُزلته القاسية الفريدة، لم يُخلق (جون لست) ليكون أبًا، وما أقلَّ الرجال الذين خُلقوا ليكونوا آباء في هذا العالم !
ملتزما بنظامه الصارم بعد أن انتهى كل شيء، وبعد أن تغلَّب على لحظة الوهن التي داهمته، وجعلت ذراعه يرتجف وهو يوجه المسدس، مرةً بعد مرةٍ نحو ابنه، مضى (جون لست) يعمل بجدٍّ، سحب جثة ابنه ليمددها جوار الجثامين المسجاة الباقية؛ وحرص على أن يجعلهم كلهم في وضعٍ لائقٍ، إنها خدمة الموت الأخيرة التي يجب أن يقدمها لهم !
لقد تحوَّل في ساعاتٍ من أبٍ ووالد إلي قاتل، واستحال في لحظةٍ من قاتلٍ إلي حانوتي ومتعهد دفن موتى، صحيح أنه لن يدفن جثث أفراد أسرته، لكنه -وليس بوسع أحدٍ أن ينكر ذلك- قد قدَّم لهم (خدمة ما بعد موت) لائقة حقًا!..
بعد أن انتهى كل شيءٍ غادر الأب أخيرًا المنزل، سيقود عربته بعيدًا حتى يتركها في النهاية، لقد شرح كل شيءٍ للقسِّ، الأب اللوثري الطيب سوف يتفهم الأمر جيدًا، أما هو فقصةٌ مختلفة، لابد أنها تنتظره في مكانٍ ما؛ لقد أنهى عمله هنا، وعليه أن يبدأ من جديد في مكانٍ آخر، أما أسرته فهم سعداء الآن، سيسامحونه حتمًا على ما فعل، سوف يتفهمون الأمر، وسيشرح لهم كل شيءٍ حينما يقابلهم أخيرًا.. في الجنة!..
لكنه لا يقلق كثيرًا بشأن ذلك؛ فقد لا يتطلب منه الأمر -في النهاية- شرحًا ولا تبريرًا، سوف يسامحونه ببساطة، أو ينسون الأمر تمامًا، إنهم يحبونه وهو واثقٌ من ذلك، (باتريشيا) اللطيفة كانت تحب أباها كثيرًا، وهو كذلك كان يفعل، سوف يغفرون له حتمًا لأنهم يحبونه، ويعرفون أنه يحبهم بدوره، الحب يُنسي كل شيءٍ ،ويغفر كل شيءٍ .
لقد عرف دائمًا أن الكراهية لغزٌ .. لكنَّ الحبَّ بدوره لغزٌ أكبر وأشد تعقيدًا !



جون ليست
John Emil List
(1925-2008م)
أمريكي قام بقتل والدته وزوجته وأبنائه الثلاثة
9 نوفمبر 1971م

0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.