اعتمد هودجر في حكمه الجديد على ثلاثة أعمدة رئيسة تتمثل في ثلاثة من أخلص رجاله هم (نوذ) و(زيبال) و(تونجي)، كل منهم كان له دورٌ كبير في ثورة الفقراء وتجمعهم، كان نوذ هو المشارك للملك في وضع القوانين والبناء الجديد للدولة، وزيبال كان المسؤول عن الدعاية والترويج لفكر الدولة الجديد؛ أما تونجي فكان الأداة الأمنية القاسية التي تحارب أعداء الثورة وتؤدبهم.
وكان جهاز الشرطة تحت يديه بالإضافة لجهاز الاستخبارات الذي يرأسه (درافي) والذي تطور كثيرًا واستعان بخبرات من كانوا بدولة رادون وغيروا ولاءهم. أما الجيش فكان هودجر يشرف عليه بنفسه ولم يعين عليه أحد القادة وقسمه لأربعة فرقٍ على رأس كل فرقةٍ قائدٌ كبير يتلقى الأوامر منه مباشرة.
فرح الفقراء بالملك الجديد فرحًا عظيمًا، ورغم الدمار والعنف الذي أحدثه جيش هودجر إلا أن طمأنة هودجر للبشر وكبحه لجماح الجند الممتلئين حقدًا جعل البشر يفرحون به ويأملون الخير.
وتأكيدا على أصله الفقير ومحبته للفقراء تزوج هودجر من ابنة عاملٍ فقير بالمناجم قاطعًا كل الآمال على الطبقة الثرية المترصدة والتي شعرت بخطرٍ عظيم رغم استقرار الأمور وعودة الأمن.
لم يخب ظنهم ولم ينتظروا طويلًا فقد أصدر نوذ مستشار الملك وثيقة هودجر الحاكمة وقوانينه التي ستحكم الأرض وجاء في الوثيقة مبادئ أساسية للحكم كان أهمها ما يلي:
1 – الدولة تملك كل شيء والبشر يملكون الدولة.
2 –البشر متساوون ولكل فردٍ راتبٌ ثابت من الدولة، الكبير مثل الصغير وعلى الكل أن يعمل لدى الدولة.
3 – غير المستطيعين العمل تعطيهم الدولة أجرًا كاملًا مساويًا للعاملين.
أعلن زيبال الوثيقة والقوانين المتممة لها والتي كان في الصدارة منها قانون مصادرة الأموال والممتلكات.
مثَّل القانون صدمةً كبرى للأثرياء وأصحاب المناجم والمصانع والأراضي رغم توقع الكثير منهم لصدوره؛ خاصةً بعد محاولة السيد بوشاتو إهداء الملك تاجًا من الذهب والجواهر رفضه الملك بشدة وعنفه مما جعل نوايا الملك تجاههم واضحةً لا لبس فيها.
بعد أيام توفيت الملكة، كانت شديدة الهزال ويبدو أن تنصيبها ملكةً لم يمنع المرض وآثار سوء التغذية من استكمال قتلها ببطء، حزن هودجر لحالها الذي يشبه كثيرًا حال الفقيرات من شعبه وزاده موتها إصرارًا على تنفيذ إصلاحاته.
أوصى بوشاتو معارفه بإخفاء معظم الأموال السائلة والذهب في أماكن سرية لحين انقضاء الأزمة، وانتشرت هذه التوصية سرًا فأخفيت أموالٌ طائلة وصادرت الدولة الأملاك والمناجم فقط أما حصيلة الأموال فكانت قليلةً بشكل ملحوظ.
طلب تونجي اجتماعًا عاجلًا للجنة الثورية العليا فأصدر الملك قرارًا باجتماع اللجنة برئاسته وعضوية نوذ وتونجي وزيبال وهم أعضاء الصف الأول، ومعهم رئيس الاستخبارات درافي ورئيس الشرطة (سفراح) وأمين خزانة الدولة (ميلون).
بدأ ميلون يعرض على الملك المشكلة الكبرى وهي ضعف الموارد وخواء الخزانة مما يهدد بكارثةٍ؛ فالأموال لا تكفي للإصلاحات والأجور التي فرضها قانون الملك لكل أفراد الدولة الكبيرة بل تكاد تكفي الجنود بالكاد.
بعد أن عرض ميلون المشكلة أشار الملك لتونجي طالبًا منه عرض وجهة نظره فقال تونجي:
- الأموال كثيرة يا سيدي لكننا عندما طبقنا قانون المصادرة فوجئنا بأنَّ الأموال أقل بكثير مما قدرنا فتحرينا عن الأمر ووصلنا للحقيقة التي فصلتها لجلالتك في هذا التقرير.
نظر الملك في الأوراق الموضوعة أمامه على رأس مائدة الاجتماع قليلًا ثم رفع بصره وقال:
- هل أنت متأكدٌ من صحة التقرير؟
- تمام التأكد يا مولاي هؤلاء الأوغاد هرَّبوا أموالهم وأخفوها جيدًا وتركوا لنا القليل لتضليلنا فما حصلنا عليه هو الأملاك فقط لكن الذهب والأموال السائلة وهي الحصيلة التي جمعوها من دمائنا طيلة عقود طويلة أخفوها.
- ما حجم هذه الأموال في تقديرك؟
- هي ثلاثة أضعاف ما جمعناه من أموال وعقار ومناجم على أقل تقدير.
صمت الملك قليلاً كأنه يدرس الأمر ثم سأل ميلون:
- هل لديك حل يا ميلون؟
قال ميلون وهو يفكر في حيرة:
- نخفض الرواتب يا مولاي في الولايات البعيدة لنستطيع الوفاء بالرواتب الضرورية للجيش ولجان الثورة والشرطة ولأهل العاصمة.
بدا الامتعاض على وجه تونجي فلاحظ الملك ذلك لكنه سأل زيبال:
- ما رأيك فيما اقترحه ميلون؟
نظر زيبال لتونجي نظرةً سريعة ثم قال:
- يصعب عليَّ الترويج لهذا الأمر يا مولاي سنفقد ثقة الشعب المنتظر للإصلاح بفارغ الصبر.
لاحظ الملك نظرته هذه لكنه تجاهلها وطلب رأي نوذ فقال نوذ بسرعة المتوقع للسؤال:
- نبحث عن مال الشعب المسروق يا مولاي.
أشرق وجه تونجي فقال الملك موجها الحديث لتونجي:
- هل تقدر على ذلك؟
- أقدر يا مولاي، أطلق يدي وسأنتزع منهم ما نهبوه.
- هل عندك معلوماتٌ عن أماكن هذه الأموال يا درافي؟
نظر درافي لتونجي كأنه لا يجد ما يقول ثم قال للملك بعد تردد:
- نحن نبحث يا مولاي لكن الأمر يحتاج دعمك لنا
- وهل تظن أني لا أدعمكم في عمل كلفتكم به؟!
قال درافي بصوتٍ هامس متردد:
- الأمر يحتاج لقليل من التجاوزات يا مولاي.
سارع تونجي بقوله:
- تجاوزات ضرورية يا مولاي، نحن في خطر عظيم ولن نظلم أحدًا، هم لصوص ونحن نريد استرداد حق الشعب.
فكر هودجر قليلًا وشعر بالتوتر الشديد وعدم الاطمئنان كأن بالأمر فخًا والكل ينظر له منتظرًا الحسم سريعًا فقال بعد تردد:
- سأجري تصويتًا على الأمر.
صمت قليلًا ثم ألقى سؤالًا مباشرًا للجميع:
- مَن منكم موافقٌ على منح تونجي صلاحيات استجواب مهرِّبي الأموال مع التجاوزات التي يريدها؟
رفع الجميع يدهم بالموافقة سريعًا عدا ميلون الذي تردد في رفعها ثم رفعها لتكون الموافقة بالإجماع.
نظر الملك لتونجي طويلًا ثم قال:
- أمنحك الصلاحيات كلها لكن لا تتجاوز إلا عند الضرورة القصوى.
- أمرك يا مولاي.
نفخ هودجر وهو يشعر بثقلٍ شديد بعد إصدار أمره الأخير ثم قال:
- نريد حلًا عاجلًا الآن لأزمة المال؛ فلن تأتي الأموال المهربة اليوم أو غدًا.
قال نوذ بسرعة:
- نعتمد حل ميلون كحلٍ مؤقت يا مولاي.
نظر الملك لزيبال فقال زيبال على الفور:
- يمكني عرض الأمر على الشعب كحلٍ مؤقت مع وعدٍ بإصلاح الأمور فور إرجاع الأموال المنهوبة.
نظر له هودجر نظرةً طويلة كأنه يسأله متى اتفقتم على هذه التفاصيل؟! لكنه قال:
- أريد تصويتكم على اقتراح ميلون كحلٍ مؤقت.
رفع الجميع أيديهم بلا تردد فقال الملك:
- فلتنفذ الأمر يا ميلون، رتِّب جدول الأجور الجديدة.
قال تونجي:
- سننشر قوات الشرطة في أماكن نتوقع تمردها بعد قرار تخفيض الرواتب.
أضاف نوذ:
- ونرجو يا مولاي أن يستعد الجيش كذلك لمواجهة أية تمردات فالمرحلة القادمة صعبة.
هز الملك رأسه بتفهم وقال:
- بالطبع هي مرحلة صعبة
نظر للجميع وأكمل:
- وسنتجاوزها بالعدل.
لم يكن واثقًا من كلماته لكنه أراد تنبيههم لخوفه من الانحراف عن مسار الثورة العادل.
جرد تونجي وسفراح حملةً مسعورةً قبضا فيها على الآلاف المسجلة أسماؤهم في سجلات مخابرات درافي، والذين يُشتبه في تهريبهم للأموال، أُودع الجميع في عدد من السجون وكان تونجي يشرف بنفسه على استجوابهم، وبلا رحمةٍ اتخذ من الأساليب ما ينتزع الصرخات من أعماق الجحيم، ضرب تونجي عرض الحائط بتوصية هودجر وبدأ بالتجاوز في الاستجواب مستمتعًا حتى بدا أنَّ الاستجواب نفسه هو الهدف بغض النظر عن النتيجة أيًّا كانت!.
أقرَّ الجميع أنهم أخفوا الأموال بمعرفة بوشاتو الذي فكر في فكرةٍ عبقرية أسماها (بنك الخائفين)، وهذه الفكرة كانت تجميعًا لذهب وأموال الأثرياء الخائفين في أماكن سرية لا يعلمها غير بوشاتو وبعض كبار الأثرياء، ولا يعلم عنها أصحابها شيئًا، وليس لهم ضمانٌ غير إيصالات تسليم لبوشاتو وإقرارٍ بأحقيته في صرف ما يشاء منها لحماية الأموال الباقية.
هكذا وثق الآلاف ببوشاتو وبعض الأثرياء الذين أصرُّوا على إخفاء الأموال بأنفسهم، لم يقدروا على الحفاظ عليها وباحوا بمكانها تحت ضغط التعذيب الشديد في سجون تونجي وسفراح.
انطلقت عناصر الشرطة والمخابرات في سباقٍ محموم لاقتفاء أثر بوشاتو الذي بالغ في الاختفاء حتى خُيل للبعض أن بوشاتو هذا خرافةٌ ابتكرتها عقول الأثرياء المريضة لصدمتهم من التغيير الجديد.
لم يدَّخر تونجي جهدًا في القبض على من يشك بمعرفته لمكانه فقتل في التعذيب أكثر من مائتين كان يظن معرفتهم لمكان بوشاتو.
صار بوشاتو أيقونةً لكل الأثرياء الذين ذُلوا واضطروا للعمل في أملاكهم كخدمٍ حتى تستمر حياتهم، بعضهم لم يطق العيش فقضى على نفسه والبعض الآخر انتظر الأمل الواهي بظهور بوشاتو مع الأموال، والبعض اختفى لا يدري أحد إلى أين، وإن شكَّ البعض في انضمامهم لجيشٍ سري يكونه بوشاتو للانقضاض على هودجر وإنهاء حكم الفقراء.
بعد شهور من البحث المضني وقعت في يد رجال درافي بعض الرسائل من بوشاتو للأثرياء بالنزوح لجزيرةٍ في الجنوب في المحيط الكبير، جزيرةٌ كبيرة مهجورة، عرف درافي أنَّ الرسائل التي وقعت في يده ليست أول الرسائل وأنَّ المختفين كانوا يذهبون لهذه الجزيرة لينعموا هناك بأموالهم.
كانت الصدمة كبيرةٌ على تونجي الذي شعر بإهانةٍ كبيرة فالمارق بوشاتو يعيش في الجزيرة وأتباعه يكونون دولةً هناك، وهو يلهو في الشمال مع درافي بأجساد البؤساء المعذبين.
عندما سمع هودجر بالخبر ضحك بصوتٍ عالٍ سخريةً من تونجي وقال:
- لم تفدك التجاوزات في تحديد مكان الداهية بوشاتو وقادتك الصدفة إليه، ولكن بعد فوات الأوان!.
لم يجد تونجي ما يقوله فحوَّل هودجر وجهه عنه وأمره بتسليم عهدته وأوراقه إلى القائد (جروز) أحد قادة الجيوش الأربعة، وأصدر كذلك أمر إعفاء درافي من رئاسة المخابرات وسفراح من الشرطة، وعين مكانهما مساعدي جروز (براب) و(ديجوفي).
حالة من الذهول أصابت تونجي فما خطر بباله أن يقيله الملك من منصبه هكذا وهو الذي خدم الثورة بإخلاصٍ وعرَّض نفسه للموت مئات المرات من أجل حياة الشعب الفقير وحياة هودجر!.
خرج من القصر ساهمًا حزينًا يفكر ماذا سيفعل بالأموال التي سرقها من لجنة المصادرة، والتي اقتسمها مع نوذ وزيبال ودرافي ومعظم رجال الثورة العظماء؟ فكر أن يشي بذلك لهودجر المخدوع ليجعله يفيق ويخبره أنه أيضًا مغفلٌ كبير، لكن حزنه كان أكبر، ماذا يفعل بالذهب؟ هل يلحق ببوشاتو في الجزيرة كالأثرياء؟
أيقن أنَّ الذهب لا قيمة له عنده بعدما جرَّب شهوة السلطة والبطش بالبشر، شعر بالضعف لأول مرة، وعندما وصل لباب مكتبه دخل وجلس على كرسيه، وبهدوءٍ تناول شربةً من زجاجة بنية في درج مكتبه، لم يشعر بشيءٍ، ولم يعترض على دفنه بدون مراسم تليق بقائدٍ مثله.
وقف بوشاتو على شاطئ البحر الكبير ينظر للمراكب المتتابعة في هدوءٍ وسكينة، والتي أتته حاملةً السكان الجدد للجزيرة، وبدا مبتسمًا عندما رأى فيهم عمالًا بسطاء فضلوا مجتمعه الطبقي العادل على مجتمع الطبقة الواحدة الذي أهلكهم جوعًا.
كان بجواره (بايو) مستشاره الأول الذي قال بسعادة:
- سلم عقلك يا سيدنا، لقد خلقت لنا جنةً افتقدناها بعد مجيء الطاغية ورجاله المسعورين.
ابتسم بوشاتو وقال:
- ظنَّ الجميع أنني سأكوِّن جيشًا لانتزاع المُلك منه، وكيف نكون جيشًا يواجه هذا العدد من الجياع في هذا الوقت القصير؟ الحمد لله الذي صرفهم عن البحث في الجزيرة المهجورة، وصرف انتباههم عن تحركاتنا حتى ملأناها بالمهاجرين.
- لم يتوقع أحد أن نجهز الأرض الخربة التي أهملها البشر طويلًا لكون قاعدة لاسترداد الأرض، من هنا يا سيدي ننطلق لتحرير الأرض منهم.
زالت الابتسامة من وجه بوشاتو وقال:
- ليس هذا هدفنا يا بايو، كما أنه أمر يكاد يكون مستحيلًا ومخاطره كثيرة؛ ما أريده فقط هو الاستقرار هنا وسأرسل لطلب صلحٍ مع هودجر وإعطائه مالًا سنويًا مقابل تركنا بسلام، وربما السماح لنا بالتجارة مع الأراضي القريبة.
- لن يرضى يا مولاي.
قالها بايو محاولًا زرع رغبته بقلب الملك، فهو لا يريد التعامل مع هودجر ورجاله.
- قد يرضى يا بايو، لن أيأس لكني سأستعد لصدِّ خطره قدر المستطاع؛ فالحرب هنا لن تكون لصالحه على أية حال.
بدأ النازحون الجدد ينزلون الشاطئ فرحين، واستقبلهم زملاؤهم القدامى بالأحضان مهنئين على سلامة الوصول والخلاص من العبودية في دولة الفقراء.
كان الكثيرون منهم فقراء أتوا بعدما علموا بعدالة أجور بوشاتو ورفاهية العيش على جزيرته، ومعاملته للفقراء باحترام.
كثير منهم كان يقبِّل الأرض عند وصوله وكأنها أرضٌ مقدسة، أشعر هذا بوشاتو بالسعادة والفخر فقد نجح أخيرًا في بناء وطن يحبه ساكنوه، وأيقن أنهم سيدافعون عنه بكل قوة.
أقبل عدد من النازحين الجدد على الحرس يسألون عن السيد بوشاتو، ولما طلب منهم الحرس إخبارهم بما يريدون إبلاغه به قال أحدهم:
- نريد تحذيره فقد شاهدنا استعداداتٍ بالقرب منكم على الشاطئ المقابل، ويبدو أن هذه القوة القريبة تنتظر إمداداتٍ من العاصمة ليأتوكم بحملةٍ تقضي على دولتنا الناشئة.
صاح بوشاتو بأعلى صوته وهو يبتسم:
- لا تخف أيها المواطن الصالح، ستكون صحراؤنا مقبرتهم إن وطئت أقدامهم أرض جزيرتنا.
شعر الرجال باطمئنانٍ من ثقة السيد بوشاتو الذي همس لمستشاره قائلًا:
- يبدو أنني سأذيقهم مرارة الحرب أولًا قبل أن أعرض سلامي المُحلَّى بالذهب.
كان بسيطًا واثقًا فشعَّت ابتسامةٌ على وجه بايو كتلك التي تشع في وجوه المواطنين بجزيرة بوشاتو الثرية.
نظر بوشاتو للبحر ثانية وأشار لبايو متهللًا وقال:
- ها هي البشائر الجديدة.
كانت قوارب جديدة تتهادى فوق الماء محملةً بصناديق الذهب فقال بوشاتو:
- لم يبق في بنك الخوف إلا القليل يا بايو، ها هي أموالنا نقل معظمها لدولتنا المطمئنة، وداعًا يا بنك الخوف.
مائتان وخمسون سفينةً محملة بالجند المدججين بالسلاح رست بهدوءٍ على شواطئ جزيرة بوشاتو، نزل قائد الحملة على الشاطئ وهو يضحك قائلًا:
- هؤلاء الأثرياء الهاربون لم يحاولوا ضرب سفننا في الماء بمدافع النار أو بالرماح حتى.
انفجر مساعده الأول في الضحك وهو يقول:
- هؤلاء اللصوص لا يملكون فكرًا قتاليًا ولا شجاعة، لا أشك أنهم يختبئون بالكهوف وقد يتركون ما سرقوه من ذهب ليكونوا قد قطعوا هذه الأميال ليعيشوا هنا مع القردة والضباع!.
ضحك القائد ثم التفت للسفن الراسية والجنود ينزلون منها وصاح:
- أسرعوا يا جند الفقراء؛ فعندنا صيد ثمين علينا أن نطارده قبل حلول الظلام.
نزل الجنود جميعًا من السفن وانتشروا في تشكيلٍ منظم، صفوفٌ تليها صفوف، تاركين السفن خلفهم في حماية إحدى الكتائب وبدأوا بالتحرك للأمام بحثًا عن مكانٍ مؤقت للاستراحة قبل استئناف الزحف بحثًا عن المتمردين وذهبهم.
لم تكن هناك أية خرائط للمكان، وكانت الصحراء ممتدة أمامهم لكنهم كانوا واثقين من وجود مدينةٍ بناها بوشاتو وأخبرهم عنها السكان الذين زاروها من قبل، والذين اصطحبوا بعضهم لكنهم لم يكونوا من المهارة بحيث يرشدونهم بدقةٍ للمكان فقد كان تنَقلهم من طرقٍ أخرى لم ينتبهوا لها جيدًا؛ فحاروا وهم يتحركون مع الجيش الكبير.
قرر القائد التقدم للأمام مع ترك جنودٍ في كل بقعة يتجاوزونها ليكونوا حمايةً لظهورهم ودليلًا أو علامة إن أرادوا الرجوع، بدأ يتحرك ببطءٍ وحذر وكلما تقدم بحملته الضخمة ترك خلفه بعض الجنود، طال الطريق ولم يعثر لرجال بوشاتو على أثر فبدأ القلق يتسلل إليه، لقد أخبروه أن بوشاتو استطاع استقطاب حوالي اثني عشر ألفًا لكنه لم ير أحدًا حتى الآن، كان قد توغل أكثر من خمسمائة كيلومتر، وعشرون يومًا مرت وهو يتحرك بحذر ويترك جنوده في الأماكن التي مرَّ عليها كعلامة للرجوع وخطٍ للإمداد إن لزم الأمر، قرر أن يتوقف قليلًا ليدرس الموقف، كان توغله في الصحراء وليس هناك أثرٌ لخضرةٍ أو ماء، أين هي الأنهار والأراضي الخصبة التي أخبروه بها؟! تبا لهم أرسلوا حملةً بلا خرائط وكأنهم يرسلونه ليؤدب مدينةً صغيرة لا ليخوض حربًا في جزيرةٍ كبيرة حجمها أكبر من أرض الجيانيز قبل توحيد بهرام للأرض.
يبدو أنه يسير في الاتجاه الخطأ، لابد من العودة وإلا حدثت كارثةٌ؛ فالصحراء بلا نهاية والمؤن التي يجرها الجيش معه لن تصمد إلى الأبد.
كان معه نصف العدد الذي نزل به الأرض، والنصف الآخر كان موزعًا في الخط الطويل الذي صنعته حركته من الماء إلى موضعه الذي وقف فيه، التفت للاتجاه الذي أتى منه وعلى بعدٍ كان جنوده يرفعون الأعلام دلالةً على تمكنهم من الموقع، ودليلًا له عند الرجوع؛ فقد سارت الحملة في خطوطٍ متعرجة وهو الآن لا يحسن الوصول إلى سفنه بغير الاسترشاد بهذه الأعلام.
عاد برجاله ببطءٍ وحذر واقترب من النقطة التي عسكر فيها رجاله الذين انضموا إليه ليكملوا معه طريق عودتهم ويلتقوا بالنقاط نقطةً تلو الأخرى، حتى تم رجوع مائة كيلو متر من الخمسمائة ثم توقف الجيش الكبير بحثًا عن النقطة التي ترشدهم للطريق؛ لكنهم لم يجدوا أية علاماتٍ لقد فقدوا أثرهم تمامًا.
استدعى القائد أكبر الضباط المسؤولين في النقطة الأخيرة التي وصلوا إليها، وسأله عن النقطة التي اختفت وأين كان مكان الأعلام فقد كان يمكنه رؤيتها قبل أن تختفي، كان الضابط متحيرًا وهو يقول:
- لقد حلَّ الظلام ولم يعد بإمكاننا رؤية شيء؛ لكنا سمعنا صوت جلبةٍ آتٍ من النقطة التي تلينا وكأنه هجوم، فتحيرت هل أهب لنجدة زملائي أم أنتظر كما شددت أوامرك يا سيدي، وفي النهاية انتهت الجلبة فجأة كما بدأت فجأة...
وفي الصباح اختفت الأعلام وعندما أرسلت بعض الضباط للاستطلاع عادوا بعد أن أخبروني أنَّ جميع النقاط اختفت ولا توجد أعلامٌ على مرمى البصر، وبدوا قلقين وقد فقدنا أي أثر، وبدا أننا ضعنا في الصحراء لكني طمأنتهم بأنك يا سيدي تملك الخريطة التي سنهتدي بها.
امتقع وجه القائد لكنه حافظ على ثباته، وسأل الضابط قائلًا:
- ألم يجد ضباطك هناك أي شيء؟!
- كلا يا سيدي.
- ولا آثار دماء أو ما يدل على نشوب معركة؟.
- كلا يا سيدي.
هز رأسه وكأنه فهم الأمر لكنه في الحقيقة لم يفهم شيئًا فنظر للضابط وقال بحزم:
- أرشدنا لمكان النقطة أيها الضابط.
- أمرك سيدي.
أشار الضابط للاتجاه الذي كانت ترفرف منه الأعلام، وبدأت الحملة تتحرك ثقيلةً محملة بأعباء السير الطويل في الصحراء وخطر نقص المؤن وغموض اختفاء الفرق المناط بها تأمين طريق العودة، عندما وصلت الحملة لمكان النقطة المختفية أرسل القائد فرقة استطلاع للبحث عن النقطة الثانية أو مكانها، وظلت الفرقة يومًا كاملًا تبحث قبل أن تعود في اليوم التالي خائبةً؛ فلا يوجد أثرٌ لأي من الفرق التي صُفَّت على طول الطريق، وكذلك لا توجد علاماتٌ وكأنَّ أحدهم مسح آثار التحرك وأية علامات في الطريق المضلل.
شعر القائد بألمٍ في معدته لكنه تحامل على نفسه، فعليه أن يبدو ثابتًا في هذا التيه؛ فأية بادرةٍ تشي بذعره قد تؤدي إلى كارثة.
نظر حوله في جميع الاتجاهات؛ فعليه أن يتخذ اتجاهًا معيَّنًا، لقد كان يسير عكس اتجاه الشمس فترةً ثم انحرف أكثر من مرة، وربما دار وسار مع اتجاه الشمس عند نقطةٍ ما لكنه لا يستطيع تحديدها، لكن يمكنه السير مع الشمس نحو الغرب فالبحر الذي أتي منه غربًا وقد يسير بمحاذاة الشاطئ ليصل لسفنه؛ لكنه يشك في وجود السفن فقد اختفى الرجال فكيف لا يختفي خشبٌ لا يملك إرادة؟!
قرر المسير وهو يراقب المؤن التي انخفضت بشكلٍ حاد جعله يقتر في توزيعها على الجنود المنهكين من المسير في الصحراء، والمحبطين من أثر الحملة الفاشلة التي ظنوا أنها ستسحق بوشاتو ولصوصه في يومين على الأكثر.
عندما وصلت الحملة المنهكة للبحر وصلت لنقطةٍ بعيدة عن السفن لكنهم أرسلوا استطلاعاتٍ كثيرة حتى حددوا مكان السفن فواصلوا المسير بمحاذاة الشاطئ، حتى اقتربوا من السفن وكانت المؤن قد نفدت تمامًا وبدأ الجنود يتذمرون لشعورهم بالجوع والعطش.
عندما وصلوا لمكان السفن وجدوها بعيدةً في الماء وعليها رجال بوشاتو يضحكون، وكان جنود الحملة منهكين وجائعين، سقط معظمهم على الأرض من الجوع والعطش، ورأوا مدافع سفنهم مصوبةً إليهم وقائدهم نفسه ينظر بيأسٍ، فقد جاء من خلفه جيشٌ كبير لا يدري متى جاء وكيف انشقت الأرض عنه، كان جيشًا قويًا منظما في مواجهة جيشه المتساقط من الجوع والعطش وشمس الصحراء الحارقة.
صاح القائد بيأس:
- يا جنود هودجر، لا تستسلموا، موتوا كالرجال من أجل شعب الفقراء.
جاء صوت بوشاتو قائلًا:
- نستطيع سحقكم لكننا لا نريد القتل، لقد عرضنا السلام ولم نفكر في أذية أحد، لماذا تموتون؟! ومن أجل من؟! إنني أعرض عليكم الحياة، فليتقدم كل من يريد الحياة وليسلم سلاحه بهدوءٍ مقابل شربة ماء وغذاء وعلاج، ثم نخيره بالبقاء معنا أو بالرجوع لأهله، هيا يا إخوتي كل من يتقدم تجاه هذا الجبل ويلقي سلاحه سيجد هناك من يتسلمه ليفي له بما وعدت.
لم يتحرك أحد فقال بوشاتو:
- اطمئنوا يا إخواني، لو أردت بكم شرًّا لسحقتكم الآن وأنتم بين فكي التمساح، لكني لا أريد إلا الخير وانظروا إلى هذه الفرقة التي تنتظركم عند الجبل وإلى زيها، أليسوا هم رجال حملتكم؟ لقد اختاروا العيش معنا في دولتنا العادلة.
صاح القائد عندما نظر ورآهم:
- هؤلاء ليسوا رجالنا لقد قتلتموهم وارتديتم ملابسهم.
ردَّ عليه أحدهم وقال:
- أنا بوميدور الضابط خمسة آلاف وثمانية.
ورد ثانٍ:
- أنا نوميزان الضابط أربعة آلاف وتسعة.
ورد ثالث ورابع وخامس، حتى تردد بين رجال الحملة أن بعضهم تعرف الأصوات، ولم يكد الخبر يتأكد حتى سارع الكثيرون بإلقاء السلاح والركض ناحية الجبل غير مبالين بصرخات القائد الذي أصابه اليأس بعدما وجد نفسه في ثلةٍ صغيرة من رجاله وقد قضى بوشاتو على الحملة دون أن يريق قطرةً واحدة من الدماء!.