يناير 1994
دائمًا ما يكون البيت هو مكان الراحة والأمان، ولكن لم يكن لى كذلك أبدًا، فمنذ أن وعيت على هذه الدنيا وأنا لا أحب منزلنا هذا، ورغم إن أنا الوحيد مَن يشعر بهذا، إلا أننى لم أستطع أن أخرج هذا الإحساس من عقلي، فمنذ أن أخرج منه أصبح إنسانًا آخر، نعم، أصبح أكثر سعادة ونشاطًا وتفاؤلاً ولكن بمجرد عودتي، وما أن أخطو إلى داخل الشقة، حتى أشعر كأن شخصًا ما يقف خلفي، حتى أكاد أشعر بدفء أنفاسه، ويظل هذا الشعور يتبعنى طالما أنا فى البيت.
مَن أنا؟ بالطبع لابد أن أعرفكم على نفسي، أنا أدعى أحمد مصطفى، طالب فى الثانوية العامة، أسرتى أسرة بسيطة، فأبى موظف فى الشهر العقاري، وأمى ربة أسرة، أفنت عمرها فى تربيتى أنا وأختي، أما أختى الوحيدة فهى ميار، الطالبة فى الصف الثانى الإعدادي.
أما منزلنا فهو بيت قديم جدًا، يعود تاريخ بنائه إلى أوائل القرن السابق، حيث يحمل لوحة فى مدخله تحمل تاريخ 1903 ميلادية، بناء قديم من ثلاثة أدوار، ولكنه يحتل مساحة كبيرة كعادة البناء فى هذه الفترة، حيث الشقق تتكون من خمس غرف، وسقف يرتفع لستة أمتار، بيت منذ زمن البناء الجميل، حيث كان الاهتمام بشكل وطراز البيت من أولويات المصمم، وليس بناء كتلة خرسانية تحبس داخلها أرواح ساكنيها، ولقد ورث أبى هذا البيت من والده، الذى كان رجلاً عظيمًا، ومن أكبر تجار المنطقة، وبالطبع يقع بيتنا فى أحد الأحياء الشعبية فى منطقة أبو العباس بالإسكندرية.
أما أثاث البيت فهو يعكس البساطة الشديدة، وخليط من أثاث زواج أمى وأثاث جديد قد تمت إضافته على فترات، ليصبح البيت خليطًا بسيطًا ولكنه محبب للنفس.
لم أكن من الأطفال الأشقياء، ولكننى كنت طفلاً يميل إلى الهدوء والعزلة فى أغلب الأوقات، ولكن ذلك كان بسبب ميلى الشديد إلى القراءة، وفشلى الذريع فى لعب أية رياضة مع أبناء الشارع، ولكننى كنت محبوبًا منهم، وقريبًا لهم فى أوقات عدم لعبهم لكرة القدم.
وترجع أحداث ما أعيش فيه من رعب يومى فى هذا المنزل منذ أن وعيت وأدركت وجودى، أو بمعنى أكبر منذ أن بدأت ذكرياتي، فعندما أغوص فى أعماق ذكرياتى لأبحث عن أول ذكرى فى عقلي، كنت دائمًا أجد نفسى جالسًا أما التلفاز فى غرفة المعيشة، حيث تشاهد أمى مسلسل الساعة السابعة، وأبى يقرأ كتابًا ما، وأنا أجلس على الأرضية ألعب بلعبة متهالكة فى يدي، أعتقد أننى كنت فى أول سنة لى فى التعليم الابتدائي.
كنت معتادًا فى هذه الفترة أن ألعب قليلاً قبل توجهى للنوم فى تمام الساعة التاسعة مساء، ولكن فى ذلك اليوم حدث شيء لم أكن أحسبه غريبًا، فلقد كان يحدث كل يوم منذ صغرى، أن أقضى هذا الوقت فى اللعب قليلاً مع مطاوع، وقبل أن تسألونى مَن هو مطاوع؟ سأقول لكم أننى كنت أحسبه صديقى أو أخى حتى ذلك اليوم، فى ذلك اليوم لم يأتِ مطاوع، فذهبت إلى أمى أسألها ببراءة.
قائلاً: أمي، هو فين مطاوع؟
قالت أمى وهى تنظر لى غير مستوعبة لما أقوله: لا يا حبيبى كرم مطاوع مش فى التمثيلية دي.
قلت لها: لا يا ماما، مطاوع إللى بيلعب معايا، هو ليه ما جاش يلعب معايا زى كل يوم.
أجابت وقد نظرت لى باستغراب: مين بيلعب معاك؟ هو فى حد بيلعب معاك أصلاً.
نظر لها أبى قائلاً: فى إيه يا ولية، بلمتى ليه، ده لعب عيال، كل العيال فى سنه بيبقى خيالها واسع.
قلت لأبي: لا يا بابا، ده صاحبى وبيلعب معايا من زمان، أنا مش بتخيل، ده أنا بشوفه بجد.
نظرت لى أمى وقد بدأت تقرأ القرآن فى سرها، ولكن بابا أجابنى محاولاً أن يقنع أمى بأن هذا الكلام لا يعدو أكثر من مجرد تخاريف: طب قولى يا حبيبى شكله إيه مطاوع ده، يلا احكيلى وقول لماما عنه.
قلت فى ثقة لأقنع أمى وأبي: أسود ورفيع وأطول منى شوية كده، هو بس رجليه شبه رجل المعزة إللى عند عم راضى الساعاتى إللى تحت، بس هو بيقولى إنها كده علشان بيسقع فى الشتا.
لا أدرى ما حدث، ولكن كان أبى قد فغر فاه، وأمى تخر على الأرض فاقدة الوعي.
****************************************
بالطبع مع أم مثل أمى تحول البيت إلى أحد شوارع لندن، ضباب كثيف حتى لا تستطيع أن ترى يدك، فلقد قامت أمى بحرق جميع أنواع البخور ونشرها فى البيت، وعلى الرغم من إصرار أبى على أن ما أقوله لا يتعدى هلاوس تنتج من مخيلة صبى صغير، إلا أن أمى قررت أن تستعين بشيخ ليحضر إلينا ليرقينى ويقرأ بعض القرآن فى البيت.
وكأن حضور هذا الشيخ الدجال إلى المنزل قد فتح علىّ أبواب جهنم، فمنذ ذلك اليوم بعد أن قام برش أركان المنزل بماء ما، وأعطى أمى ورقة لتعلقها فى البيت، وقد ازدادت الأمور العجيبة التى أشعر بها، وتحول الليل إلى عذاب مستمر لى، فطوال الليل وحتى أغرق فى النوم وأنا أشعر ذلك الشعور، كأن هناك قشعريرة باردة فى رقبتى من الخلف، وطوال الليل وخيالات تتحرك أرى ظلالها من تحت عقب الباب، وأصوات لأحد ما يعبث فى درج المعالق والسكاكين فى المطبخ، بل تعدى ذلك إلى من يعبث بدولاب ملابسى، حتى جاء اليوم الذى رفع الغطاء من على أرجلى وأنا نائم، وشعورى بيد باردة تمسك قدمى لتسحبنى إلى خارج السرير.
جاءت ساعتها أمى وأبى ركضًا بعد أن أطلقت صرخة شقت صمت الليل، وجمدت الدماء فى عروقهما، أخذتنى أمى فى حضنها وأنا أبكي وكان أبى يسألنى ماذا حدث؟ وعندما أخبرته طبعًا كان رد فعله أنه مجرد كابوس، وبالطبع صدقته أمى وتركتنى أكمل نومى بعد أن قرأت علىّ بعض آيات القرآن.
منذ هذا اليوم أدركت أن أمى وأبى لن يصدقانى أبدًا، وعلى الرغم من أن مطاوع هذا لم يظهر مرة أخرى، إلا أن الأمور الغريبة ظلت تلاحقنى فى هذا المنزل، ولكننى كنت قد توقفت عن التكلم فى هذه الأمور مع أى أحد، حتى نسيت أمى الموضوع تمامًا، ولكنها كانت دائمة التركيز مع أختى الصغيرة حتى لا تتركها وحيدة ليحدث لها ما حدث لي.
أنهيت دراستى الابتدائية والإعدادية، وكنت قد اعتدت كثيرًا على ما يحدث لى، حتى أصبحت أقنع نفسى أن كل ما يحدث ليس أكثر من كوابيس وفئران تعبث ليلاً فى البيت حتى أصبحت لا ألقى أى بال لما يحدث حولى، حتى وقع فى يدى كتاب صغير يتحدث عن بعض الأمور الغامضة، والأمور التى تصنف بما وراء الطبيعة، قرأت الكتاب لأجد أن ما كنت أشعر به لا يحدث لى وحدى، فهناك الكثيرون يمرون بنفس الشكاوى، ولكن على الرغم من ذلك لم أهتم كثيرًا بما قرأت، عدا الجزء الذى يتحدث عن المرايا، فطول عمرى كنت أخاف منها، ولا أشعر ناحيتها بالراحة، ولكن الكتاب أسرد فى شرح الكثير من النظريات حولها، فمنها من قال إن المرايا ليست انعكاسًا لك، بل هى تكشف لك بعدًا آخر موازيًا لنا، يمر بنفس ما نمر به، وقال آخرون إن ما نراه هو صورة قرين الجن، وهو يحاول ساخرًا منا أن يقلد حركاتنا، ورغم أن هناك العديد من الآراء إلا أنهم كلهم اتفقوا على أنها تبث كمًا كبيرًا من الطاقة السلبية.
كنت أمشط شعرى قبل النزول للمدرسة، ساعتها لم أعرف لماذا تذكرت ما قرأته عن المرايا، ورغم خوفى الشديد منها إلا إننى قمت بحركة مفاجئة لأرى رد فعل انعكاسيًا، ورغم أنه قام بنفس ما قمت به إلا إننى لم أنس الابتسامة الساخرة التى ارتسمت على وجه انعكاسى، فلم أدرِ بنفسى إلا وأنا أجري على سلم البيت لأذهب إلى المدرسة.
**********************************************
لم يمر ما حدث معى مرور الكرام، فلقد دفعنى هذا دفعًا لأقرأ فى علم الماورائيات أكثر وأكثر، فلابد أن أجد تفسيرًا لما يحدث لى، وارتباط ما يحدث لى بالبيت، وأيضًا لماذا يحدث لى أنا وحدى، ولا يشكو منه أبى أو أمى أو حتى أختى أو أحد من الجيران.
بالطبع بدأت فى البحث عما أقرأ، وكنت أبحث كثيرًا فى المكتبات عن أى كتاب يمت بصلة لعلم الماورائيات، طبعًا بدأت بكتب أنيس منصور ككتاب أرواح وأشباح ولكن هذا لم يكفِ، فكل الكتب لم تكن إلا تسجيلاً لحالات مشابهة لى، أو بالطبع أشد قسوة، حتى جاء اليوم الذى كنت فى إحدى مكتبات الإسكندرية العامة، أبحث عن أى شيء حتى وجدته يقترب منى، شاب فى مثل عمرى تقريبًا، مهندم الملابس، ويبدو عليه الثراء والثقافة معًا، اقترب منى وفى إحراج شديد قال: لو سمحت أنا بشوفك كتير هنا، وفى مكتبات كتير، وأنا كنت بدور على كتب معينة بس مش لاقيها فقلت أسألك يمكن تعرف.
نظرت له ورغم عدم حبى إلى عمل علاقات اجتماعية، إلا أن أسلوبه وشكله بعثا لديّ بعض الارتياح فقلت: لو أعرف أكيد ها أساعدك.
مد يده لى ليصافحنى وقال: أنا أشرف، طالب فى تانية ثانوي.
مددت يدى إليه لأصافحه وقلت: أحمد، برضه طالب فى ثانوي.
ابتسم وقال: تشرفت بمعرفتك يا أحمد، أنا بقى بحب علم الماورائيات بس مش لاقى كتب كويسة فى المكتبات، فقلت أسألك يمكن تفيدني.
قلت وقد أقلقنى أنه يبحث عما أبحث عنه، ولكننى قلت لنفسى لعلها صدفة، فقلت له: أنا برضه أبحث عن نفس الكتب، بس مش لاقى غير كتب لأنيس منصور، وبعض كتب راجى عنايت.
قال أشرف: وأنا كمان، بس الموضوع مش محصور فى الكتب دى وبس.
قلت: أنا دورت فى كل المكتبات، بس من غير أى نتيجة، غير الكتب دي.
قال أشرف: أنا النهاردة فى واحد قالى إن الكتب اللى بتتكلم عن المواضيع دى، كتب قديمة، ومش مسموح بتداولها فى المكتبات العامة.
قلت: عندك حق، أنا كنت بفكر أنزل بكرة شارع النبى دانيال والعطارين، هناك فى كتب كتير قديمة وممكن نلاقى أى حاجة.
أجابنى أشرف متحمسًا: وأنا معاك، بكرة نتقابل فى محطة الرمل الساعة الواحدة بعد المدرسة ونتحرك.
قلت له: وليه لأ، أهو راسين تفكر وتبحث أحسن من واحدة.
قال أشرف وقد مد يده ليصافحني: خلاص أشوفك بكرة.. سلام.
قالها وانصرف سريعًا وتركني، كنت بدأت أعجب بفكرة وجود صديق معى يشاركنى نفس الاهتمام، لذلك تركتُ المكتبة وانصرفت عائدًا إلى البيت.
عدت إلى المنزل ودخلت لأبحث عن أمي، وجدتها كعادتها تقف فى المطبخ تصنع طعام الغداء، فألقيت عليها السلام واتجهت إلى غرفتى، وعندما دخلتها سقط قلبى فى معدتي، فلقد كانت ماما تقف فى غرفتى تطبق الملابس وترتبها فى الدولاب قائلة: هو أنت كنت بتسلم على مين برة هو أبوك رجع؟
لم أجبها ولكنى ركضت لأعود للمطبخ لأجده خاويًا.
رغم أن أمى لم تفهم سبب اضطرابى وخوفى، إلا أننى لم أخبرها عن السبب الحقيقى لخوفى، وتركتها ودخلت غرفتي وأنا ما زلت أهتز خوفًا ورعبًا مما حدث.
قررت يومها أن أنقل بحثى فى علم الماورائيات إلى مستوى آخر، فلقد قررت ألا أكتفى بتلك الكتب الفقيرة، بل قررت أن أتمادى لأقصى ما قد أجد، حتى لو ذهبت للمشعوذين والشيوخ الذين يتعاملون مع الجن لأتعلم منهم.
وكالعادة لم تتركنى أمى بدون أن تحرق لى بعض البخور وتشغل بعض القرآن فى غرفتى وترقينى وهى تتمتم بكلمات لم أفهمها.
قلت لها: ماما انتى بتقولى إيه؟
قالت أمي: دى رقية أتعلمتها من ستك علشان تبعد عنك العين والأسياد.
قلت: أسياد إيه يا ماما، هو انتى بتصدقى الهبل ده.
قالت أمي: اسكت، وما تغلطش فيهم، كفاية اللى أنت فيه، أنت عاوز يحصلك إيه تاني.
قلت لأمى محاولاً استدراجها لتتكلم: وأنا فيه إيه فيا، ما أنا كويس.
قالت أمى وقد احتضنتني وبدأت في البكاء: أنت زى الفل يا حبيبي، أنا مش عارفة إيه اللى صابك، من وأنت صغير وأنت محسود وبتشوف حاجات غريبة.
قلت لها: ماما، هو انتى عمرك ما شوفتى أى حاجة ولا حسيتى بأى حاجة غريبة فى البيت ده قبل كده.
قالت أمي: أى بيت يا بنى فيه أهله وهما عايشين معانا وطبعًا ساعات بتطلع منهم حاجات غريبة لما يتضايقوا منا أو لما إحنا نعمل حاجة تضرهم.
قلت: يعنى انتى فيه حاجات شوفتيها قبل كده يا أمي.
قالت أمي: مش بالضبط شوفت، بس ساعات حاجات من دهبى بتختفى وترجع تانى لوحدها، أو أسمع صوت رجل حد فى البيت وأنا لوحدى، بس زى ما قلتلك دول أهل البيت.
قلت لأمي: مفيش حاجة تانية؟ يعنى مش بتشوفى حاجات غريبة.
قالت أمى وقد وقفت فجأة: شوفت بقى أخدتنى فى الكلام ونستنى ميعادى مع عمتك.
قلت: عمتي! مالها عمتي.
قالت أمي: ولا حاجة، الحمد لله جت سليمة، وقعت من على السلم ورجليها اتكسرت.
قلت: طب يلا نقوم نروحلها، ولا ها نستنى بابا؟
قالت أمي: أبوك هناك من الصبح، أنا هاخد أختك وها أروح وخليك أنت ريح علشان شكلك تعبان وتروحلها بكرة.
قلت: عندك حق يا ماما، أنا بجد تعبان أوي.
خرجت أمى وأختى وتركونى وحيدًا، ولم أدرِ بنفسي، فلقد سقطت فى النوم سريعًا.
لم أدرِ كم نمت من الساعات، ولكنى استيقظت لأجد الشقة وقد أظلمت تمامًا فعرفت أن الليل جاء، ولكن أمي وأبى لم يعودوا بعد من عند عمتي، وقفت وتحسست الغرفة لأصل لمفتاح تشغيل إضاءة الغرفة، لمحت ظلاً ما يتجه نحوى بسرعة ليصطدم بى بقوة مطلقًا صرخة جمدت الدماء فى عروقى وفقدت وعيي.
****************************************************
قوم يا واد يا خرع، بدأت أستعيد وعيى وأنا أسمع هذا الصوت، بعد أن زكم أنفى برائحة النشادر، فتحت عينى لأجد أبى واقفًا أمامى وهو يضحك ويقول: قوم يا عم هو إيه اللى حصل لكل ده.
قلت: بابا هو مش أنت عند عمتي.
قال أبي: أه، كنت ورجعت أنام شوية، وسبت أمك هناك، ولما صحيت لقيت الدنيا ضلمة قولت أنك نزلتلهم، ولما قمت أولع النور لقيتك خبطت فيا، طبعًا خضتنى وصرخت بس ما أغماش عليا زيك.
قالها واستمر فى الضحك وأكمل كلامه: يا بنى سيبك من مواضيع العفاريت والحاجات اللى بتشوفها دى علشان خلت أعصابك خفيفة.
قلت: أنا مش بتخيل الحاجات دى يا بابا، وكل اللى بقوله حقيقى أنت اللى مش عاوز تصدقني.
قاطعنى بابا: أنا عمرى كله قضيته فى الشقة دى، وعمرى ما شوفت حاجة من دي.
قلت: بابا هو أنتم لما سكنتم البيت ده، كان البيت إيه قبل كده، أقصد يعنى البيت قديم أوى على أنكم تكونوا أول ساكن ليه.
تعجب أبى من السؤال فأخذ يفكر قليلاً، ثم قال: مش فاكر والله، بس اللى أعرفه إن البيت كان صاحبه واحد جريجى، والبيت كله كان بيسكنه أجانب ويهود، بس مين كان فيه ما أعرفش.
قلت: طب مين ممكن يعرف الكلام ده؟
قال أبي: أكيد مفيش غير عم شحاتة اللى ساكن فى البيت اللى جنبنا، ده واحد دلوقتى معدى المائة سنة، وأكيد حضر اللى بتسأل عليه، بس هو عجز جدًا وأكيد خرف.
قلت: أهو ها أروح له وأجرب يمكن أعرف أى حاجة.
قال أبي: أنت شاغل نفسك ليه بالكلام ده، بقولك إيه أنا مش فاضى لتخاريفك دي، أنا نازل لعمتك ها تيجى معايا ولا لأ؟
قلت: جاى طبعًا، استنى ها ألبس وأنزل معاك.
نزلت مع أبى وزرنا عمتي وهناك أصر أبى على أن أبات عندها لعلها تحتاج شيئًا، بالطبع كانت ليلة هادئة جدًا، ونمت فيها بعمق، لأستيقظ وأذهب للمدرسة ثم أنطلق لمحطة الرمل لأقابل أشرف.
هادئًا كان يقف منتظرنى، واضعًا يده فى جيوبه، وما أن اقتربت منه حتى مد يده إلىّ ليصافحنى قائلاً: أحمد، أخبارك إيه؟
قلت: الحمد لله يا أشرف، هو أنت ما رحتش المدرسة ولا إيه؟
قال أشرف: لا رحت طبعًا، بس خرجنا نص يوم النهاردة.
قلت: يا بختك يا عم، صحيح أنت فى مدرسة إيه؟
قال أشرف: مدرسة الحكمة الثانوية.
قلت له متعجبًا: ما سمعتش عنها خالص.
قال أشرف: أكيد علشان دى فى أبو قير، المهم يلا بينا علشان ما نتأخرش على أهلنا فى الرجوع.
انطلقنا ناحية النبى دانيال وعند أول بائع توقفنا لنسأل عن الكتب التى نريدها، ولكن كانت الردود أن هذه الكتب ممنوعة، أو أنه لا يدرى عنها شيئًا، حتى قال لنا أحد البائعين إن هناك محلاً صغيرًا للكتب فى أحد الشوارع الجانبية صاحبه مهتم بهذه الأمور، وصف لنا المكان، وقال لنا إن صاحبه يسمى عم فؤاد.
انطلقنا إلى محل العم فؤاد، وبعد بحث قليل وجدناه، محل كئيب صغير الحجم، تراصت الكتب أرضًا حتى لامست السقف، حتى لا يوجد داخل المحل غير ممر صغير، وأمام المحل جلس رجل عجوز يدخن الشيشة فى استمتاع.
قال أشرف لي: بص يا أحمد إحنا لو سألناه على الكتب دى بشكل مباشر أكيد ها يخاف مننا، علشان زى ما عرفنا إن الكتب دى ممنوعة، فلازم نلاقى طريقة ندخل بيها من غير ما يقلق مننا.
قلت: أكيد طبعًا، عندك حق، سيبنى أتكلم.
قال أشرف: تمام، يلا بينا.
اقتربنا من الرجل الذى ما أن رآنا حتى رفع رأسه إلينا وقال لي: تعالى يا أحمد قرب ما تخافش.
سقط قلبى بين أرجلي، كيف يعرف هذا الرجل اسمى وهو لا يعرفني؟
نظر لى الرجل وقال: ما تخافش، أنت جاى تسأل عن الكتب دى ومستعجب إن أنا عرفت اسمك، وعرفت أنت جاى ليه!
قلت: أنا ما أعرفش أى حاجة، أنا جايلك علشان أعرف، عندك كتب فى علوم الماورائيات ولا لأ؟
قال هادئًا: طبعًا وكمان دارسها وفاهمها كويس، بص يا أحمد، أنت لسه صغير وما ينفعش تبدأ مرة واحدة لازم حبة حبة.
قلت: أنا ما عنديش الوقت علشان أفضل أفهم وأتعلم فى كام سنة، الموضوع مهم بالنسبة لي.
قال عم فؤاد: طب احكيلى أنت عاوز تتعلم الحاجات دى ليه يا بني؟
قلت: وأنت ما عرفتش ليه أنا جاى من نفسك زى ما عرفت اسمي.
قال عم فؤاد وهو يضحك: هو أنت لسه مصدق، يا أحمد اللى بعتك ليا يبقى قريبى، وكلمنى، وقالي إنك جاى علشان اطمن، وقالى إن اسمك أحمد.
قلت ضاحكًا: تصدق إن أنا صدقت ودخلت عليا.
قال عم فؤاد: وده يثبت لى إنك مستعد تتعلم وتفهم الحاجات دي.
قلت متلهفًا: مستعد ومستعد أعمل أى حاجة بس أفهم إيه اللى بيحصل لي.
قال عم فؤاد: خلاص ابقى احكيلى أنت اللى خلاك مهتم كده بالعلم ده؟
سكت قليلاً وبدأت أحكى له كل ما مررت به طوال حياتى، وكل ما مررت به حتى هذه اللحظة، وهو يستمع لى باهتمام شديد حتى انتهيت، نظر لى قليلاً وكأنه يرتب ويستوعب ما قلته وقال: طبعًا الأول لازم تروح تقابل جارك عم شحاتة ده، وبعدين لو لاقيت أى حاجة غريبة يبقى فيه كلام تانى، أما لو كان مفيش حاجة يبقى ساعتها نشوف إيه الأسباب التانية.
قلت: عم فؤاد أنا جايلك علشان أخذ كتب منك مش علشان أشغلك بحالتى دي.
قال عم فؤاد: أنت حر يا بنى، أنت لو عاوزني أرشدك للكتب وبس أنا جاهز، بس لو كمان عاوز تستفاد من خبرتى برضه أهلاً وسهلاً.
قلت: لأ مش قصدى، أنا يهمنى فى الأول والآخر أنى أفهم سبب حالتى، وأعرف إن اللى بيحصلى ده ليه سبب أو أنا اللى بخرف.
قال عم فؤاد: بص يا بنى أنا قضيت حياتى كلها أقرأ فى المواضيع دى وشوفت حالات كتيرة غريبة وساعدت ناس كتير، على العموم أنا ها أديك كتاب تبدأ فيه وحبة حبة ها تفهم كتير.
قالها ودخل المحل ليخرج ومعه كتاب ليعطيه لى ويقول: ده كتاب اسمه عالم الجن والشياطين ها يديك معلومات مبدئية عن الجن وأنواعها، أحب أنك تبدأ بيه الأول.
مسكت الكتاب وقلبت فيه وقلت: أتمنى ألاقى إجابات لبعض أسئلتى فيه، على العموم شكرًا، بكام ده يا عم فؤاد.
قال عم فؤاد وهو يربت على كتفى قائلاً: لا الكتب دى مش للبيع، ده تاخده تقراه وترجعه لى تانى بس على شرط.
قلت: شرط إيه؟
قال عم فؤاد: إنك تقابلنى كل أسبوع وتحكيلى أهم التطورات وأنا ياريت أعرف أساعدك وأهو بالمرة أعلمك شوية حاجات وكمان تاخد كتاب جديد.
شكرت عم فؤاد وانصرفت وأنا أفكر فى كلامه، ولكنى توقفت وقد تذكرت شيئًا مهمًا جدًا، هو فين أشرف؟