Horof

Share to Social Media

لَنْ أَبْحَثُ عَنْكِ بَيْنَ الوُجُوهِ، لَسْتُ أَنَا مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ.
لَنْ أَتَصَوَّرُكِ كَفَرَاشَةٍ مُلَوِّنَةٍ تَسْبَحُ فِي هَوَاءِ غُرْفَتِي، تُدَغْدِغُ مَشَاعِرِي الَّتِي أُغْرِقَهَا الحُزْنُ، صَدِّقِينِي لَا أَعْرِفُ حَتَّى كَيْفَ أَفْعَلُ ذَلِكَ؟!
سَأَشْرَبُ قَهْوَتَي كُلَّ صَبَاحٍ وَأُدَخِّنُ سِيجَارَتَي بِبُطْءٍ شَدِيدٍ، سَأَقِفُ فِي شُرْفَتِي، أُطَالِعُ وُجُوهَ المَارَّةَ وَسَتَضْرِبُ مُخَيِّلَتَيْ صُور لَكِ كَرَصَاصَاتٍ سَرِيعَةٍ الطَّلْقَاتُ، ثُمَّ سَتَصْعَدُ إِلَى أَعْلَى كَوُرَيْقَاتٍ مُحْتَرِقَةٍ بِأَطْرَافٍ مُتَوَهِّجَةٍ سُرْعَانَ مَا سَتَخْبُو.
سَأَبْتَلِعُ مَعَ كُلِّ رَشْفَةٍ بَسْمَةَ مِنْ اِبْتِسَامَاتِكِ، سَأَنْفُضُ مَعَ رَمَادِ سِيجَارَتِي فِي كُلِّ مَرَّةٍ ضِحْكَةً مِنْ ضِحْكَاتِكَ، سَأَسْحَقُ وَهَجَ السِّيجَارَةِ وَقَدْ شَارَفْتُ عَلَى نِهَايَتِهَا تَحْتَ قَدَمَيَّ وَأَسْحَقُ مَعَهَا عَيْنَيْكِ البَرَّاقَتَيْنِ الفَرِحَتَيْنِ دَائِمًا.
لَنْ أَتَهَرَّبُ مِنْ حُزْنِي، لِيَتَلَذَّذَ بِمُطَارَدَتِي، وَلَكِنَّي سَأَدْعُوهُ لِلجُلُوسِ أَمَامِيٍّ حَتَّى أَسْخَرَ مِنْهُ، سَأَجْعَلُ حُزْنِي يَضْحَكُ مِنْ فَرْطِ سُخْرِيَّتَيْ مِنْهُ، سَأَسْتَمِعُ لِفَيْرُوزَ مَعَ قَهْوَتِي كَمَا اِعْتَدْتُ أَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ فِي حُضُورِكَ لَيْسَ لِأَتَذَكَّرَ تَلْكُمُ الأَيَّامُ وَلَكِنَّ لِأَنَّي أَحِبّ فيروزٌ فَقَطْ.
سَأَتْرُكُ طَيْفَكِ خَارِجَ سَيَّارَتِي وَأَتَّخِذُ مُقْعَدِي خَلْفَ المِقْوَدِ بِهُدُوءٍ، سَأَبْتَسِمُ لَكِ اِبْتِسَامَةً جَرَّدْتُهَا مِنْ ثَوْبِ المَشَاعِرِ، سَتَكُونُ اِبْتِسَامَةً بَارِدَةٌ لَا تَحْمِلَ شَمَاتَةً أَوْ كَرَاهِيَةً أَوْ حَنِينًا، سَأَتَحَرَّكُ بِالسَّيَّارَةِ عَلَى وَقْعُ نَغَمَاتٍ هَادِئَةٍ، متطلعًا لِوَجْهِي فِي المِرْآةِ، سَأَلْمَحُ الحُزْنَ فِي عَيْنِي وَسَأَضْحَكُ مِنْ ذَلِكَ سَاخِرًا..
لَنْ أَنْظُرُ إِلَى مَقْعَدِكَ الخَالِي بِجِوَارِي لِأُهَدْهِدَ فِيهُ مَشَاعِرَ مُتأجِّجَةً، سَأَضَعُ بِكُلِّ بَسَاطَةٍ يَدَي اليُمْنَى عَلَى مَقْعَدِكِ الخَالِي لِأُرَيِّحَ جَانِبَيْ الأَيْمَنِ وَأَنَا أَقُودُ السَّيَّارَةَ بيُسرايَ فِي خُيَلَاءَ.
لِرُبَّمَا سَيُصَاحِبُنِي وَجْهُكِ لِأَوْقَاتٍ كَثِيرَةٍ وَلَكِنَّهَا سَتَمْضِي سَرِيعًا لِأَنَّي سَأَكُونُ مَشْغُولًا عَنْهَا بِأَفْكَارٍ حَمْقَاءَ وَالكَثِيرُ مِنْ النِّكَاتِ السَّخِيفَةَ المُضْحِكَةُ، لَنْ أَبْكِي فِرَاقَكِ فِي الخَفَاءِ وَلَنْ أُلْقِيَ بِحِكَايَاتِكَ عَلَى طَاوِلَةِ أَصْدِقَائِي، وَلَنْ أَتَظَاهَرَ بِنِسْيَانِكِ لِأَنَّنِي سَأَكُونُ وَقْتُهَا مَشْغُولًا مِثْلَهِمْ، أُتَابِعُ بِكُلِّ حَمَاسٍ مُبَارَاةَ كُرَةِ قَدَمٍ أَوْ فِيلْمٍ تَافِهٍ.
لَنْ أُنْكِرُ أَنَّكِ لَأَزَلْتِ حَبِيبَتَي وَلَكِنَّي سَأَتَجَاوَزُ كُلٌّ هَذَا وَأَنَا أُتَابِعُ القَنَاةَ الإِخْبَارِيَّةَ فِي المَسَاءِ قَبْلَ أَنْ أَخْلُدَ لِنَوْمٍ عَمِيقٍ جِدًّا، لَنْ يَكُونُ لَكِ فِيهُ أَيُّ حُضُورٍ، سَيَكُونُ حُلْمَيْ شَاشَةٍ سَوْدَاءَ، فَقَطْ لِأَنَّي أَنَامُ بِعُمْقٍ.



حَبِيبَتُي، قَرَّرْتُ اليَوْمَ وَبِكُلِّ بَسَاطَةٍ أَنْ أَخْطُوَ فَوْقَ صُوَرِكِ المَنْثُورَةَ عَلَى اِمْتِدَادِ طَرِيقِي، سَأَتَلَذَّذُ بِفِعْلٍ ذَلِكَ، لَا تَحْسُبِي أَنَّي أَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْ فَرْطِ غَضَبِي مَنِّكِ أَوْ كَرَاهِيَةً تَنْمُو كَنَبْتٍ شياطني بِجَوْفِي، سَأَضْحَكُ مِلْءَ شدقيَّ إِذَا تَصَوَّرْتِ ذَلِكَ.
أُعذريني، فَقَطْ قَرَرْتُ أَنْ أُفَرِّشَهَا عَلَى اِمْتِدَادِ طَرِيقِي حَتَّى تُرْشِدَنِي إِلَى ذَلِكَ المَحَلِّ الكَائِنُ بِنِهَايَةِ الطَّرِيقُ، نَعَمْ، هَلْ تُذَكِّرِينَ ذَلِكَ المَحَلَّ؟ بِالتَّأْكِيدِ تُذَكِّرِينَهُ جَيِّدًا، فَكَانَ فِيهُ أَوَّلُ لِقَاءٍ لِنَّا، لَنْ يَدْفَعُنِي إِلَيْهُ الحَنِينُ إِلَى عِطْرِكَ البهي وَلَكِنَّ لِأَنَّي أُرِيدُ فَقَطْ أَنْ أَبْتَاعَ مَنْدِيلًا، سَتَتَصَوَّرِينَهُ مُبَرِّرًا وَاهِيًا، وَسَتَسْخَرِينَ مِنْ سَذَاجَةِ هَذَا المُبَرِّرِ، مَعَكِ كُلُّ الحَقِّ، وَلَكِنَّ أَنْفِي المَزْكُومَ هُوَ مُبَرِّرِي الحَقِيقِيُّ!
مِنْ الطَّبِيعِيِّ جِدًّا أَنْ تُطَارِدِينِي بَيْنَ الفَيْنَةِ وَالأُخْرَى، لَيْسَ بِالأَمْرِ المُسْتَغْرِبِ أَوْ حَتَّى الكَرِيهُ، كُنْتُ أَتَوَقَّعُ ذَلِكَ، أَحْيَانًا أَبْتَسِمُ لَكِ اِبْتِسَامَةً بَاهِتَةً وَأَحْيَانًا أُخْرَى أَتَجَاهَلُكِ تَمَامًا وَقَدْ شَغَلَنِي مَوْضُوعٌ مَا.
أُعِيدُ قِرَاءَةَ الكُتُبِ الَّتِي قَرَأْنَاهَا مِنْ قَبْلُ سَوِيًّا، أَسْتَعِيدُ بَيْنَ الأَسْطُرِ الكَثِيرُ مِنْ تَعْلِيقَاتِكِ الغَاضِبَةَ وَالمَرِحَةَ والمُستاءة، أُعِيدَ إِنْشَاءَ مَا دَارَ بِيَنِنَا مِنْ أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ وَأَتَذَكَّرُهَا عَلَى التَّفْصِيلِ، أَحْيَانًا يُخْرِجُ وَجْهَكَ المُسْتَتِرَ مِنْ وَرَاءِ الحُرُوفِ لِأَضْحَكَ وَفِي أَحْيَانٍ أُخْرَى أَغْلَقَ الكِتَابُ عَلَى صُورَتِكِ الهَارِبَةُ مِنْ بَيْنِ الأَحْرُفِ حَتَّى لَا تُطَارِدَنِي فِي كُلِّ زَوَايَا البَيْتِ.
سَأَتَذَكَّرُكِ لِأَنَّ الإِنْسَانَ مَجْبُولٌ عَلَى التَّذَكُّرِ، وَأَمَّا النِّسْيَانُ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةٍ مَا يَتَمَنَّاهُ الإِنْسَانُ وَلَا يتحّصَّل عَلَيْهِ أَبَدًا، قَدْ نَنْجَحُ فِي خِدَاعِنَا وَخِدَاعِ مِنْ حَوْلِنَّا بِأَنَّنَا نَسِينَا وَلَكِنَّنَا أَبَدًا لَا نَنْسَى، نَظَلُّ نَتَذَكَّرُ!
أَمْسِ قَالَ لِي صَدِيقِي الحُبَّ الَّذِي يُنْتَهَى بِالفِرَاقِ هُوَ كَالحَمْلِ الكَاذِبِ، عَرَفْتُ أَنَّهُ اِسْتَعَارَ هَذِهِ العِبَارَةَ مِنْ الفَيْس بُوك، فَضَحِكْتُ كَثِيرًا... كَثِيرًا، يَجِبُ أَنْ يَشْكُرَ الفَيْس بُوك عَلَى أَنَّهُ جَعَلَ لِسَانَهُ يَلوكُ بِضْعَةَ مُفْرَدَاتٍ تَبْدُو بَرَّاقَةً، تَجْعَلُ مِنْهُ عَنْ طَرِيقِ الخَطَأِ شَخْصًا يَفْهَمُ!. وَالحَقِيقَةَ أَنَّهُ لَا يَفْهَمُ شَيْئًا، حَتَّى أَنَا لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَدَّعِيَ أَنَّي أَفْهَمُ، لَمْ أَنْسَاكِ صَدِّقِينِي وَلَكِنَّ مَلَامِحُكِ الآنَ تَبْدُو ضَبَابِيَّةً جِدًّا وَأَحْيَانًا تَغْزُونِي مَلَامِحُكِ جَلِيَّةٌ وَلَكِنَّ فِي الأَغْلَبِ تَبْدُو غَائِمَةً إِلَّا مِنْ عَيْنَيْنِ بَرَّاقَتَيْنِ سُرْعَانَ مَا يَسْتَتِرَا خَلْفَ غَيْمَةٍ رَمَادِيَّةٍ قَاتِمَةٌ.


سَأَنْتَعِلُ حِذَائِي الأَسْوَدُ وَسَأَتَذَكَّرُ بِالتَّأْكِيدِ أَنَّكِ كُنْتِ تَجْلِبِينَهُ بِنَفْسِكِ اِلِي.. سَأَرْتَدِي قَمِيصِي الأَبْيَضَ وَسَأَتَذَكَّرُ لِأَشُكَّ أَنَّكِ كُنْتِ تَقُومِينَ بِكَيِّهِ مِنْ أَجْلِيَّ.
سَأَتَذَكَّرُ وَأَنَا أُمَارِسُ أَفْعَالِي اليَوْمِيَّةَ الاِعْتِيَادِيَّةَ، أَنَّ لِكُلِّ مُمَارَسَةٍ مِنْ هَذِهِ ذِكْرُي لصيقة بِكَ.. حَتَّى كُوبُ الشَّايِ بِالحَلِيبِ، سَتَحْمِلُ فِي طَيَّاتِهَا ذِكْرَى تَبُثُّ رَائِحَتُكِ مَصْحُوبَةً بِعَيْنَيْكِ النَّاعِسَتَيْنِ.
سَأُدَخِّنُ سِيجَارَتَي وَأَتَذَكَّرُ عَلَى الفَوْرِ مَلَامِحَ وَجْهِكِ المُتَقَلِّصَةَ تُعَبِّرُ عَنْ اِمْتِعَاضٍ غَيْرِ حَقِيقِيٍّ، سَأَتَذَكَّرُ سُعَالَكِ المُفْتَعَلَ لِتَنْبِيهِي وَاِبْتِسَامَتِي الخَبِيثَةِ مُتَجَاهِلًا سُعَالَكِ المُفْتَعَلَ.
سَأَتَذَكَّرُ صَدِّقِينِي كُلُّ ذَلِكَ وَلَكِنَّ سَأُحَاوِلُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ تُدَاهِمُنِي فِيهَا هَذِهِ الذِّكْرَيَاتُ أَنْ أَصْرِفَهَا بَعِيدًا عَنْ ذِهْنِي لِأَنَّ قَلْبِي لَا يَعْتَصِرُهُ الحُزْنُ عِنْدَمَا يَتَذَكَّرُ تِلْكَ اللَّحَظَاتِ بَلْ يَبْقَى بِأَرْدَا، لَا أُرِيدُ لِذِهْنِي أَنْ يَنْشَغِلَ بِكِ أَكْثَرُ مِنْ اللَّازِمِ حَتَّى لَا يَتَوَقَّفَ قَلِّبِي يَوْمًا عَنْ الخَفْقِ!
سَأَتَذَكَّرُ أَيْضًا عِيدَ مِيلَادِكِ الَّذِي كُنْتُ أَنْسَاهُ عِنْدَمَا كُنْتِ مَعَي، لَيْسَ بِالأَمْرِ المُسْتَغْرِبِ أَنْ يَكُونَ حُضُورَ هَذِهِ المُنَاسَبَاتِ قويًا فِي غِيَابِكَ، غَائِبًا فِي حُضُورِكَ، لَيْسَ غَرِيبًا أَبَدًا أَنْ أَتَذَكَّرَ عَيْنَيْكِ المكتحلتين الآنَ وَلَا تَلْفَتَ اِنْتِبَاهِي عِنْدَمَا كُنْتِ تَفْرَغِينَ مِنْهَا بَعْدَ تَحْدِيقِكَ لِوَهْلَةٍ فِي المِرْآةِ.
الآنَ سَأَتَذَكَّرُ كُلٌّ هَذَا وَسَأَبْتَسِمُ وَأَيْضًا، أَعِدّكِ أَنْ أُحْزِنَ وَلَكِنَّ سَيَكُونُ هَذَا لِبَعْضِ الوَقْتِ فَقَطْ!
سَأَجْلِسُ إِلَى مَقْعَدِي المُحَبَّبُ بِالشُّرْفَةِ وَأَلْقِي نَظْرَةً عَابِرَةً عَلَى مَقْعَدِكَ وَاِبْتَسَمَ وَسَيَهْتَزُّ جَسِّدِي لِذِكْرَى جَمِيلَةٍ سُرْعَانَ مَا سَتَتَبَخَّرُ فِي هَوَاءِ اللَّيْلِ السَّاكِنُ تَمَامًا.
حَقًّا إِنَّي أُجَاهِدُ لِأُبْقِيَكِ حَيَّةً فِي ذَاكِرَتِي وَلَكِنَّ دُونَ جَدْوَى كَثِيرًا مَا تَهْرُبِينَ مِنْ ذَاكِرَتِي، لَا أَعْرِفُ هَلْ تُمَارِسِينَ لُعْبَةَ الإِخْفَاءِ؟ وَلَكِنَّي حَقًّا لَمْ أُعِدْ أَتُوقُ لِظُهُورِكَ أَوْ أَعْبَأُ لِغِيَابِكَ، فَقَطْ لَا أَعْطَى أَيُّ اِنْطِبَاعٍ عَنْ غِيَابِكَ أَوْ حُضُورُكِ سِوَى القَلِيلِ مِنْ السَّعَادَةِ وَالحُزْنِ وَمِنْ ثَمَّ يَمْضِي الأَمْرَ سَرِيعًا.
أَسْرَعُ مِمَّا أَتَصَوَّرُ تَذْهَبُ رِيَاحُكِ وَيَحُلُّ مَحَلَّهَا تَفْكِيرٍ آخَرَ، التَّفْكِيرُ فِي اللاشيء، البَحْثُ عَنْ مَجْهُولٍ لَا يُذْكِي حَمَاسَتَي لِلبَحْثِ عَنْهُ أَكْثَرَ وَلَكِنَّهُ يُشْغِلُ وَقْتِي بِالقَدْرِ الكَافِي.
كُلَّ يَوْمٍ سَأَتْرُكُ خَلْفَ بَابِ غُرْفَتِي حَدَثٌ كَانَ يَجْمَعُنِي بِكَ، بَلْ حَقِيقَةً قَدْ فَعَلْتُ ذَلِكَ عَلَى مَدَارِ الأَيَّامِ المَاضِيَةِ، حَتَّى أَنَّنِي ذَاتُ يَوْمٍ حَاوَلْتُ دَفْعَ بِأبَ الغُرْفَةِ فعنادني فِي ذَلِكَ وَلِمَا بَذَلْتُ مَجْهُودًا مُضَاعَفًا لِدَفْعِهِ وَجَدْتُ الكَثِيرَ مِنْ الأَحْدَاثِ الَّتِي تَرَكْتُهَا عَنْ عُمَدٍ قَدْ تكوَّمت خَلْفَ البَابِ.
شَعَرْتُ بِالدَّهْشَةِ أَوْ تَظَاهُرَتُ بِذَلِكَ، ضِحْكَتُ كَثِيرًا، لِأَوَّلِ مَرَّةٍ أَضْحَكُ بِهَذَا العُمْقِ، وَبِهَذَا القَدْرِ الكَبِيرِ مِنْ السَّعَادَةِ، قَرَّرْتُ أَنْ أُلَمْلِمَ كُلَّ هَذِهِ الأَحْدَاثِ، وَجَمَعْتُهَا مُرَتَّبَةً فِي صُنْدُوقٍ كَرْتُونِيٌّ، آسَفُ حَبِيبَتُي لَمْ يَكُنْ لَدَيَّ صُنْدُوقٌ قَدِيمٌ خشبيٌ يَلِيقُ بِهَذِهِ الأَحْدَاثِ، فَقَطْ صُنْدُوقٌ كَرْتُونِيٌّ جَمَعْتَ فِيهُ كُلُّ هَذِهِ الأَحْدَاثِ وَوَضَعْتَهُ تَحْتَ فِرَاشِي.
الحَقِيقَةُ أَنَّنِي هَذَا اليَوْمَ نِمْتُ جَيِّدًا وَرَغْمَ أَنَّنِي لَمْ أَرَى نَفْسِي وَلَكِنَّي أَسْتَطِيعُ الجَزْمَ بِأَنَّنِي كُنْتُ مُبْتَسِمًا طِوَالَ نَوْمِي، نَعَمْ تَسَرَّبَ الحَدَثُ تِلْوَ الآَخِرِ مِنْ ذَلِكَ الصُّنْدُوقِ إِلَى رَأْسِي لِيَنْطَبِعَ فِي أَحْلَامِي لِيَتَبَخَّرْ فَيَتْلُوهُ حَدَثٌ آخَرُ وَهَكَذَا حَتَّى أُمْضِيَتْ اِثْنَتَا عَشْرَةُ سَاعَةً نَائِمًا.
نَعَمْ، تَخْمِينُكِ أَصَابَ بِكُلِّ دِقَّةٍ، عِنْدَمَا فَتْحَتُ ذَلِكَ الصُّنْدُوقُ الكَرْتُونِيُّ وَجَدَتْهُ خَالِيًا مِنْ كُلِّ الأَحْدَاثِ الَّتِي رَتَّبَتْهَا فِيهُ أَمْسِ بِعِنَايَةٍ فَائِقَةٌ.



سَأَفْعَلُ كَمَا غِنَى كَاظِمَ سَتَكُونِينَ أَنْتِ الشَّجَرَةُ الَّتِي أُعَلِّقُ عَلَيْهَا هُمُومِي وَأَحْدَاثِي اليَوْمِيَّةَ الرُّوتِينِيَّةَ وَبَعْضًا مِنْ مَلَابِسِي، وَسَأَرْقُبُ تَسَاقُطَ كُلٌّ هَذَا مِنْ أَغْصَانِ شَجَرَتِكَ كَأَنَّهُ الخَرِيفُ، وَبَعْدُ مَضَى عِدَّةُ أَيَّامٍ سَأَرْقُبُ جَفَافَ تِلْكَ الهُمُومِ وَالأَحْدَاثَ اليَوْمِيَّةَ وَذُبُولُهَا.
سَيَأْتِي اليَوْمَ الثَّالِثُ لِتَتَحَوَّلَ بِفِعْلِ التَّحَلُّلِ إِلَى ذَرَّاتٍ مِنْ الرَّمْلِ، سَأُكَنِّسُهَا سَرِيعًا حَتَّى لَا تَلَوَّثَ المَنْزِلُ كُلُّهُ وَسَيَكُونُ العَالِقَ عَلَى شَجَّرْتَكِ بَعْضٌ مِنْ مَلَابِسِي فَتَتَحَوَّلِينَ بِفِعْلِ الزَّمَنِ إِلَى مِشْجَبٍ جَيِّدٌ لِمَلَابِسِي المُبَعْثَرَةِ.
لَسْتُ أَسْخَرُ مِنْكِ صَدِّقِينِي، وَلَكِنَّي أَشْعُرُ بِجَفَافِ مَشَاعِرِي كَجَفَافٍ بِحَيْرَةٍ صَغِيرَةٍ، أَشْعُرُ بِسُكُونِ الكَوْنِ مِنْ حَوْلِيَّ، لَا تُحَرِّكُنِي أَيُّ ذِكْرَيَاتٍ وَلَا تَنْتَابَنِي أَيُّ مَشَاعِرِ تَغَيُّرٍ مِنْ حَالَتَيْ بَيْنَ الاِكْتِئَابِ وَالحُزْنِ وَالسَّعَادَةِ، وَكَأنَ مَشَاعِرِي قَرَّرَتْ أَنْ تَسْكُنَ الفَرَاغَ لِأَجَلٍ غَيْرِ مُسَمًّى أَوْ حَتَّى مُسَمًّى، وَلَكِنَّي أَشْعُرُ بِفَرَاغٍ كَبِيرٍ مِنْ حَوْلِيَّ، يَجْعَلُنِي بِأَرْدَاً إِلَى أَقْصَى حَدٍّ.
جَمِيعُ مَشَاعِرِ الحَمَاسَةِ الَّتِي تَعْتَرِينِي وَسْطَ أَصْدِقَائِي هِيَ مُفْتَعَلَةٌ، غَيْرُ صَادِقَةٍ بِالمَرَّةِ، فَقَطْ أُجَارِيهُمْ حَتَّى لَا يَنْفِرُونَ مِنِّي، نَعَمْ لَأَزَلْتِ تَجْلِسِينَ فِي كُلِّ مَقْهًى تَطَأُهُ قَدَمِي، تَتَوَاجَدِينَ فِي كُلِّ الأَمَاكِنِ الَّتِي أَزُورُهَا، لَمْ يَصُبَّنِي الجُنُونُ بَعْدُ وَلَكِنَّي أُشَاهِدُكَ بِوُضُوحٍ، تَبْتَسِمِينَ وَتَبْكِينَ بِدُونِ مُبَرِّرٍ.
هِيَ مُجَرَّدُ صُور تَخْتَزِنُهَا ذَاكِرَتُي لَكِ، تَتَدَافَعُ بِدُونِ تَرْتِيبٍ لِتُبْرِقَ أَمَامَي كومضات تُؤْذِي عَيْنِي كَثِيرًا، الأَمْسُ عَلَى سَبِيلِ المِثَالِ وَجَدَتْكِ تَجْلِسِينَ بِأَرْيَحِيَّةٍ فِي المَقْعَدِ الخَلْفِيُّ لِسَيَّارَتِي، عَيْنَاكِ تَخْتَرِقُ مَلَامِحِي وَهِيَ تَنْظُرُ إِلَيَّ عَبْرَ المِرْآةِ الدَّاخِلِيَّةُ لِلسَّيَّارَةِ، لِبَعْضِ الوَقْتِ كُنْتُ أُحَاوِلُ اِخْتِرَاقَ مَلَامِحِكِ وَلَكِنَّي لَمْ أَنْجَحْ، قِمَّتُ بَهُزُّ رَأْسِي عِدَّةَ مَرَّاتٍ لِتَنْصَرِفَ صُورَتُكِ وَلَكِنَّ أَبَدًا لَمْ أَنْجَحْ.
أَدَرْتُ مُحَرِّكَ السَّيَّارَةِ وَاِنْطَلَقْتُ، تَظَاهَرْتُ بِأَنَّنِي مُنْشَغِلٌ بِالطَّرِيقُ، وَلِمَا حَانَتْ مُنَى التفاتة أُخْرَى للمرآة الدَّاخِلِيَّةُ لِلسَّيَّارَةِ، كُنْتِ تَبْكِينَ، رُبَّمَا كَانَتْ هَذِهِ هِيَ المَرَّةَ الأُولَى مُنْذُ رَحِيلِكَ الَّتِي أَشْعَرُ فِيهَا بِقَبْضَةٍ قَوِيَّةٍ تَعْصِرُ قَلْبِي، لَمْ أَبْكِي، لَمْ تَنْقَلِبْ مَلَامِحِي عَلَى أَيِّ نَحْوَ، فَقَطْ قَبْضَةٌ قَوِيَّةٌ تَعْصِرُ قَلْبِي وَتَقَلُّبَهُ يَمِينًا وَيَسَارًا.
حَاوَلْتُ أَنْ أَنْشَغِلَ مَرَّةً أُخْرَى بِالطَّرِيقُ وَعِنْدَمَا أَعَدْتُ النَّظَرَ إِلَى المِرْآةِ الدَّاخِلِيَّةُ كَنِتِ قَدْ رَحَلْتِ فَحَمِدْتَ اللّةٌ كَثِيرًا وَكَأنَ قَلْبَيْ تَحَرُّرٍ مِنْ أُسَرِ تِلْكَ القَبْضَةِ الَّتِي تَعْصِرُهُ.
تَوَقَّعْتِ أَنْ تُدَاهِمَنِي بَعْضُ المَشَاعِرِ بَيْنَ الفَيْنَةِ وَالأُخْرَى وَلَكِنَّ عِنْدَمَا دَاهَمْتَنِي هَذِهِ المَرَّةَ كَانَتْ قَوِيَّةً بِأَكَثُرَ مِمَّا أَحْتَمِلُ وَلَكِنَّهَا مَرَّتْ لَيْسَ لِأَتَنَفَّسَ الصُّعَدَاءَ وَلَكِنَّ لِأَصِفَ السَّيَّارَةَ جَانِبًا وَأُغْفِلُ قَلِيلًا، شَعَرْتُ بِإِجْهَادٍ شَدِيدٍ.
يُتْعِبُنِي حُضُورُكِ وَتُجِلِّيكِ فِي بَعْضِ الأَوْقَاتِ.
يُتْعِبُنِي تِلْكَ الفَرَاشَاتُ الَّتِي تّطيرينها عَنْ عَمْدٍ مِنْ بَيْنِ أَكُفِّكَ لِتُحَلِّقَ مِنْ حَوْلِيَّ لَيْسَ لِتُضْفِيَ مَشْهَدًا جَمِيلًا عَلَى مُخَيِّلَتِي، أَبَدًا، وَلَكِنَّ لِتُؤْرِقَنِي وَتُعَذِّبُنِي وَتُذَكِّرُنِي بِحُضُورِكَ رَغْمَ رَحِيلِكَ.
أَكْرَهُ أَنْ أَرَى تِلْكَ الفَرَاشَاتِ الَّتِي تّطيرينها، أَضْرِبُ بِيَدِي الهَوَاءِ لِتَطِيرَ بَعِيدًا، تَظَلُّ تَحُومُ حَوْلَي لِفَتْرَةٍ مِنْ الوَقْتِ ثُمَّ تَتَبَخَّرُ بَيْنَ أَكُفِّكَ لِأَلْمَحَ اِبْتِسَامَةً خَبِيثَةً تَرْتَسِمُ عَلَى شَفَتَيْكَ وَأَنْتِ تُغَادِرِينَ المَكَانَ عَلَى مَهْلٍ، مُنْتَشِيَةٌ، مُنْتَصِبَةُ القَامَةِ فِي اِنْتِصَارٍ.
أَهُزُّ رَأْسِي عَلَى أَفْعَالِكَ الطُّفُولِيَّةَ هَذِهِ وَأُحَاوِلُ أَنْ أَعْتَادَ عَلَيْهَا وَلَكِنَّي كَثِيرًا مَا أَفْشَلُ فِي ذَلِكَ.



قَرَّرْتُ فِي يَوْمٍ غَيْرُ مَعْلُومٍ، أَنْ أَضَعَ كُلَّ يَوْمٍ عَلَى حَائِطِ ذِكْرَيَاتِي صُورَةٍ لَكِ، وَأَحْيَانًا لِنَّا مَعًا، لَمْ يَبْقَى أَيُّ مَسَّاحَةٍ خَالِيَةٍ فِي حَائِطِي إِلَّا وَمَلَأْتُهَا بِصُورَةٍ.
وَقْفَتُ أَتَأَمَّلُ الحَائِطَ ثُمَّ هَدَّمْتُهُ بِقَبْضَةِ يَدَي، أَنْهَارٌ تَمَامًا مُحَدَّثًا دويًا وَغُبَارًا كَثِيفًا وَلَكِنَّ مَا إِنْ وَلَيْتَ الحَائِطَ المُتَهَدِّمَ ظَهْرِيٌّ ثُمَّ أَعَدْتُ النَّظَرَ مَرَّةً أُخْرَى، رَأَيْتُ الحَائِطَ قَائِمًا تُعِيدِينَ عَلَيْهِ تَرْتِيبُ صُوَرِنَا، تَسْتَدِيرِينَ لِي بَيْنَ الحِينِ وَالآخَرِ تَبْتَسِمِينَ ثُمَّ تُوَاصِلِينَ تَعْلِيقَ الصُّوَرِ بِحَمَاسٍ شَدِيدٍ.
جَلَسْتُ عَلَى مُقْعَدِي الهَزَّازُ أَتَأَمَّلُ حَرَكَاتِ جَسَدِكَ الرَّشِيقَةِ وَهِيَ تُعِيدُ نَثْرَ الصُّوَرِ عَلَى الحَائِطِ، أَبْتَسِمُ، أُتَابِعُ فِي صَمْتٍ، أَبْتَسِمُ مَرَّةً أُخْرَى.
اِتَّجَهْتُ إِلَى بَابِ المَنْزِلِ اِفْتَحْهُ لِأَجَدَّ أَمَامَي تِلْكَ الحَدِيقَةُ الَّتِي اِعْتَدْنَا اِرْتِيَادَهَا فِي نِهَايَةٍ كُلُّ أُسْبُوعٍ، لَمْ أَبْتَسِمْ وَلَكِنَّ تَمْلِكُنِي الفُضُولُ لِأَنَّ أَسِيرٌ عَلَى مَهْلٍي أَتَأَمَّلُ الأَشْجَارَ مِنْ حَوْلِيَّ وَبَعْضُ الأَزْهَارِ، نَعَمْ، سَمِعَتْ زَقْزَقَةُ العَصَافِيرِ وَلَكِنَّي لَمْ أَرَى قَوْسَ قُزَحَ لِأَنَّ الوَقْتَ كَانَ صَيْفًا.
وَكَمَا رَاوَدَنِي الحَمَاسُ الشَّدِيدُ، سَرِيعًا مَا دَاهَمَنِي أَيْضًا المَلَلُ الشَّدِيدُ فَقَرَّرْتُ العَوْدَةَ إِلَى المَنْزِلِ وَلَكِنَّ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ ذَلِكَ البَابُ، لَقَدْ اِكْتَسَى تَمَامًا بِنَبَاتٍ زَاحِفٌ أَخْفَى كُلُّ مَعَالِمِهِ وَأَعْلَى ذَلِكَ النَّبَاتِ الزَّاحِفُ كُنْتِ تَجْلِسِينَ تَطُوحِينَ قَدَمَيْكِ كَطِفْلَةٍ سَعِيدَةٍ.
بِخُيَلَاءَ وَضَعْتُ يَدِي فِي جَيْبِي أَتَطَلَّعُ إِلَيْكِ، أُعِيدَ تَشْكِيلُكِ مَرَّةً أُخْرَى، لَمْ تَكُنْ مَلَامِحُكِ ضَبَابِيَّةٌ هَذِهِ المَرَّةَ وَلَكِنَّهَا جَلِيَّةٌ وَأَنْتِ تَدْفَعِينَ الكَثِيرَ مِنْ خُصُلَاتِ الشَّعْرِ خَلْفَ أُذْنَيْكِ، ذَلِكَ الشَّعْرُ المُمَوَّجُ، تَهُزِّينَ كَتْفَيْكِ فِي بَرَاءَةِ الأَطْفَالِ كَأَنَّكِ تَقُولِينَ: لَا أَعْرِفُ أَيْنَ ذَهَبَ البَابُ؟
سِرْتُ حَتَّى تَوَقَّفْتُ أَمَامَ شَجَرَتَيْنِ متعانقتين يُشَكِّلَانِ قَوْسًا جَمِيلًا يُفَرِّشَانِ الأَرْضَ العُشْبِيَّةَ بظلٍ وَافِرٌ، قَرَّرْتُ أَنْ أَتَمَدَّدَ هُنَاكَ لِبَعْضِ الوَقْتِ، تَارِكًا لجفنيَّ الحُرِّيَّةُ فِي أَنْ يَنْسَدِلَا كَسَتَائِرِ الشِّتَاءِ عَلَى عَيْنَيَّ.
عِنْدَمَا اِسْتَيْقَظْتُ كُنْتُ أَتَصَبَّبُ عَرَقًا، بَلْ الأحرى أَنَّي كُنْتُ غَارِقًا فِي عَرَقِي، نَهَضَتْ مِنْ عَلَى فِرَاشِي تَلْعَبُ بِرَأْسِي ذِكْرَيَاتِنَا سَوِيًّا، تُخّدر رَأْسِيٌّ، تُجْبِرُنِي عَلَى إِغْلَاقٍ عَيْنِيَّ مُحَاولًا دَفَعَ هَذِهِ الذِّكْرَيَاتِ بَعِيدًا وَلَكِنَّ كَمُعْظَمِ الوَقْتِ بِلَا جَدْوَى، اِكْتَشَفْتُ فَجْأَةً أَنَّ اليَوْمَ هُوَ الجُمْعَةَ، كَانَتْ تُمَثِّلُ لِي مُفَاجَأَةً غَرِيبَةٌ مَعَ أَنَّي أَعْلَمُ عِلْمَ اليَقِينِ أَنَّ أَمْسِ هُوَ الخَمِيسَ وَلَكِنَّ لِلدَّهْشَةِ شَعَرَتْ بِالمُفَاجَأَةِ، يغيبني حُضُورُكِ البَاهِتُ عَنْ مَسَارِ الزَّمَنِ، يَنْتَزِعُنِي مِنْهُ وَيَدْفَعُ بِي إِلَى اللازمن، عَبَثِيَّةُ الزَّمَانِ وَالمَكَانِ هُمَا اللَّاعِبَانِ الرَّئِيسِيَّانِ فِي هَذِهِ الفَتْرَةَ تَحْدِيدًا حَيْثُ تُمْسِكِينَ بِخُيُوطِ كُلِّ شَيْءٍ بِبَرَاعَةٍ مُتَنَاهِيَةٌ.
تَنَهَّدْتُ بِعُمْقٍ وَأَنَا أَرَقَبَ بِعَيْنِي ذِكْرَيَاتِكِ وَهِيَ تَتَسَرَّبُ كَذَرَّاتِ غُبَارٍ مِنْ فَمِي مَصْحُوبَةٍ بِشَهْقَاتِكَ المَكْتُومَةِ، يُؤْلِمُنِي صَوْتُ شَهْقَاتِكِ المُلتاعة وَالَّتِي تَتَّهِمُنِي بِالخِيَانَةِ وَلَكِنَّي أَشْعُرُ بِرَاحَةٍ كَبِيرَةٍ الآنَ، جَسِّدِي كُلُّهُ عَلَى نَحْوٍ فُجَائِيٌّ أُصْبِحُ خَفِيفَ الوَزْنِ، غَادَرَنِي ذَلِكَ الخَدَرُ السَّخِيفُ وَأَصْبَحْتُ الآنَ أَكْثَرَ اِنْتِعَاشًا.
لَيْسَتْ مُسَلِّيَةً أَبَدًا أَلَاعِيبُكِ الطُّفُولِيَّةُ، لَيْسَ جَيِّدًا عَلَى الإِطْلَاقِ استدرار كُلُّ تِلْكَ الذِّكْرَيَاتِ بِدُونِ مَوْعِدٍ مُسَبَّقٌ وَبِدُونِ تَرْتِيبٍ، تُصِيبُنِي بِهَا كَطَلْقَاتِ رَصَاصٍ غَادِرَةٍ، تُسَدِّدِينَهَا إِلَى عَقْلِي المهتريء فَتُحْدِثِينَ فِيهُ مَزِيدًا مِنْ الثُّقُوبِ.



بِدُونِ تَرْتِيبٍ مُسَبَّقٌ قَرَّرْتُ أَلَّا أَذْهَبَ لِلعَمَلِ اليَوْمَ.. قَرَّرْتُ أَيْضًا أَنْ أَصْعَدَ إِلَى أَيِّ حَافِلَةٍ حُكُومِيَّةٍ لِأَدُورَ مَعَهَا دَوْرَةً كَامِلَةً.
هَكَذَا قَرَرْتُ!
اِنْتَخَبْتُ مَقْعَدًا يُجَاوِرُ نَافِذَةً زُجَاجِيَّةً عَرِيضَةً، اِطَّلَعْتُ مِنْهَا عَلَى تَضَارِيسِ العَالَمِ، أُفَتِّشُ فِي الوُجُوهِ بِدَاخِلِ الحَافِلَةِ بِلَا هَدَفٍ، وَفِي وُجُوهِ النَّاسِ بِالطُّرُقَاتِ بِغَيْرِ هَدَفٍ أَيْضًا.
هَكَذَا قَرَرْتُ!
أَيْضًا وَبَعْدَ أَنْ أَحْتَرِقَ مِنْ سَاعَاتٍ عُمْرِيٌّ سَاعَةً وَنِصْفُ قَرَّرْتُ أَيْضًا أَنْ أُغَادِرَ الحَافِلَةَ قَبْلَ أَنْ يَتِمَّ دَوَّرْتُهُ كَامِلَةً.
هَكَذَا قَرَرْتُ!
وَقَفْتُ أَمَامَ البَابِ أَنْتَظِرُ مِنْ السَّائِقِ أَنْ يَفْتَحَ ضلفتيه لِتَشْهَدَ عَيْنِي رِمَالِ شاطيءٍ ذَهَبِيَّةٍ، وَنَخِيلٌ مَرْصُوصٌ كَمُضِيفِينَ فِي حَفْلَةِ اِسْتِقْبَالِي، تَتَمَايَلُ جُذُوعُهُمْ يَمِينًا وَيَسَارًا، وَهَوَاءُ البَحْرِ يّطير وَيُدَاعِبُ شَعْرَ النخل الأَخْضَرُ.
زَجَرَنِي السَّائِقُ حَتَّى أُغَادِرَ، فَغَادَرْتُ.
هَكَذَا قَرَّرَ!
اِسْتَدَرْتُ لِلحَافِلَةِ أَسْتَجْدِيهَا أَلَّا تُرَحِّلُ كَطِفْلٍ عَلَى وَشْكِ البُكَاءِ فَخَلَّفْتُ الحَافِلَةَ مِنْ وَرَاءِ إِطَارَاتِهَا عَاصِفَةٍ تُرَابِيَّةٍ اِنْقَشَعْتُ لِيُبْرِزَ مِنْ وَسَطِهَا هِيَ!. كَمْ أَنْتِ خَبِيثَةٌ؟!
اِبْتَسَمَتْ وَقَدْ أَذَهَبَتْ اِبْتِسَامَتَيْ جَزَعِي الَّذِي غَادَرَنِي فِي مَلَلٍ، فِي ثَوْبِهَا الأَبْيَضُ الشَّفَّافُ الَّذِي يُظْهِرُ تَفَاصِيلَ جَسَدِهَا الخَمْرِيِّ، تَتَقَدَّمُ نَحْوِي بِاِبْتِسَامَةٍ عَرِيضَةٍ.
تَظْهَرُ لِي مَفَاتِنَهَا كَامِلَةً، تَتَوَهَّجُ أَسْفَلَ أَشِعَّةِ الشَّمْسِ.
هَكذَا رَأيَتُ!
تَتَوَقَّفُ أَمَامَي فِي غُنْجٍ، يُمِيلُ جَزَعُهَا قَلِيلًا وَهَوَاءَ البَحْرِ يَعْبَثُ بِشَعْرِهَا تَمَامًا مِثْلَ شَعْرِ النَّخِيلِ، يَتَدَلَّى مِنْ أُذْنَيْهَا قُرْطَيْنِ تَمَامًا كَمَا النَّخِيلُ.
هَكَذَا تَخَيَّلْتُ!
تَنْزِعُ عَنْهَا ثَوْبَهَا الأَبْيَضَ الشَّفَّافَ، تَرْسُمُ دَهْشَةُ إغوائية عَلَى مَلَامِحِهَا ثُمَّ تَزَيُّنُ ثُغَرِهَا بِضِحْكَةِ لَعُوبٍ.
أَضْحَكُ فِي صَمْتٍ، أَضُمُّ قَبْضَتَي فِي غَيْظٍ وَسَعَادَةٍ.
هَكذَا فَعْلَتُ!
تَسْتَدِيرُ، تُوْلِينِي ظَهْرَهَا، لِيَبُوحَ جَسَدُهَا الخَمْرِيُّ بِالمَزِيدِ مِنْ المَفَاتِنِ، أَعِضُّ عَلَى شَفَتِي، أَرْفَعُ رَأْسَيْ نَحْوَ سَمَاءٍ زَرْقَاءُ لَا تُلَوِّثُهَا أَيُّ سَحْبٍ، وَشَمَّسَ تَتَوَهَّجُ فِي عَيْنِي وَلَكِنَّي عَلَى الرَغْمِ مِنْ ذَلِكَ...
أَبْصَرْتُ.
يَدُ غوايتها تَشُدُّ عَيْنَيْ نَحْوِهَا مَرَّةً أُخْرَى وَهِيَ تَضْرِبُ بِقَدَمَيْهَا رَمْلِ الشاطيء، تُسَدِّدُ العَدِيدُ مِنْ الرَّكَلَاتِ إِلَى مَوْجِ البَحْرِ الَّذِي اِزْدَادَ اِضْطِرَابُهُ لَمًّا دَاعَبَتْهُ.
اِنْتَشَى البَحْرُ فَرَحًا، تَمَامًا كَمَا اِنْتَشَيْتُ.
رَكَضَتْ نَحْوَهَا وَخَلْفَهَا تَمَامًا تَوَقَّفْتَ، لَمْ تَحِنَّ مِنْهَا التفافة نَحْوِي، تَعِي وَجُودِي وَلَكِنَّ بِعَبَثِهَا الطُّفُولِيِّ تَتَجَاهَلُهُ، تَبْتَسِمُ...
تَنْفَرِجُ شُفْتِيهَا عَنْ تَنْهِيدَةٍ طَوِيلَةٌ، يُفَلِّتُ مِنْ بَيْنِ شَفَتَيْهَا المُكْتَنِزَتَيْنِ لَحْنًا شجيًا اِسْتَطَاعَ بَعْدَ هُنَيْهَةٍ مِنْ الوَقْتِ أَنْ يَدْفَعَ البَحْرَ نَحْوَ نُعَاسِ هاديء، لِتُمَوِّتَ أَمْوَاجَهُ المُضْطَرِبَةَ عَلَى سَطْحِهِ.
لِيَتَألَّقْ فِي لَوْنٍ أزرقٍ كَرَّسَتَالِي، خطِيتُ وَلَمْ أُكَنُّ أَنْوِيَ، جَاوَرْتُهَا وَلَمْ أَكُنْ أَنْوِي، أَمْسَكْتُ بِيَدِهَا اليُسْرَى وَلَمْ أَكُنْ أَنْوِي.
أَفْلَتَتْ يَدِي بِرِقَّةٍ لِتَدُوسَ بِقَدَمَيْهَا أَطْرَافِ البَحْرِ السَّاكِنِ وَلَحْنِهَا الشجي تَسَرُّبُهِ كَسِرْبِ طَيْرٍ يَضْرِبُ بِجَنَاحَيْهِ هَوَاءِ البَحْرِ، يَرْنُو مِنْ سَطَّحَهُ وَيَرْتَفِعُ ثُمَّ يَعُودُ لَيَرِنُّو فَيَرْتَفِعُ، هَكَذَا فَعَلَ سَرَّبَ الطَّيْرَ عَلَى وَقْعِ لَحْنِهَا الشجي.
هَكَذَا فَهِمْتُ!
تَسْتَدِيرُ لِي وَوَجْهُهَا قَدْ سَكَّنْتَ مَلَامِحَهُ، تَرَفُّعُ إِصْبَعِهَا، تُشِيرُ لَمَّا خَلْفَي، وَكَانْ الأصبع يُجْبِرُ رَأْسِي عَلَى أَنَّ يَدُورُ إِلَى حَيْثُ تُشِيرُ.
أَغْمَضَتْ عَيْنِي غَضَبًا، سَمِعَتْ أَسْنَانُي وَهِيَ تَطْحَنُ بَعْضَهَا البَعْضُ، فَتْحَتُ عَيِّنِي لِأَجَدِّنِي أَمَامَ "دُولَابِ" مَلَابِسِي أُحَدِّقُ فِيهُ بِبَلَاهَةٍ.
وَلِأَزَالَ أَثَرٌ مِنْهَا يَصْحَبُنِي، ذَلِكَ اللَّحْنُ الشجي، فَأَدَرْتُ رَأْسِي، وَقَدْ أَضَاءَ هَذَا اللَّحْنَ بِقَلْبِي الأَمَلِ لِأَجَدِّهِ هَاتِفَيْ الجَوَّالِ يَتَوَهَّجُ.. خَطَوْتُ نَحْوَهُ مُتَثَاقِلًا لِأَجَدَّ اِسْمُ زَمِيلٍ لِي بِالعَمَلِ يَتَّصِلُ.
أَجَبْتُ.
فَبَرَّرْتُ.
فَسَكَّتُّ.
فَأَنْهَيْتُ ذَلِكَ الاِتِّصَالَ، أَنْظُرُ نَحْوَ أَصَابِعَ قَدَمَيَّ وَقَدْ عَلَّقَ بِهِمْ بَعْضٌ مِنْ رَمْلِ الشاطيء فَاِبْتَسَمْتُ!
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.