جرت (ندى) ابنتى ذات السبعة أعوام إليَّ هاتفةً بلهفةٍ؛ فاستقبلتها فاتحةً ذراعيَّ لأضمها، وأسألها عمّا تريد؛ فأجابتني:
- أمي، أريد أن تجدلي لي ضفائر
ضحكتُ وقبَّلتها على وجنتيها وقلت:
- ولكن يا صغيرتي شعرك قصيرٌ لا ينفع جدله، عندما تكبرين ويطول شعرك يمكنني أن أجدله لكِ
نظرت إليَّ بعينين ممتلئتين شقاوةً:
- ولكن يا أمي؛ أختي (صافي) لها جدائل طويلة أحبها.
ضحكتُ مجددًا وقلتُ مداعبةً:
- تحبين الجدائل أم صافي؟!
قالت ندى بسرعةٍ:
- أمي.. كليهما بالطبع!.
دخلت (صافي) ذات التسعة أعوام ضاحكة ثم سألتني:
- أين أبي وإخوتي؟
أشرتُ إليها فأقبلت؛ فقبَّلتها وأجبتها:
- ذهبوا جميعًا إلى الحلاق ليصبح شعرهم أقصر من شعرك يا ندى!.
ضَحكتا بمرحٍ وقالت صافي:
- ما رأيكم أن أروي لكم قصةً حتى يعودوا؟
رحَّبتُ أنا باسمة، وصفَّقت ندى بيديها؛ ثم اندفعت إلى أحضان أختها وقالت:
- أجل، أنا أعشق قصصك
قبَّلتها صافي بحب؛ ثم رسمت أمارات الجدِّ على محيَّاها؛ وقالت:
- إنَّ قصتنا عن فتاةٍ رقيقةٍ ذات شعرٍ قصير تدعى ندى...
هتفت ندى:
- انظري يا أمي، هذه القصة عني أنا!
قبَّلتها وأشرت لها أن تصمت لتكمل أختها القصة؛ فصمتت وكلها شوقٌ للاستماع لأختها .
أكملت صافي:
"جلست ندى أمام المرآة، وقالت لها وهي حزينة:
- أريد أن أجدل ضفائري ولكنَّ شعري قصير، كم أتمنى أن تكون لي جدائلُ جميلةٌ مثل (صافي) أختي؛ فهي جميلة بجدائلها الطويلة..
كانت (ندى) تتحدث وهي تعبث بشعرها وهي تنظر إلى المرآة؛ فوجدت أنَّ صورتها لا تعبث به، فتركت شعرها واقتربت من المرآة فوجدت صورتها تلوِّح لها لتقترب؛ فوقفت ندى مندهشة .
فقالت الصورة:
- ندى يا صديقتي؛ أنا أعرفكِ منذ مولدك فقد وُلدنا سويًا، كما أنني أراكِ من خلف المرآة، هل تحبين أن تأتي إلى غرفتي لنمرحَ ونلعب سويًا؟
ردَّت ندى:
- أجل أريد أن آتي ولكن على ألَّا نتأخر، اتفقنا؟
ابتسمت الصورة وقالت:
- اتفقنا، أغلقي عينيكِ وتقدمي، والمسي يدي وبهذا تعبرين المرآة .
بعد أن عبرت ندى المرآة وجدت نفسها في غرفةٍ تشبه غرفتها؛ ولكن كلَّ شيء معكوس، وصوت موسيقى حالمة يملأ الغرفة يأتى من اللامكان، وأضواءٌ مبهرة تغمر المكان تبعث على البهجة، نظرت ندى بذهولٍ إلى الصورة التي قالت لها باسمةً:
- هل أعجبتكِ غرفتي؟ وما رأيك أن نلعب لعبة تصفيف الشعر؟
ردت ندى باندهاشٍ:
- أجل أعجبتني، ولكن ما هي لعبة تصفيف الشعر هذه؟
بدلًا من أن تجيبها أخذت بيدها إلى مرأةٍ مستطيلة فضية الإطار مكتوبٌ عليها بخطٍ رشيق بلون أحمر (اختاري تصفيفتكِ المفضَّلة)..
ثم وقفت الصورة أمامها وقالت:
- أريده طويلًا كثيفًا أسودَ منسدلًا .
فإذا بانعكاس الصورة على المرآة يأخذ التصفيفة التي تريد، أُعجبت ندى بهذه اللعبة؛ ثم بدأتا تلعبانها بأدوارٍ تبادلية؛ ولكن بمرور الوقت شعرت ندى بالملل وقالت:
- لقد مللتُ هذه اللعبة، كما أنني أريد العودة .
نظرت الصورة لها عابسةً وقالت:
- لماذا تريدين العودة؟
ردَّت ندى:
- أريد أن ألعب مع أختي، وأن أجلس مع أمي لتقرأ لي كتابًا حتى يعود أبي وإخوتي.
قالت لها المرآة:
- ما رأيك في أن أريكِ أختكِ ووالدتكِ من خلال المرآة؟
ردَّت ندى:
- وكيف هذا؟!
أجابت الصورة باسمةً:
- ركضًا خلال المرآة، هيا بنا الآن .
أخذت الصورة بيدي ندى وركضتا خلال بوابات المرايا؛ حتى توقفت أمام مرآةٍ ذات لونٍ لبني، شاهدت من خلالها أختها وهي تكتب واجباتها المدرسية، فأخذت ندى تناديها وتشير إليها فلم تلتفت إليها؛ فذعرت لأنَّ هذه أول مرة تتجاهلها، فقالت لها الصورة مهدئة من روعها:
- إنها لا تراكِ ولا تسمعك لأننا خلف المرآة، هيا بنا نذهب لنرى والدتك ماذا تفعل؟
وجذبت يدي ندى وركضت بها إلى أن توقفت أمام مرآةٍ وردية اللون شاهدت من خلالها والدتها تُعدُّ الكعك الشهي الذي تحبه هي وإخوتها؛ ولكن هذه المرة لم تنادِ على أمها ولكنها قالت وهي تنظر إلى أمها:
- أريد العودة، لا أريد أن أظلَّ هُنا بعد الآن .
ردت الصورة بحزن:
- ألهذه الدرجة تريدين العودة؟ هل تكرهينني وتكرهين عالمي إلى هذا الحد؟
قالت ندى بسرعة:
- كلَّا؛ إنني أحببتك وأحببت عالمك المدهش؛ ولكنني اشتقت لأمي وأبي وأختي وأخواتي، فهلَّا عدنا إليهم؟
قالت الصورة:
- هل لي في طلبٍ قبل رحيلكِ؟ أريدك أن تأتي معي إلى (رأس الحكمة)؛ فهي التي سمحت لى بأن أحادثك وآتي بكِ إلى عالمي.
ردت ندى:
- على أن أعود إلى أهلي بعدها.
ابتسمت الصورة وقالت:
- لكِ ذلك، هيا بنا من هنا .
أشارت إلى مرآةٍ ذات إطارٍ متعدد الألوان تدور حوله هالةٌ من الضوء الأبيض، عبرتاها فوجدتا امرأةً شديدة الجمال بالرغم من كبر سنها، كُتب على جبينها (رأس الحكمة)، وأمامها مرآةٌ صغيرة مقعرة ذات إطارٍ ذهبي كُتب عليها (ندى)
رحَّبت رأس الحكمة بندى، وقالت لها:
- لقد سمحت لصورتكِ أن تأتي بكِ إلى عالمنا عندما علمت أنك حزينة لتسري عنكِ؛ فهل أعجبك عالمنا؟
ردت ندى:
- أجل أعجبني كثيرًا .
ابتسمت رأس الحكمة قائلةً:
- إني أعرفك منذ ولادتك، ويمكنني أن أريكِ صورك منذ مولدك إلى الآن .
قالت ندى بلهفةٍ:
- هل يمكنني حقًا مشاهدتها؟!
ردت رأس الحكمة:
- بكل سرور.
ثم لمست المرآة التي كُتب عليها (ندى) بأطراف أصابعها فظهر فيديو لندى منذ ولادتها حتى عبورها المرآة، ذهلت مما رأت وقالت بعد انتهائه: -شكرًا لكِ يا سيدتي، لم أكن أدري أنني كنت صغيرةً إلى هذا الحد.
ضحكت رأس الحكمة وقالت:
- يا صغيرتي الحلوة ألم تلاحظي شيئًا آخر؟
سألت ندى باستغراب وهي تتبادل النظرات مع صورتها: ما هو؟!
أجابت رأس الحكمة بهدوء:
- يا حلوتي، عندما وُلدتِ لم يكن لكِ سوى شعيراتٍ قصيرة جدًا؛ ثم أخذ شعرك يزداد كثافةً وطولًا كلما كبرتِ، عليكِ ألا تتعجلي واعلمي يا صغيرتي أنَّ جمال الفتاة ليس في جدائلها؛ وإنما في علمها وأخلاقها، فكما أنَّ الشعر تاجٌ على رأسك فالعلم والأخلاق يرفعانك لأعلى الدرجات.. هل فهمتِ ماذا أعني يا صغيرتي؟
هزَّت ندى رأسها بالإيجاب، فأردفت رأس الحكمة:
- عديني أنك ستأكلين جيدًا، وتدرسين جيدًا لتصبحي فتاةً ذكيةً رائعة .
هزت ندى رأسها وقالت:
- أعدكِ يا سيدتي.
قالت رأس الحكمة:
- حان الآن موعد الرحيل، فهل أنتِ مستعدة؟
ردَّت ندى:
- أجل مستعدة، ولكن هل يمكنني العودة ثانيةً ومعي أختي؟
ابتسمت رأس الحكمة وهمست وهي تمسُّ رأس ندى بنعومةٍ:
- كلَّا يا صغيرتي لن يمكنك العودة ثانية؛ فبعد رحيلكِ سيغلق الباب خلفك للأبد؛ ولكن تأكدي أننا نراكِ من خلف المرآة.. وداعًا يا جميلتي .
استيقظت ندى فوجدت نفسها نائمةً على كرسيها أمام المرآة، فنظرت إلى المرآة فوجدتها تعكس صورتها كما هي، فابتسمت وجرت تنادي على أختها وأمها لتقص عليهما حلمها الغريب"..
صمتت (صافي) ثم قالت:
- هل أعجبتكما القصة؟
ردت ندى بتصفيقٍ حاد ثم قبلتها وقالت:
- إنها رائعة جدًا، وسأنتظر إلى أن أكبر لأجدل ضفائري مثلك، وسأدرس وأجتهد لأكون مثلك فتاةً ذكية وجميلة.
ضحكتُ وضممتهما وقلت:
- إنَّ القصة أكثر من رائعة، والأروع أنَّ ندى فهمت الحكمة منها، بوركتِ يا ابنتي.
وفي أثناء ذلك دخل علينا زوجي وأولادي الثلاثة حالقي الرؤوس.
وسأل ابنى الأصغر (أكرم):
- علامَ تضحكون؟!
ثم اندفع يجري مرتميًا بين أحضاني، فقلت له:
-هذه قصةٌ طويلة سترويها ندى وصافي ونحن نأكل الكعك مع الشاي، فقد أعددت لكم الكعك الذي تحبونه..