Horof

Share to Social Media

صباح الحادي عشر من يناير

نادية رأفت


أحيانًا تفقد الكلمات الصواب وتَضِل عن معانيها، هذه هي المفردات التي تحتل الجزء الأكبر مِن وجداني بعدما اختتمت الآن أخر رسائلي بعبارةِ عتابٍ لا جدوى منها وأرسلتها كعادتي لصباح ثماني أشهر على التوالي. فسَليلتي الوحيدة قررت هجري والعيش بمفردها، قد تكون مضادات الكآبة التي اعتدت تناولها منذ ثمانية عشر شهرًا أقصَتني عن صوابي وبدَوتُ كمُتَرنِّحة واعتادَ صوتي على الصياح ورغم ذلك ورغم أنفها أنا والدتها ولا يجوز لها هجري هكذا، ربما المقولة التي وقعت عيني عليها في إحدى قراءاتي (أن حياتنا ما هي إلا سلسلةٌ مِن مخاوفنا) هي الجملة الوحيدة التي تمثل الصواب في حياتي، الأنكى مِن تجاهلها خطاباتي عدم قلقها على حالتي الصحية، لاريبَ في ذلك فقد تعودت على جفائها فهي مثل والدها عندما كنت ألوذ إليه باكيةً أو خائفة أعود أدراجي بخيبة أملٍ لا مثيل لها رغم أني سميتها أمل ولكن لاوجود للسلوى إلا في اسمها، لن أرسل هذه الرسالة ولن أتوسَّل لأحدٍ رغم روتينية ذلك السلوك بالنسبة لي فقد أصبح منهجًا في حياتي أن يدفعني إنسيٌ لرجائه، سأطوي تلك الصفحة , مزَّقتُ الرسالة وذهبت أجُرُّ أدراجي نحو المطبخ إنه على يمين الصالة بعد الكرسي المتأرجح المُفضَّل لصالح زوجي السابق، نظرت بدهشةٍ إلى آلة القهوة التي تغير مكانها، هل أغفو عن وعيٍ وأحرك الثوابت في بيتي مِن مكانها؟ لابد أن أُقلع عن تلك الأدوية إنها حقًا سحقتْني قمت بإعداد قهوتي المُرَّة وفي صحن الفنجان البلوري نظرت إلى عيني والهالات السوداء تغطيها , وبؤبؤ عيني جاحظٌ يَوَدُّ الفرار مِن بين جفوني وكأني لست تلك المرأة التي سَتُكمِلُ الثمانيَ والثلاثون مِن عمرها، احتسيتُ قهوتي بِشَرفَةٍ واحدةٍ وعُدت إلى أول يوم تناولت فيه القهوة مِن اثني عشر عامًا بعد أول يوم قابلت فيه يونس خارج نطاق العمل في مقهي لاتينا بحي السادس في خلسةٍ مِن زوجي و طفلتي، لازال الأمر سِرًا حتى الآن، اتخذت قرارًا لن أتراجع عنه هذه المرة سأسحب جزءًا كبيرًا من رصيدي المصرفي وأشتري البيت ذو الطابقين فلطالما حلمت بالسكن فيه مع يونس وخاصة أن أمامه جدولُ ماءٍ به صندلٌ خشبيٌ له متعة في ركن ذكرياتي والقرار الأرجح هو اللجوء لمصحةٍ نفسية تملكها آنا تورت صديقة والدتي اليونانية الهرمة التي تعتبر نفسها ليست من غرباء المدينة، فعندما عشقها العم جورج ورافقها لمدة تطول عن ثمانٍ وعشرين عامًا توفي تاركًا لها هذه المصحة دون باقي ممتلكاته، أخذتُ هاتفي المحمول وأجريت مكالمةً لها، جرس الهاتف يرن ولا أحد يجيب وقبل نفاذ صبري صوت الهرمة يثقب أذني برعشته المعتادة نادية أفتقدكِ صغيرتي (خالتي آنا إني بأوجِ حاجتي إليكِ) –ما خطبكِ يا صغيرتي؟ (الأمر أكبر مِن أن تلخصه مكالمة هاتفية، سأمرُّ على المصرف ثم المحامي وبعدها سيكون طريقي لكِ هو الأنسب لي) أغلقت الهاتف وذهبت مُسرعةً نحو غرفتي وأنا أمنع نفسي مِن الاصطدام بالحائط الرخامي الفاصل بين المطبخ و مكتبة صالح كل شيء هنا يذكرني بالماضي لابد أن لا أنظر ورائي فهذا ما أوصلني إلى حالتي المُزرية التي أنا عليها الآن تخطيت الحائط ودخلت الغرفة وبخطوات غير ثابتة فتحت الخزانة أمسكت سروالي الجينز المُمزق مِن الركبة وكنزةٍ رمادية تعبر عن حالتي وكاب أُخفي أسفله شعري غير المرتب ارتديت حذائي الذي يبرز إصبعي الكبير من نافذته هرولت وأنا أتناول مفتاح سيارتي والحقيبة من على طاولة السفرة أغلقت الباب ونزلت في المصعد أغطي عيني بنظارتي الشمسية التي أخفي خلفها بَلْبَلَتي، ومِن المصرف إلى المحامي ومِن ثم تفويض بشراء المنزل خاصتي ثم توجهتُ يسارًا من آخر كوبري المدينة الجديد لعدم تكدس المرور عليه واستهجنت طريقي وأنا أسمع موسيقى الأيام تتوالى لموسيقيٍ مغمور اكتشفها أبي في محل يبيع موسيقى الهواة انتبهت لسيارتي وأنا أمام المصحة النفسية لآنا تورت وقفت أمام بابها مترددةً هل أقرع هذا الباب لأجد خلاصي أو أعود وأرسل الرسالة لابنتي ولكن ما هذا الهُراء فأيًا كان ما سأحذو في طريقي المستقبلي فستكون البداية خلف هذا الباب، قرعت الباب ودخلت الغرفة آنا على رأس مكتبها تتوسط الحجرة اكفهرَّ وجهها لرؤيتي على تلك الحالة وبنظرتها المتعجرفة المعتادة نظرت إليَّ قائلةً وهي تنفثُ دخان تبغها ماذا دهاكِ يا امرأة نظرتُ إليها وشعاعُ أملٍ ينبلج مِن عيني خالتي آنا لابد أن أتخلص من هذه الأدوية فقد ألِفْتُ عليها ومررت من جيبي شريطًا لدوائي اليومي، نظرَتْ متفحصةً لغة جسدي , نبرة صوتي عدم جلوسي رغم أن الكرسي أمامي قائلة (استريحي صغيرتي) بنبرة حانية لَمْ أعتَدْ عليها منها (ثم تابَعَت لماذا هذه الأدوية ولِمَ الإحباط الظاهرُ عليكِ) بِتَهتهةٍ بسيطة انسدلت الكلمات مني , خالتي آنا هو ليس ذهان ولا فصام ولا اغتراب مجتمعي هو مصغر لحالة تشملهم جميعًا بدأت مع رؤية الدم ثم انتفاضة في أوتار الدماغ وخاصة الجبهة و عروق الجزء الأيسر منها وتنتهي كما بدأت ومتلازمها الأساسي هو المبالغة في المشاعر السعادة الضحك الشجون الكآبة ويلازم المتناقضين احتياجي إلى العاطفة. أوقفَتْني قائلةً ما دوافعه؟ أجبتها إن السبب المحوريَّ له ليس العُنف الأسري فقط وغياب الحنان والوحدة ولكن السبب المحوري هو الانتقاد الدائم و فقدان الثقة التام بالآخرين والرغبة الأساسية البشرية المُلِحَّة في التحدث إلى أحد وأخذ العاطفة ما شئت وكيفما أشاء فالعنف المستمر تجاهي جعلني أرفض المحيطين بي كما أفقدوني ذاتي ببوتَقةِ تيهٍ فرضوها عليَّ إلى أن رأيت يونس كنت حاملاً في الشهر الثامن وسافرت الدكتورة التي تتابع حملي إلى مؤتمر طبي وحلَّ مكانها في المركز الطبي الطبيب يونس شاب يكبرني بخمسة أعوام، نحن نتشارك في نفس البرج ونفس الصفات فهو يميل إلى العزلة يعشق السفر والبحر يميل إلى البيوت ذات الطابقين يعشق الموسيقى الوترية حتى ولو لفنانٍ مغمور و الأنكى مِن ذلك عشق الخيل والسفن قرأت ذلك عنه في مدونته على الفيس بوك فأنا أصبحت مِن متابعيه لَمْ يجذبني لطوله الذي يضاهي المائة و تسعون مترًا ولا لبشرته الخمرية وشعره الأسود المُنسدل لنهاية أذنه والمتطاير على جبينه ولكن جملة قرأتها كان يحبرها بقلمه عند دخولي غرفة الكشف (التجربة ليس ما يحدث للإنسان، بل ما يفعله الإنسان حيال ما يحدث له خاتمًا جملته مأثورة ألدوس هكسلي) أوقفتني جملته ونظرت إلي ما أوصلت حالي إليه لماذا أكمل حياتي في غيبوبة كي أعيش تجربة تخربني، وزاد انبهاري به من الجملة التي تليها والتي يؤمن بها (ليس الحب هو ما يُكَدِّرُ الحياة وإنما عدم الثقة بالحب فرانسوا تروفو) أوقفتني قناعاته ليكون يونس هو المحور الأساسي لتفكيري ولكن هذه التجربة التي سأخوضها قاسية لأنه حيٌ يُرزَق شخص بإمكاني لقائه فهل يسمى ذلك خيانة ، كانت حياتي عبارة عن متابعة له في جميع برامج التواصل الاجتماعي اندمجت داخل حياته اختلس كل ما أملك من فراغ لأقضيه معه انجذبتُ إليه ,حياته ..شخصيته ..تفاصيله حتى شعرت بالخيانة تجاه صالح قسوة الأخير كانت بالغة ..عنفٌ لغوي وجسدي حتى ألِفْتُ على إحساسي بالوحدة كُرهي لذاتي وضعفي أقوى من عزلتي وخلوتي بنفسي وعشقي السري ليونس وهذه كانت بداية لزوال ضلالاتي ومع الإفاقة من غفوتي لازمتني الكآبة , دموعٌ محبوسة في حدقي اشتياقٌ شديد لشخص لا تربطني به إلا متابعة حياته من الخارج، اشتهاء للحياة التي فاتتني انقباض صدري والتوهة التي عايشتها لثمانية عشر عامًا لا تنتهي ولكن عندما هجرَتْني أمل كان لا مفر مِن مضاعفة جرعات مضادات الكآبة التي سحقت هامتي، لازمت الصمت آخذةً نفسًا عميقًا مُغمضة عيني أمحو مِن مخيلتي ما كان يفعله بي صالح قاطعت آنا صمتي بضمة مِن خلفي كنت بأوج الحاجة إليها وأمطرت الدموع من عيني دون توقف ووجهت لي كلماتها بعدما ضمَّت رأسي بين راحتي يديها أُحَيِّيكِ نادية على شفائكِ من دوامة الضلالات التي كنتِ تحيينها أما بالنسبة ليونس و صالح فلابد أن أعرف رواية كليهما منفصلة لأستطيع مساعدتك أما الأدوية فستُقلعين عنها إلى حين سأمنحكِ ما يساعدك على ذلك، أنهيت لقائي معها لأول مرة مجبورة المشاعر وألقيت ما ورائي في ذاكرة محطمةٍ أرمم أطلالها ولكن حبي ليونس ذاكرة في قلبي تكبر كل برهة تمحو ذكرياتي السيئة وتَحِنُّ على روحي المسلوبة وتضخم ما بداخلي مِن طيب وأنا بفضل حبه أتمكن مِن تحمل الماضي، أمضيت ليلتي أتجول بين الأشجار أعانقها وتعانقني أقترب منها وتبتعد وأقترب حتى انتهى الطريق بي أمام فندق.
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.