لا تجهد عقلك وتردد اسمي، فأنا لست مشهورة كي تتذكرني، ولن تجد أخبارًا لي في الجرائد أو المجلات اليومية أو حتى صفحات الإنترنت، أنا طبيبة أمراض نفسية، عيادتي في المبنى رقم 13 الطابق الثاني في أرقى أحياء القاهرة.
معي في العيادة سكرتير يبدأ دوامنا من 12 ظهرًا حتى التاسعة مساءً، لكني أحضر هناك على موعد مسبق على جدول أعمالي اليومية، منزلي يبعد بضعة كيلومترات عن العيادة، تلك الرحلة تأخذ من أعصابي كل يوم وتستنفد طاقتي.
تخنقني جدران عيادتي حتى لوحة اسمي التي تشاهدها بمجرد دخولك لا تستهويني، تثير أعصابي، آتٍ كشبح يتقمص روح أخرى مسلوبة الإرادة، لا أبدي أي امتعاض أو أعلن رفضي بوضوح لتلك الحالة، مُسيَّرة، مغمضة العينين، قلبي يسبح في بركة لزجة من العطن.
لا أعتقد أني موهوبة في عملي، بل لا أشعر بالسعادة في هذا المجال على الرغم من تفوقي طيلة سنين دراستي، أحاسيسي المتدفقة كشلالات هادرة تكتسح كل ما يعترضها في الطريق، هناك سؤال يتردد صداه بداخلي ويلح: هل من الضروري أن نحب ما نعمل؟ ألا يكفي تفوقنا فيه؟
لا أعرف لماذا أقحم الحب في كل حواراتي مع نفسي!! حقّا أجيد طرح الأسئلة وأهرب من الإجابات ببراعة لا تنقصني.
ما أعرفه عن نفسي أنني أقع في تلك الهوة العميقة، التي تسبق السيطرة على حالاتي، كثيرًا ما أتورط في علاقاتي معهم، أبكي مع مرضاي وأحيانًا أفرح وأحيانًا أخرى أبغض من تسبب في هذا الأذى النفسي لهم.
على الرغم أنني أعرف تمامًا ضرورة أن يجلس الطبيب النفسي في منطقة القطب المتجمد ويحتسي مشروبه البارد في صمت وحيادية، لا ينفعل، لا يغضب، لا يرتبط بأي مشاعر مع الحالة، حتى لا تسيطر عليه ويفشل معها، أعرف واجباتي لكن لا أستطيع أن أفصل بين جيلان الإنسانة والطبيبة، أفشل في التنفيذ.
هناك في صندوق أسود تقبع ذاتي في صمت ومهابة، وأنا أراودها أن تكشف لي ما بها من حكايات وخبايا، تسرب بعض أسرارها علها تعود صفحة بيضاء أستطيع بعدها أن أخط عليها ما تبقى من حياتي.
نسيت أن أخبركم أنني كـ امرأة أصنف من الجميلات، أملك جسدًا لم تبخل يد الله عليه، وعقلًا شقيت به.
لا تخمن حياتي ولا تحاول أن تطلق أحكامًا مسبقة، تمهل...
جيلان.....
أنا جيلان
المسافة بين منزلي وعيادتي لم تكن كفيلة قط لتغيير حالتي المزاجية، ذلك اليوم ودعت مريضي الأخير في التاسعة مساءً، ضاعفت المياه لزهور الأقحوان الصفراء التي تشاركني وحدتي، ارتديت معطفي الخريفي، وأطفأت أنوار غرفتي، وتركت السكرتير وحده.
خرجت وما زلت مشتتة الذهن.. تراودني الفكرة ذاتها.. الكف عن مطاردة نفسي وتعذيبها، ومحاولة إطلاق آلامي التي أحبسها في قبو مظلم، الفرار منها أنهكني، وهواجسي التي تتبعني وأنا لا أملك التوافق معها، لا شيء يعوضني عن هذا الفقد الذي أكابده، قلق وشرود! يظهر ويختفي، تاركًا حياتي سلسلة من متاهات لا فاصل بينها، يحرقني السؤال إلى متى!
الشوارع هي هي، الرتابة وضوضاء الطريق والباعة...إلخ، وكأن السكون حرام على هذه المدينة البائسة، الهواء الملوث، وغبار النهار ما زال يحجب عني الرؤية، يخالط الواقع دائمًا زيف مربك، حتى الناس تسير كأشباح، نسخ متشابهة من الكآبة لا لون لها، لكل قصة تأخذه مما حوله، يموج الشارع بالسيارات والعربات، كلٌّ في اتجاه غير عابئة بإشارات المرور أو الطريق، تتقمص حالة من التنويم المغناطيسي، وكأن شيئًا ما يحاك في صمت مريب، ومع كل ذلك، يأتيني صوت عبد الوهاب: "لا مش أنا اللي أبكي ولا أنا اللي أشكي إن جار عليا هواك"، المدهش أن هناك من يسمع تلك الأغنيات بعد الهجوم الكاسح لأغاني المهرجانات.
شوارع القاهرة عالم مكتمل من الأضداد، حالة ارتباك تشكل الإنسان ودواخله، عقلي لا يتوقف عن ترجمة كل ما يجول ويسقطه على النماذج التي أراها بعيادتي.
الفتارين تضوي بطريقة مستفزة تخرجني عن شعوري، ليل القاهرة ماجن، مزدحم في أي وقت وبأي شيء، أصوات مرتفعة بلا هدف، لا أحد ينصت للآخر.
انشغالي بتتبع المارة كان عادتي التي لم أتخلَ عنها، لم يكن رغبة مني بذلك، ولا لقتل الوقت في الانتظار الذي ضاعف كآبة روحي، بل كان رحلة شاقة لبعثرة أفكاري المشتتة.
على الرغم من روعة الجو في هذا الوقت من العام، هذا الوقت يمثلني، أنا بالذات، لا هو بارد قارس يجعلني أرتجف ولا حار يجعلني أتململ وأتعرق، هو بين بين مثلي لا معالم واضحة تميزه، إلا أنني أشعر بأنني لست على ما يرام، كأني على حافة جبل تنزلق قدمي من قمته لأرى روحي مسجاة بالقاع ولا مغيث.
يظل أجمل ما في الدنيا فصل الشتاء، وصوت فيروز، وفنجان القهوة السادة الذي أعده بنفسي وجلوسي على أريكتي في بيتي، متدثرة بوشاحي الأحمر مع سلة ذكرياتي التي لا تنضب.
عبثت أصابعي بمؤشر الراديو أديره هنا وهناك، كي أقطع سخافة هذا الانتظار الذي لا أجد له مبررًا غير الفوضى وقلة التنظيم، عدت وأغلقته، يكفي ما أنا فيه من صداع.
ما زلت أشعر بارتباك، لا أملك سببًا واضحًا له، أم أتجاهل كعادتي الأسباب، حبات البنادول لم تفلح في تسكين صداعي.
لا أعرف لماذا قررت أن أصبح طبيبة أمراض نفسية! ولكن هل أنا فعلًا صاحبة القرار؟
كم هو مؤلم أن ننفخ في الرماد.. نستدعي الماضي ونضعه مرة أخرى على أجهزة التنفس الصناعي، وأن نعود به من منطقة الظل لعالم النور.
أتخفى دائمًا في تلك المنطقة، كنت أغلقت على نفسي كل الأبواب وامتطيت جواد الوحدة المظلم، وتركته في كل ربوع حياتي الباردة التي ما لبثت وأصبحت زمهريرًا، يحرق أعصابي ويجمد عقلي ويبعد عنه ضجيج الأفكار.
التفكير يفصلني عمن حولي، يجمدني داخل ذاتي، بين الحين والآخر يعاودني الحنين لبعض ذكرياتي دون شعور مني، أفتش في دهاليز الماضي، أجعله يتنفس بنسمات الحنين، التي تعينني على البقاء صامدة صامتة.
ما يعوضني بعض الشيء تلك الحالات التي تأتيني في عيادتي، تجعلني أتجول معها في حلقة مفرغة، تأخذ بيدي لمساحات أخرى خارج نفسي الخانقة، أعذبها بعذابات الآخرين وكأن العذاب حفلة ونحن مدعوون.
هذا الإنسان الذي يظهر منه أقل من جناح بعوضة هو قاع لجبل ثلجي، جذر لثمرة مغمورة في الطين لا نرى الظلمة التي تحيا فيها، لكننا نرى البهجة التي تظهرها في لونها البديع وتكوينها الدقيق.
كل حالة تأتيني أرتمي بكليتي فيها، أقاوم كي أصمد ولا أغرق معها، أرى نفسي في جزء هين منها لكنها تتملكني وتزيد من ألمي النفسي، كلما ابتعدت نهرتني كـ النداهة: "اتبعيني"، فأتبع مغمضة العينين مصير الآخرين ومصيري.
التاسعة والنصف مساءً، انتهيت من عملي في العيادة كالمعتاد، هو ميعاد تحرري من هذا الجو الخانق، الإشارة اللعينة عند مفترق الطريق تستغرق وقتًا طويلًا، على الرغم من أن المسافة بيني وبين بيتي لا تتعدى بضعة كيلومترات، سكرتير العيادة وطلباته التي لا تنتهي ساهم في تأخيري أكثر، ومراجعة بعض الفواتير الخاصة، كم أتوق لحمام ساخن، والاسترخاء على أريكتي الملساء أمام التليفزيون مع كوب من الشاي ووريقات النعناع الأخضر الطازجة.
كم أكره تلك الإشارة.. تذكرني بحياتي، تجعلني ودون قصد وبكل ملل أسقط في بئر ذكرياتي المعتمة، أستدعي المؤلم منها وأطارد أشباحًا هي كل ما تأتيني من هناك، ما أجمل أن نفقد الذاكرة لبعض الوقت عندما نحتاج إلى ذلك، للأسف العلم لم يخلق بعد تلك المعجزة أن نمتنع عن التفكير، وأن نملك القدرة على حذف المؤلم منها بإرادتنا الواعية، أحتاج إلى العزلة لسكون يحتويني، حتى أفكر كيف تمضي حياتي وإلى أين؟ ويظل سؤالي يكبلني: أستسلم أم أقاوم؟!
لن أكون تلك الآلة التي يحركونها بـ "الريموت كنترول"، أعي تمامًا تكلفة التمرد ولن أخضع، على استعداد لسداد حساب الهواء الذي أتنفسه، لن أعود قطة أمي المدللة التي لا تملك فوق أحبال صوتها غير كلمة حاضر حتى ترضى عنها.
أنا جيلان محمود، دكتورة جيلان، جميلة كما يقول الأصدقاء والمقربون، حتى المرضى المترددون على عيادتي يُصرِّحون بذلك، في الثانية والثلاثين من عمري، لم أتزوج حتى الآن، أعيش بمفردي في شقتي بالمهندسين، هي بالأصل شقة جدتي لأمي التي توفيت وتركتها لي على الرغم من وجود أحفاد غيري، من الجائز لأني الوحيدة التي ارتبطت بها لمدة طويلة وعشت معها حتى وفاتها، أو لملامحنا المشتركة وظروفنا النفسية المتشابهة، حتى أني أخذت عنها اسمها، جدتي أيضًا فشلت في التمرد وعانت صرامة التقاليد.
الشقة كبيرة -ثلاث غرف نوم وغرفة استقبال- تتسع لتشمل الصالون وأنتريه وسفرة، وغرفة مكتب وأخرى للمعيشة ومطبخًا كبيرًا وحمامين، يزين الحوائط لوحات زيتية كان جدي يقتنيها من مزادات متعددة؛ فهو يهوى الفن والأنتيكات وبعض اللوحات الزيتية الخاصة بالأسرة نفسها، صور عائلية دافئة في وقتها، وما لبث الدفء أن اختفى تدريجيًّا وأصبحت الحيطان باردة إلا من الذكريات التي تحيا وتعيش في داخلي، أعرف قصة كل صورة، كانت مناجاة تلك الصور وشغلنا الشاغل أنا وجدتي، كانت السلوى في ليالٍ طويلة باردة، ويزدهر كل ركن في البيت بزرع أخضر تعودته وتعودني، كانت جدتي تعلمني كيف أعتني به وكيف أجالسه، وأبثه حزني وأفكاري حتى لا تخنقني الوحدة.
أسكن بمفردي بعد أن قررت الانفصال عن أمي وأبي، وبعد وفاة جدتي لم أرغب في العودة إليهما، وأن أترك مكان طفولتي ورائحة الحنين التي تحاوطني، وكأنها تأخذني إلى عالم أعيش وأتعايش فيه، أراه مختلفًا تمامًا عن حياتي في بيت والديّ، التي غالبًا ما أصفها بالرتابة الممزوجة بالشكليات، وكانت أول مرة أفعل ما أريده وأصمم عليه دون خوف، كنت سعيدة بذلك على الرغم من رهبة أن أعيش بمفردي لكنني لم أتراجع لحظة، وكانت تلك بدايات تمردي التي جاءت متأخرة.
وحيدة لا أخ لي ولا أخت، أبواي هما من اختارا لي وحدتي، لم تسمح لهما الظروف ولا الرغبة في إنجاب طفل آخر، فالحياة بينهما مدروسة تمامًا ومخطط لها ولا تحتمل أي إزعاج أو عائق يمنع عنهما المزيد من النجاح، ورغم مستواهما الثقافي والمادي والاجتماعي المرتفع إلا أنهما يعيشان بعقلية نفعية على حافة سكين، العلاقة بينهما المعنى الحقيقي للمادية المطلقة، فكرة استمرار الحياة الزوجية تخضع لحساب المكسب والخسارة ولكن باحترام، لا أتذكر أبدًا أن أحدًا منهما تعدى على خصوصية الآخر، أو حاول أن يسلبه بعضًا من حقوقه، دائمًا يبدآن بالنقاش وينتهيان إلى حل يرضيهما معًا، اتفقا أن يعيشا بحدود عقدٍ كتباه بدقةٍ لا يخرج أحدهما عن بنوده، أمر كهذا غير مسموح به.
ولكل منهما حرية التصرف في حياته الخاصة، وغير مُطالب بأي توضيحات للطرف الآخر، كنت بينهما كعصفور يتلهيان به وقت الفراغ ويتأملان بزهو ألوانه المبهجة، التي لم يكن لهما يد فيها، ولم ينتبها لصوته الحزين الذي خلقاه له.
أمي ترى أني أخذت منها جمالها فقط، وأبي يرى أني أخذت منه الذكاء فقط، وأنا أرى أني مجرد جمال باهت يفتقد الروح وذكاء مشتت يساعدني على البقاء لكن دون سعادة.
لم أرغب في تكوين صداقات، فجميع العلاقات فاشلة، حتى سالي ابنة خالتي التي أستشعر أنها جزء مني وتكاد ملامحنا تتطابق، فالكل يرانا توأمًا متماثلاً في الشكل على الرغم من أنها تكبرني بثلاثة أعوام، حياتي بين يديها كتاب مفتوح بلا رتوش أو تجمل ولا يخجلني ذلك، لازمتني سنين عمري بكل منعطفاتها، أشعر بالغموض معها، هي كتومة وقد حاولت العبث في حياتها كي أكتشف ما تخفيه، أشعر أن وراء هذا الغموض شيئًا مخيفًا تحاول أن تستره عني، ربما لأنني دائمًا أحملها مشكلاتي وأفكاري التعيسة عن العالم، لم أعطها فرصة للفضفضة، لكني أتذكر كم كنا ملتصقتين في أثناء مشكلاتها مع زوجها وطلاقها منه، هي تظهر دائمًا مرحة منطلقة لكن إن اقتربت أكثر منها تراها وحيدة حزينة تعيش حياة بوجهين، ككل الناس، من منا لم تلكزه يد الشيطان فيصرخ؟!
رأيت نفسي في القراءة والسينما وحفلات الباليه والموسيقى، من الجائز لطبيعة ممارسة تلك الأشياء بمفردي، الآخر يزعجني ويعكر صفو وحدتي التي تستهويني أكثر الأحيان.
لم أكن حالمة بقدر أن أشغل يومي وأبعد عقلي عن التفكير، وخلق حالة من السكون وإن كان كاذبًا، أن أعوض نقص المشاعر الحقيقية التي أفتقدها.
كل ذلك أعرفه عن نفسي لكن يظل نفس السؤال يتجول داخلي كطنين النحلة، مَن أنا؟
أنا الأخرى التي لا يعرفها أحد داخلي، رغباتي أحلامي طموحاتي ذنوبي هفواتي، أنا المستترة خلف براءة وجهي وضعف خطواتي التي كثيرًا ما تظهر لي ضاحكة مجلجلة، لن ترى السعادة وأنتِ ترفضيني وأنتِ تطمسين وجهي، أنا وجهك الآخر التعيس إن لم ترضي بي.
هذا السؤال الوجودي الذي فشل الكثير من الفلاسفة في تحديد ماهيته والإجابة عنه رغم عمق معطياتهم، علق بي ولا يتركني، كنت أتساءل دائمًا مَن أنا؟ ويحيرني السؤال أكثر من حيرتي في انتظار جواب لا يأتي أبدًا، لماذا أجهل نفسي؟ لماذا لديّ هذا الفائض من الوقت الذي أريقه في الأسئلة، لماذا لا أتمتع بالحرية التي أغدقها عليَّ أهلي بلا مبالاة ودون نية حسنة، ولأكون أدق ليست حرية إنها إهمال قاتل ولكني أجمله كي أستطيع التعايش معهم، أشعر بالضعف والوهن كورقة قذف بها لتلاقي حتفها وسط الريح، فتتطوح إلى أن تهمد على أرض مبتلة، تدوسها الأقدام بلا اكتراث.
هل أنا حبيبة العاصي سيدة المجتمع المشهورة الجميلة، التي تتصدر شاشات التليفزيون شبه يوميًّا، أستاذة الاقتصاد اللامعة دومًا، صاحبة عمود رأي في إحدى الصحف المشهورة، والتي توزع وقتها بحرفية ما بين صالونات التجميل وصالونات المجتمع الراقي.
أم محمود صبري الطبيب الشهير والجراح المتميز على مستوى الشرق الأوسط في جراحة التجميل، والذي لا يخلو مجلسه من جميلات المجتمع وتتصدر لقاءاته شاشات التليفزيون، ولا بأس من مصادقة الشابات وقت الفراغ دون الخروج عن النص ولا ارتجال في العلاقات، حريص كل الحرص على سمعته في العلن وليفعل في الخفاء ما شاء.
أم أنا تلك الدمية التي يتجاذبونها وقت العناد ومحاولات الانتصار كل على الآخر؟
جيلان المهزومة التي تبحث لنفسها عن موطئ قدم بينهما لتكون هي الحائرة، تدرس باللغة الفرنسية أم بالإنجليزية، تدخل كلية الطب أم سياسة واقتصاد، تكمل تعليمها بمصر أم بالخارج، تتزوج ابن طنط نهال أم ابن أنكل رفعت؟ جيلان التي تركت من تحب طواعية ودون قتال لكن بالأمر.
جيلان التي تعشق اللون الأحمر وترتدي الأسود، تحب شعرها على كتفيها منسابًا، كشلال ذهبي يداعبه ضوء النهار، إلا أنها تقهره وتحدد موضعه بدبوس قاتل يجعله لا يتحرك فوق رأسها.
جيلان التي تعشق الألوان، وكم تجلس لتخط عيونها وشفتيها أمام مرآتها الصامتة، ثم تعود وتزيلها بقسوة وتعاود طمس معالم وجهها لتبدو شاحبة باهتة لا لون يذكر لها، جيلان التي تأكل وتأكل بنهم لتعود وتقتل نفسها في التمارين الرياضية كي تنحف.
المحايدة دائمًا رغم كتلة المعاني والكلمات على شفتيها.
جيلان أنا، إنسانة ولست دمية يتقاذفونها في المعارك، ويخططون مستقبلها في لحظات الفراغ أو على متن طائرة يسافر عليها أحدهم، أنا لحظات ضائعة بينهم، عصفور فقد سماءه ولم يعد له موطن يؤويه.
جيلان الكتومة التي تجهل حتى مَن هي؟ وتتنصل من أنوثتها وتتخلى عن أبسط أحلامها.
الخجولة التي يتوارى جمالها خلف قناع القوة المفتعل، والتي تخلت عن حبها بكل بساطة.. هذه أنا التي لا أتخلى عنها وتعيش معي علاقة محرمة في الظل.
أخيرًا ومع الضوء الأحمر "وكلكسات" السيارات المكتظة بالطريق استكملت رحلة عودتي، وأضواء الإعلانات المتوهجة المنتشرة بالشارع الطويل تتراقص أمامي، وأنا أقطع الطريق بعقل شارد، قاربت على الوصول إلى منزلي، مصممة على أن أصفي ذهني وأرتب أفكاري، لأتخذ قرارًا أعاني من تأجيله.
أريد أن أعيش كما أريد، كان صحيحًا أم خطأ لن تكون نهاية الدنيا، سأحطم كل خطوطي المستقيمة، لن أخاف ولن أتردد، هي حياتي أنا وأنا من أجملها على مذاقي الخاص.
اليوم استقبلت حالة جديدة: رجلًا، وسيمًا، هادئًا وعيونه السوداء بها لمحة حزن، أثارت نظراته فضولي ومن أول لحظة، فضول أم إعجاب لا أدري، لكن قفزت على وجهي روح مراهقتي المفقودة، سليم هذا اسمه، أحضرت معي ملفه، لكن عقلي مشتت، أحتاج إلى صفاء ذهن حتى أبدأ.
ركنت سيارتي في جراج البناية، الساعة أصبحت العاشرة، تذكرت كنت أريد أن أمر لأقرب سوبرماركت لديّ قائمة مشتريات أحتاج إليها للبيت، لا بأس غدًا إجازتي أستطيع شراء أغراضي بهدوء، الزحمة المرورية وانسيال ذكرياتي لم تدعني أتذكر.
أسكن بالطابق الأخير، يروق لي أن أنظر إلى الصورة من بعيد، لأرى كل الأشياء حتى وإن كانت تظهر دقيقة وصغيرة، لكنها على الأقل نظيفة، بُعد المسافة لا يجعلني أرى القبح، وهذا ما قررته في كل علاقاتي، أن أبعد لأراها جميلة حتى وإن لم تكن الحقيقة، الحقيقة تؤلمني، وعملي هو اكتشاف الحقيقة، وأنا لا أحب أن أتألم، قد أنهي علاقة كي أحتاط من لحظة ألم.
أخيرًا وصلت.. خلعت حذائي على عتبة المنزل، شعرت براحة محببة، تحررت من ضيق إحساسي وتجملي طيلة اليوم، قدمي تؤلمني، لماذا نصمم على انتعال الأحذية ذات الكعوب العالية الرفيعة، على الرغم مما نشعر به من الألم؟! يحيرني هذا التناقض حب الراحة والتمسك بالألم!! وكأنها عادة نسائية نرضعها منذ المولد، نتألم لنتجمل ونبكي عند السعادة، في وقت واحد مشاعر متضاربة غير متوافقة لكنها الطبيعة فينا.
ذهبت إلى غرفة النوم وبدأت في خلع ملابسي، حررت شعري من قيوده، ونظرت إلى نفسي في مرآتي، عندما أكون وحدي أصبح شخصية أخرى! كثيرًا ما كنت أنظر إلى المرآة وأدقق النظر أحادث نفسي، أحاول أكتشف مَن أنا؟ خلعت ملابسي وأخذت حمامًا باردًا، لم يفتني أن أدلل جسدي بعطري الفواح، ثم ارتديت قميص نوم ورديًّا يكاد يصل إلى الركبة، لم يفتني أن أرى نفسي بعيني المتشوقة أنا جميلة، لا ينقصني غير دفء مشاعر أفتقدها، ما زلت أتذكر أول قُبلة من هشام، وكيف تركت حتى الآن بصماتها فوق شفتيّ، أشعر بمذاقها أتحسسها بعد كل هذه السنوات، ما زالت الحرارة تتدفق لجسدي عندما أتذكرها، عدت لوعيي رفضت الخنوع للذكريات، وخطوت بدلال بعد أن أطفأت نور الغرفة.
هذا الصمت والوحدة جعلني أعيش مع أخرى خلقتها كي تؤنسني في وحدتي، كنت أتلهف على العودة لأجالسها وأبكي بين ذراعيها ضياع معالمي وهويتي.
أنا وفي عمري هذا، حياتي باردة حتى لو كانت باختياري، أشعر بصقيع الجدران يحتويني ببرودتها التي جمدت ما تبقى من مشاعر، كم تمنيت أن أرتبط بهشام ليشاركني حياتي، غرفتي، سريري، أحلامي، نتقاسم معًا أطفالاً تعبث في كل زوايا حياتي، تصنع من الضوضاء سعادة وبهجة، بعيدًا عن الرتابة التي تقطع سنين عمري، وتتركني بقايا مشاعر تتمنى الأمومة ويفتقد صدري ضمة طفل، عندما أصل إلى تلك المرحلة، مرحلة الرغبة في الحياة الطبيعية، أعود وأتذكر أبي وأمي لابد وأن أحمي أطفالي من هذا الشقاء من عالم تستحيل السعادة فيه، وأين هو هشام بعد تلك السنوات؟
كنت أتمنى أكثر من ذلك، لم أكن أتخيل تلك الحياة التي اخترتها لنفسي، ولنكن منصفين أكثر، لا أدري أنا مَن اختار حياتي هذه؟ أم أني تركت كل من حولي يخطط لي ويحركني ويتلاعب بضعفي.
مع ذلك أراني مختلفة، هذا الاختلاف القادر على صنع امرأة بمعنى الكلمة، امرأة تتمتع بذكاء جسدي تقدره، وتتميز بطريقة عرضه بكل وقار وجاذبية، لا تستطيع أن تتجاهل تلك الهبة التي منحها إياها الله، جمال يبهر من يراني، لماذا يجب أن نخفي هذا الجمال، لماذا نتجاهل هذا الكنز الإلهي وتلك العطايا، لماذا لا أشعر بالسعادة؟ ألأنني ورثته من أمي؟
السعادة أن نملكها ونعرف كيف نستغلها، أمي مثلًا تعرف كيف تستغل تلك الهبات التي وهبها إياها الله، ما زالت تنعم برونق الشباب فالفرق بيننا في العمر ليس كبيرًا، لكنها تحتفظ بحيويتها وجمالها وتعمل على إدامته، أنا إلى جانب ذلك لست ضعيفة أو من الممكن أن أستسلم، لديَّ عقل راجح يعرف كيف يخطط ويستثمر تلك الكنوز، وعندي ذكاء اجتماعي قادر على أن يصنع مني نجمة مجتمع كما كنت أتمنى، مثل أمي، أتمتع بقوام ممشوق وملامح فاتنة تؤثر فيك من الوهلة الأولى، وجهي طفولي وعيناي سوداويتان، وأنفي دقيق، وشعري ذهبي، نعم أعرف ذلك وأراهن عليه، وهذا ما أعطته لي عوامل الوراثة من أمي، ولكني على جانب آخر عندي القدرة لإبعاد أي رجل عني، للاستغناء عنه بحياتي، والاكتفاء بنفسي، لا أدري لماذا أحاول أن أصنع من نفسي نسخة أخرى من حبيبة العاصي وفي نفس الوقت أتمرد عليها! هل أنا مريضة؟! أغمضت عيوني، عادتي حينما أخجل من شيء أو يصعب عليَّ تقبل وجهة نظر، أهرب لظلام أصنعه وأتوه فيه للحظات، لأعود أخرى تبحث وتغرق من جديد.
لا أدري لماذا أتذكر كل تلك التفاصيل عن نفسي، ولماذا أستدعي الوجع، ألم أكن أنا من اخترت وقررت أن تستسلم وتصادق الوحدة، ولكني كنت مجبرة على الخلاص، وأن أتحرر وأصنع ما أريد بعد أن فشلت في أن أكون أنا.
يتكرر سؤالي لنفسي: ممَّ تتحررين؟ فأنتِ تحومين حول شبح خلقتيه بيديك، وأسكنتيه صدرك يتنفس برئتيك ويعبث بأسرارك ويفترسك لا يرحمك، إلى هنا ونفضت عن نفسي غبار الأسئلة وعدت لها.
أشعر بالجوع عندما أبحر في التفكير، لابد وأن أتوقف عن هذه العادة، التي تكلفني الكثير، فلكي أحافظ على قوامي، أهلك نفسي وجسدي في صالات الرياضة ثلاثة أيام بالأسبوع.
أنتقم من جسدي ووحدتي بالتدريب العنيف.
صنعت لنفسي عشاءً خفيفًا من الجبن الأبيض والزيتون الأخضر، وكوبًا من الحليب البارد غير محلى، وجلست على أريكتي المفضلة أشاهد التليفزيون، خففت من حدة الضوء وبدأت ألتهم طعامي بسعادة مفتعلة، وفجأة تذكرت ملف مريضي الجديد سليم، فلأحضره وأقتل معه الوقت المتبقي حتى أنام، فالنوم لا يأتيني طواعية، لا شيء في حياتي سهل.
كنت قد أحضرته معي لدراسته بالبيت، ولكني نسيته بسيارتي، تركت عشائي وذهبت إلى غرفتي، قررت النزول للجراج وإحضار الملف من السيارة، ولأن الوقت متأخر تكاسلت عن تبديل ملابسي، ارتديت الروب المعلق على الشماعة بغرفة نومي على عجل، لم ألتفت لكونه قصيرًا أو مفتوحًا وأنه سيكون سبب إحراجي بعد قليل، لم أتوقع أن أقابل أحدًا في هذا الوقت، هي دقائق لا أكثر لن يحدث فيها شيء، هكذا حدثت نفسي.
أخذت مفاتيحي ونزلت، كان السكون يخيم على المكان، والضوء الخافت أربكني جعلني أتوهم وقع أقدام تأتي برتابة منتظمة، لم أميز الاتجاه أصبحت أتلفت حولي في خوف وتوجس، أوضاع البلد الآن مرعبة، حياتي الخاصة لا تدعني أتابع، غير أني أسمع عن اعتداءات كثيرة هذه الأيام، لا أدري! حظ بلدي كـ حظي، كلانا لا ينعم بالاستقرار، هناك دائم شيء ما يبدد السكينة والأمان، الصوت يقترب أكثر وكلما اقترب، أسرعت أنا في خطواتي، أحضرت الملف سريعًا، وفي طريق العودة لشقتي اصطدمت بشخص لم أتبينه في البداية، ما دفعني للصراخ وسقط مني الملف إلى أن اكتشفت هويته، إنه جاري يوسف، كنت في قمة خجلي لأول مرة يراني بهذا الشكل، كنت متوترة وخائفة، لاحظ ذلك وحاول أن يبدو طبيعيًّا ويهديني، انحنى والتقط الملف، لفحتني أنفاسه ورائحة عطره خطفتني، أعادتني لأنوثتي أشعرتني برغبة في أن يتلقفني بذراعيه وأعود لأفكر في أسئلتي التي ضعت فيها، أفقت من تلك اللحظة سريعًا فهي ليست لي ولم أتعودها، عدت جيلان الصلدة من جديد، تناولت الملف منه سريعًا صاحبني حتى المصعد، واستطعت أن أهدأ وأستجمع نفسي بصعوبة، لم أتخيله بهذا الطول، جسده ممشوق وسيم، لديه لحية مهذبة وشعر مجعد بعض الشيء، مرتب، كانت أول مرة أراه عن قرب، وسيم جدًّا هو من الشخصيات التي تألفها وتقترب منك في هدوء، لتتسلل داخلك بلا عناء ولا كلفة، يسكن بالطابق الثالث، وحين أغلق المصعد علينا ازداد ارتباكي، لاحظ ذلك وحاول أن يبدو لطيفًا، سألني عن حالي، ومن المؤكد أنه شيء مهم الذي جعلني أنزل بهذا الوقت على هذه الصورة، أجبته أنه كذلك وأنا أتعمد ألا أنظر إليه، وكنت منشغلة في ترتيب شعري ومحاولة ضم الروب على جسدي، وبَّختُ نفسي كيف أفكر هكذا ولماذا تتحرك داخلي أنوثتي المغدورة بعد كل قهري لها، لم يكن ينظر إليَّ وهو يحادثني كان مهذبًا، أم إنه لم يرني كامرأة؟! ألم يُعجب بي، لكن لم يفُتني أن أشعر بنظراته المهزوزة وملامحه الجادة وعبوسه، وأنه حاول أن يبدو مرحًا وقريبًا، كنت قد سمعت عنه حكايات كثيرة من الحارس.
عندما كنت أركن سيارتي دائمًا ما يبدأني بالثرثرة عن أحوال الجيران، وهو يحمل عني أكياس المشتريات في نهاية كل أسبوع، تعودت منه على هذا الملخص السريع، وبعض الجارات، ولكني كنت لا أتعاطى معهن ولم أستمع لما يقلن، بل لم أعرهن أي اهتمام، كنت أراهن ثرثارات وحكاياتهن لقتل الوقت، يعانين من الإهمال والتهميش، يخلقن لحياتهن مهامًا تبقيهن أحياء، لا أحب هذا النوع من النساء، كن يرونني مغرورة متكبرة، أسمع آراءهن عني من الحارس، لا يبخل بنقلها بلا حذف ودون حياء -ويسردها بخبث أشك أنه رأيه هو الآخر- في أثناء نشراته الأسبوعية المعتادة، لكنه أسهب في الحديث عنه حتى أنني قررت أن أدرس حالته من بعيد.
هي فرصتي الآن إن كنت ما زلت مهتمة، وكأنه لا يكفيني ما أنا فيه! لا داعي، وصل المصعد إلى الطابق الذي يسكن فيه وأنا أودعه، ودون إرادة مني سألته لو نستطيع أن نلتقي ونشرب معًا فنجان شاي، أنا أقطن الطابق الرابع شقة 20، وبمجرد أن انتهيت من كلماتي، حتى تسمرتُ وهو ينظر نظرات مدهوشة ومريبة، وعاد سريعًا يتمتم: "إن شاء الله".
- أنا جيلان دكتورة جيلان.
عاجلته بكلماتي تلك وكأني أؤكد له أنني امرأة محترمة لا يذهب عقلك إلى بعيد!!
ابتسم بهدوء، وقال:
- أعرف.
خرج من المصعد وتركني غارقة في حالة من الذهول والخجل، أغرق في دهشتي ماذا فعلت؟ ماذا سيقول عني أكيد مجنونة أو طائشة، لكني لم أشأ أن أضيع فرصتي تلك التي يمكن ألا تتكرر! ولكنه يعرفني هو أوضح ذلك.
عدت لشقتي وما زال قلبي يرتجف بشدة لتصرفي الأحمق، كيف اندفعت وطلبت من رجل غريب أن يأتي لشقتي وأنا بملابسي تلك وبلا مناسبة، ماذا سيظن بي الآن؟! ماذا تراه يقول عني؟! تعجبت لجرأتي غير المعهودة، ولأكون صريحة مع نفسي بعض الشيء، فضولي ما جعلني أدعوه أم إعجابي به كرجل؟ عمومًا كنت سعيدة لاكتشافي أني ما زلت أتمتع بمشاعر داخلي، وما زالت تتحرك لرجل حتى وإن أنكرت، لكن ما الفائدة وأنا سجينة هنا منسية؟!
عدت لاستكمال عشائي بنهم وكأن الموقف فتح شهيتي وكأن شيئًا لم يحدث، تجاهلت الوضع الأخير فأنا أعرف تمامًا كيف أتصرف في أي حدث صعب وأوقفه عند حده، لكني أختزله لا أفرط في أي لحظة خطتها يد الحياة فوق تضاريس عمري.
فتحت الملف، قرأت ملحوظاتي التي دونتها عنه، في أثناء المقابلة.
احتاج الأمر إلى فنجان من القهوة ونسيت نفسي.
سليم إعلامي معروف بقناة فضائية مشهورة..
متزوج ولديه ثلاثة أولاد..
مستقر ماديًّا..
عاش مدة خارج مصر..
العمر 40
توقفت عن القراءة واستغرقت في أحداث اللقاء..
لن أنكر أني كنت في قمة دهشتي عندما أخبرني السكرتير عن اسم الحالة، وقد سألته: أهو الإعلامي المعروف؟
فأجابني: هو يا دكتورة.
ولكن لماذا يأتي إليَّ أنا الطبيبة المغمورة، كان في إمكانه أن يذهب إلى أشهر طبيب، الإجابة لم تستغرقني كثيرًا، مؤكدًا حاجته إلى السرية، على الرغم من أن كل طبيب مؤتمن على أسرار مرضاه، إلا أنه الخوف من تتبع المشاهير في حالة لو الطبيب أيضًا مشهور.
بدأت أهتم بالحالة قبل أن أبدأ معه، حاولت أن أخفي إعجابي به، فأنا من متابعيه على الرغم أنني لا أهتم بالسياسة ولا بالمواضيع التي يثيرها في برامجه، أرى تلك المواضيع زيفًا وتضييعًا للوقت وثرثرة علية القوم، ومجرد تباهٍ بالمصطلحات الجوفاء، والحياة تسير على أي حال وبأي أحد.
طلبت من السكرتير أن يدخله، ما هي إلا دقائق وكان حاضرًا بمكتبي، يسبقه عطره الباريسي، رجل لا تستطيع تحديد سنوات عمره، تحتمل التأويل كل نظرة تجعلك تظن عمرًا آخر مختلفًا، طويل ممتلئ الجسد باتساق وحساب شديد، رشيق رياضي، يظهر ذلك من تقسيمات جسده، أنيق للغاية وكأنه رسمة بمجلة أزياء عالمية خرج منها للتو، رجل تتمناه أي امرأة في أي علاقة، فقط تقترب منه، تعلو صفحة وجهه الوسيم ابتسامة جذابة، وكبرياء محبب يزيده غموضًا، كان يخطو إليَّ بوقار وهدوء شديدين إلى أن مد يده، وهو يقول:
ـــ سليم مختار.
بكل هدوء ومن وراء مكتبي، وبمحاولة السيطرة على الموقف وفرض شخصيتي كطبيبة، وبلا مبالاة ودون أن أبدي أي رد فعل يضعفني ويقويه، أجبته:
ـــ أهلاً أستاذ سليم، ودعوته للجلوس أمامي إلا أنه تركني وذهب إلى "الشازلونج"، تمدد وأغلق عينيه، تركني أتفحصه للحظة، بدا لي أنه من عشاق السينما الأبيض والأسود من طريقته تلك، وكتمت ضحكتي، أتاني صوته الواثق "من أين أبدأ دكتورة؟!".