امرأةٌ ليست كَكُلِّ النِّساء
لأنها شبقة، لا تَصبِر أيامًا بِلا رَجُل، يطفئ نار غريزتها المتأجِّجَة، وروحها المتعطشة، لأيدٍ تحتضنها، وتعيد الطمأنينة والإحساس بالأمان إلى نفسها، عادت ( غادة ) من جديد تبحث عن مَنْ يأخذ مكان رَجُلِها المقتول منذ سويعات: ( مثل لبوةٍ أنا، لا يمكنني الصبر لساعات، أشعر أن الكون سَيَبْلى، وأن شراييني تتقطع، وتفور لِدَمي حمامات ) .
هكذا بدأت ( غادة ) كلامها.
قلت لها: ( والعدَّة، أليس لكِ عدة مثل بقية النساء ).
ضحكت بأسىً وحسرة، مثل ظَمِئٍ تطلب منه البسملة، وهو يلاحق القطرات، قالت: ( أتريدني أن أتحول إلى عاهرة )، صدمني كلامها، حسبتها مجنونة، أو عاشقةُ جنسٍ مهووسة، جاءت كي تغويني ،أو لتأخذ مني تبريرًا يقنعها بالفضيلة، وهي تتوه في دروب الرذيلة. تفحصت هيئتها؛ وجهٌ طفولي بريء، بنظرات مُستكينة خجلة لا تؤيد ظنوني .
قلت:( وهل تعتقدين أن بإمكاني أن أجِدَ لكِ رجلاً يحل مكان رجلك المقتول ) .
أحنَت رأسها وأطرقت للحظات، ثم رفعته وقربت وجهها ليكون بمواجهة عيوني، ردت عليَّ بغضب وكأنها تحسب أن لي يدًا في ما صار إليه رجلها، قالت: ( قتلوا رجلي، إن كان شيطانًا أو ملاكًا، صنديدًا، رعديدًا، عدوهم ... صديقهم، أحبه أو لا أحبه، ألَمْ يَكُنْ لهم عندما قرروا قتله، أن يفكروا ولو لدقائق بطريقة تطلق لي حريتي في اختيار رجل غيره، من غير أن أرزَحَ تحت مسمى عدة النساء، لو أنهم سألوا أنفسهم حينها: هل يمكن لامرأة اعتادت وجود رجل فوقها أن تبقى من دون رجل، أنا لا يهمني الرجل الذي أفقده، ما يهمني عندها هو أن يكون هنالك غيره؛ فأنا امرأةٌ لا تشبه باقي النساء، وهم يعرفونني، ويعرفون أنني لا يمكنني الصبر حتى المساء ).
عندما دخلت عيادتي للمرة الأولى، فوجئت بها، كان جمالها مُستَتِرًا، مُخبأ بقوة، وحزينًا، لكنه كان أخَّاذًا ساحرًا، يشع بقوىً خفية تجذبك نحوها، لكأنها تُفقِدُك القدرة على تحاشيها، أو عدم الاهتمام بها، عيونها السوداء الواسعة ذكرتني بفنانة رسم بغدادية قضت ذات حرب، شفتاها مثل زهرة كبر نَديَّة تشدك لتمتص رحيقها، لكن مفاجئتي الأعنف كانت بكرسيها المتحرك الذي تقتعده.
امرأة يصعب أن تحدد بالضبط، أو حتى بالتقريب سنين عمرها، تبدو لمن يراها أول وهلة هَرِمة، كئيبة، قاسية، بتقاسيم وجهها الذابلة، ولونه الشاحب، والموحش، وما أن تتعرف إليها، وتكلمها، وتتفحص قسماتها، تظهر لك صورتها الحقيقية الكامنة تحت أنقاضٍ، وخرائب، خلفتها أيامٌ صِعاب، وحوادِثُ مُرَّة، مرت عليها؛ فتتكشف لك شيئًا فشيئًا تضاريسها الحقيقية، وانحناءات رسمتها الأصيلة؛ فتجدها لَمْ تزل تحتفظ بِطَلَّةٍ زاهية وعنفوان صبية في ريعان شبابها، وتظهر لك صورتها الحقيقية، القابعة خلف كل ما يغلفها من انطفاء، بوجهها المدور، مثل قمر غطته غيوم أواخر أيار، وصدرها النافر، مثل بالونين نفخهما طفل لا يقوى على الشدة، وجسدها المتناسق، مثل حضارةٍ عريقة ضربها الإعصار؛ فتكدست طبقات الرمال، وعوامل الزمن فوق تضاريسها، لكن خطوط الجمال ظلت صلدة، راسخة، واضحة وجلية في صورتها القابعة تحت الرمال، تُنبيء عن ماضٍ عريق، وجمالٍ بَهي .
أردت أن أعتذر لها، وأن أبين لها ضيق الوقت لدي؛ فأنا مُقيَّدٌ بما عزمت المضي نحوه، لكنها لَمْ تمنحني الفرصة، قالت: ( ليس لي أن أدور بين أطباء العلاج النفسي ... أنت لا تعرف كيف استطعت أخيرًا المجيء إليك) .
خشيت من ربط نفسي مع حالة مرضية قد تؤخرني عن ما عزمت السير نحوه؛ فأنا مقتنع تمامًا بعدم جدوى البقاء في هذا الوطن، بعدما تحول كل شيء فيه إلى خراب، وأن الهجرة منه صارت واجبة، حتى أنني اعتذرت من جميع المرضى الذين كنت أنظر في حالاتهم، وأحاول علاجها، وأحَلْتُهم كلهم إلى أطباء آخرين ، ولَمْ أُبْقِ منهم سوى مريض واحد، ( حكيم الثائر )، اعتقدت أن حالته لَن تحتاج إلى طبيب، وأنها ستزول مع الوقت، وكنت سَأعْلِمُه بعدم الحاجة إلى مراجعتي أو مراجعة أي طبيب آخر، لكن أمرًا آخر قد حدث، جعلني أُبقيه تحت رعايتي، وسأروي لكم ما حدث مِن أمرٍ معه عندما يحين الوقت المناسب لذلك.
المهم أن إصرار ( غادة ) - صحيح تذكرت؛ فأنا لَمْ أخبركم أنني عرفت اسمها الحقيقي من نفس المريض الذي ذكرته قبل هُنَيهة،(حكيم الثائر)، والذي وعدتكم برواية حكايته بعد حين- وحضورها الطاغي، وماأحسسته حينها من رابطةٍ غريبة، تجذبني إليها، جعلني أُنصِت لها، بِنيَّةِ أن أعتذر لها في جلستنا التالية، إلا أن ما ذكره الكاتب ـ المؤلف ـ لي في مابعد بشأنها: (استمع إليها .. ستكون مفيدةً لنا في ما اتفقنا عليه)، جعلني أتراجع عن الاعتذار إليها في الجلسة التالية .
نعم؛ فما أنا سوى راوٍ يقول ما يريده المؤلف في روايته، وقد يتكرم فيمنحني دورًا فيها، أو يجعلني راويًا عليمًا من الخارج، وللحقيقة، وكي تكونوا على معرفة أكبر بحالي؛ فأنا لست راضيًا عن كلا الدورين، كل ماأريده هو أن أروي روايتي أنا، التي تتحدث عني أنا، قصة حياتي، أو يومياتي، سَمُّوها كما تشاؤون، و لا أريد منه كمؤلف إلا أن يحدد لها تقنية سرد، وحبكةً تشد القاريء لإكمال قراءتها، بخبرته في كتابة الروايات التي لا زلت مبتدئًا في فك أسرارها، والسير في متاهاتها؛ فأنا لاأريد لروايتي أن تخرج بمستوى لا يليق بها، وقد كان هذا شرطي الذي وافق عليه، مقابل أن أكون راويًا لروايته هذه، وبعدها سأروي روايتي أنا، بقلمه هو .
الآن وقد عرفتم سبب رضوخي لطلبه في مُعاينة (غادة)، والاستماع لحالتها؛ فسأعود الآن لأروي لكم ما بدأته معها .