بدا اليوم شاحبًا كأحد أيام الخريف، جلست وزوجتي على مقهى عربي في حي شارديني، تحيط بنا أبنية مزخرفة، ارتفعت بتدرج على حواف إحدى التلال، وعانقت بشموخها قاع المدينة النابض.
جلسنا نحتسي القهوة ونراقب السياح الذين يعبرون الدروب الضيقة ويصعدون مشيًا إلى تلك التلة التي تناثرت فوقها بضعة منازل مغطاة بالقرميد الأحمر على الطراز الأوروبي الكلاسيكي.. كان لحي شارديني نمطه المعماري الخاص، وقد أضفت عليه القلاع والأسوار والتماثيل والحمامات الكبريتية، شعورًا دافئًا بالحنين إلى الماضي.
مرّت الدقائق، كنت قد أنهيت قهوتي ونهضتُ وزوجتي لاستكمال تجوالنا، مررنا بجسر العشاق، قرأنا أسماء الأحبة ووعودهم، رحت أسأل: ترى أين أولئك العشاق الآن؟ هل التزموا بوعودهم أم خانهم الزمن؟ هل بقي الحب قارب نجاتهم من تيارات الحياة الجارفة أم غرقوا كما غرق ابن نوح؟ لم يسعفنِ الوقت للبحث عن أجوبة، جذبتني زوجتي بقوة وسعادة نحو شلال الغابة.. كان المنظر بديعًا، أمواج المياه المتتابعة تتساقط من أعلى المنحدر فترتطم بالصخور الصلبة التي غطتها الطحالب.. قلت: يومًا ما سيذوب الصخر ويتفتت.. لن يقوى على مقاومة الماء وعناده
رأيت عروسين بثيابهما اللامعة وهما يلتقطان الصور. سمعت خرير الماء كأنه يعزف سيمفونية. عاودتني الهلوسات، رغبت لو أغتسل أسفل الشلال، سيقولون مجنون فقد عقله.. وإن يكن! هممت بالخوض في المياه الضحلة، لكن ضحكات فوج إسرائيلي انتزعتني من المواصلة. التفتُ إلى زوجتي الممتعضة ثم إليهم، كانوا يقفون على مقربة منا وينتظمون في حلقة دائرية وهم يغنون بأعلى الأصوات أغنيتهم الشهيرة "هافا ناجيلا"..
ولَّيتُ بعيدًا عنهم، هممت بأن أطلب من زوجتي التقاط صورة تذكارية لي وأنا أقبض على حبّات الماء بين يدي، لكن وجهها الذابل وعيناها الجامدتان كأنها ترى شبح الموت، دفعانني للتروي قليلًا. رأيتها تُرَّكِز بصرها بحنق نحو الإسرائيليين الذين احتلوا منطقة الشلال. رأيت علامات الضيق على وجهها. تململ لسانها بكلمات مبهمة لم أتبين منها إلا عبارة "إنهم في كل مكان".. لم أدر ماذا أفعل في هكذا موقف، وجدتني أدعوها للمغادرة والجلوس على أحد المقاهي لنيل قسط من الراحة.
- حسنًا.. هيا بنا
قالتها ومضت أمامي، تخب في مشيتها خبيب الخيول، حتى وصلنا ذات المقهى الذي احتسينا به القهوة قبل مدة. هناك ساد الصمت، لم يكسره إلا النادل مستفسرًا عما نود أن نحتسيه.. أمرت لنا بكوبين من الشاي، ورحت أغوص في صمت الجميلة الجالسة أمامي.
في تلك اللحظة، عشقت امتعاض شفتيها، أحببت أنفها المتغضن، شعرت بالسعادة تملأ كياني! كنت قد ظننت مما أقرأه بحكم عملي كصحفي أن القضية الفلسطينية ماتت في وجدان الجيل الجديد، وأن الإسرائيليون قد نجحوا في زعزعة إيماننا. في تلك اللحظة شعرت بالفخر بزوجتي أكثر من أي وقت مضى، حاولت أن أعبِّر لها عن ذلك ونحن في المقهى، لكنها لم تكن معي.. كانت جالسة مثل متصوف جذبت السماء روحه لمسارح الرؤيا، وتركت جسده على الأرض.. لذت بالصمت، رحت أتأمل انفعالاتها أكثر وغبطتي تزداد أكثر..