tafrabooks

Share to Social Media

1- لا تلمسي الأحجــار!

كان من المثير لها أن تعرف تلك الحقائق الصغيرة عن أمها للمرة الأولى، فمن غير المعقول أن يخطر على بالها ولو بشكل عابر أن ذلك الكيان الثابت القادر دوماً على حل كل المشكلات، كان يملك هذه الأفكار الساذجة ذات يوم، الأفكار الساذجة والأفعال الأكثر سذاجة على حدٍ سواء!
كانت تلك هي المرة الأولى التي تسمع فيها أمها وهي تتحدث بهذا الأنطلاق عن نفسها، جالسة على الأريكة الوحيدة في الردهة وخلفها ما كان يفترض أنها نافذة كبيرة ولكنه بتدخل من أمها أصبح جدار زجاجي ضخم يطل على الشرفة الكبيرة في المنزل التي امتلئت بانواع مختلفة من النباتات المنزلية المزهرة في بعض الأحيان واليابسة في أحيان أخر، تحضتن بكفيها كوب من الشاي الدافئ، تتحدث بحرارة إلى الجارة المسنة التي من النادر أن تكف عن الحديث لتستمع ولو بنصف انتباه إلى الطرف المواجه لها..
قالت الأم ضاحكة في البداية " وأنا طفلة كنت أعتقد أن الأطفال لا يموتون، كنت أظن أن الموت زائر غامض يأتي للكبار فقط.. تضحك أكثر وهي تقول "وليس مجرد الكبار بل المرضى منهم فقط" تخيلي مدى السذاجة التي كنتٌ فيها، لم أكن أعلم أي شيء عن الحوادث والحروب والنكبات وكوارث الطبيعة! طبعاً لم أكن أتخيل وجود الشرورأو الأحقاد اصلاً في نفوس بعض البشر التي تجعلهم قادرين على اقتراف الأثام، ناهيك عن الإيذاء المتعمد لبعضهم البعض!!"
تنظر إليها الجارة مشفقة، تهز رأسها دون أن تتكلم مكتفية بتغيير وضعية جلوسها قليلاً، في حين تستطرد الأم وهي تتحرك قليلاً إلى الأمام، لتضع كوب الشاي على الطاولة دون أن تنهيه:
"عندما لم نكن نعيش هنا في مصر في طفولتي.. كنا نعيش في أحدى الدول العربية، تعرفين انتِ هذه الدولة حيث كانت البنات ترتدي الحجاب منذ طفولتهن، لم أفهم ابداً وقتها كيف أكون اصغر من أخي بعامين تقريباً ولكن يجب عليّ أن أرتدي مثل أمي واتصرف مثلها، كنا نسكن هناك في منزل صغير جميل في الواقع تقابله في الجانب الأخر مزرعة كبيرة! تنظر قليلا إلى الجارة الصامتة وتكمل حديثها قائلة: نعم، مزرعة حقيقية كبيرة مثل تلك التي تظهر أحياناً في الأفلام، وكنا نذهب إليها أحياناً ركضاً أنا وأخي لنحضر بعض ثمار الطماطم أو الليمون أو الخيار. وفي أوقات أخرى كنا نتسلى بقص بعض فروع الريحان، وكنت أستمتع كثيراً بمشاهدة أخي وهو يقذف النخيل الفارع الطول في رهان منه على أنه سيتمكن من إسقاط بعض البلح بحجارته الصغيرة، هل تصدقي أن تلك المزرعة كانت تحوي بئراً ضخماً؟
كان هناك في أحد أركانها البعيدة بالقرب قليلاً من الاستراحة الضخمة بداخلها! كان أصحاب المزرعة يعرفون أبي جيدًا، وكان العاملون بها يسمحون لنا باللعب داخلها كما نشاء على أساس أننا أبناء أشهر طبيب بتلك المدينة الصغيرة البعيدة.. كان أخي يستمتع كثيراً بالسباحة داخل ما اتفقنا نحن على تسميته بالبئر.. لا أعرف بالضبط كان أشبه ببحيرة صغيرة مبلطة بالحجارة وإلى جوارها مضخة ماء عملاقة تنقل إليها الماء باستمرار، وكان عمقه ليس بالخطير على من يُجيد السباحة بأي حال.. كنت أكتفي بالجلوس على الحافة واضعة ساقي الصغيرتين في الماء..بينما أخي يواصل لهوه بالسباحة والغطس في الماء الدافئ المتجدد على الدوام. وقتها عقدنا أنا وأخي اتفاقا ضمنياً على أن المزرعة ستكون لنا ما دامت فارغة من أصحابها ولكننا لن ندخلها أبدًا أثناء تواجد أحدهم أو بعضهم داخلها.. ليس لأنهم يكرهوننا مثلا، أبداً على الإطلاق ولكن لنقل أن أخي كان لا يتفق معهم.. كنت أصغر من أن أفهم سبب الخلاف وعدم الاتفاق. كانوا رفاقا في نفس المدرسة متعددة المراحل، وحتى أن أحدهم واسمه "عبد الله" كان زميلاً له في نفس الصف. ولكنهم لم يكونوا أبداً أصدقاء ولا حتى أعداء، كانت حالة غريبة من السلام.. فالسلام هو النقيض الوحيد للحرب ولكن لا علاقة له أبداً بالحب! حسنا.. ربما يعني التعايش وكفى!"
نهضت الأم من مكانها في توتر خفيف، نظرت للحظات إلى ابنتها التي تتظاهر بالانشغال في محاولة تكوين لوحة الباذل الدقيقة أمامها، في حين أنها تستمع إلى رواية أمها باهتمام شديد. فالأم كانت نادراً ما تحكي والجارة أيضاً كانت نادراً ما تسمع!!
عادت الأم لتجلس، ولكن إلى جوار الجارة هذه المرة بحيث أصبحت تنظر إلى النافذة وظهر كلتيهما للطفلة الصغيرة التي تنتظر بقية الحكاية بشوق، سمعت تنهيدة من أمها كما سمعت صوت رشفات الجارة لكوب الشاي الخاص بها، قبل أن يعود صوت الأم الهادئ مسترسلاً في حكايته:
" كنا في عصر أحد تلك الأيام من خريف عام91 في تلك الدولة، ربما لا تعرفين ولكن العام كله عبارة عن فصل صيف طويل هناك، الخريف فقط كان يعلن عن نفسه هناك من خلال تساقط أوراق بعض الأشجار التي كنا نتسلى أنا وأخي ببعثرتها في المزرعة. يوم آخر مثل بقية الأيام، نواصل لعبة الاختباء التي بدأنها بعد أن ترك هو دراجته على سور الاستراحة أسفل إحدى النوافذ المغلقة، وتركت أنا الإيشارب المنقوش الصغير الذي كانت أمي تصر على جعلي أرتديه على الرغم من أن عمري كان لم يتجاوز العشر سنوات معلقاً عليها ، ولكنها كانت تبرر بقولها أن تلك هي عادات البلد التي نقيم بها، وكنت أسمعها تقول أحياناً لأبي ( والله من الجيد أنني أتركها تلعب مع أخيها لبعض الوقت، لا أرى فتيات يخرجن هنا إلا من أجل الذهاب إلى المدرسة)
" لازلنا في لعبة الاختباء.. والحقيقة أنني حتى في اللعب كنت ساذجة على الدوام، فلم يكن على أخي أن يبذل الكثير من الجهد للإمساك بي، ولكني هذه المرة كنت عازمة على الفوز بأي شكل. وبينما كنت أسمع خطوات أخي القادمة من بعيد وهي تصدر ذلك الصوت الشبيه بالخرفشة الناتج عن سيره على الأوراق الجافة للأشجار، تسللت أنا في خفة ودخلت إلى الاستراحة وحدي للمرة الأولى! لم يكن الغريب هو أن بابها كان مفتوحاً فهو دوماً هكذا، ولم تكن تلك هي المرة الأولى التي ندخل فيها إلى الاستراحة فلقد دخلناها لمرات عديدة معاً. لكن هذه كانت المرة الأولى لي وحدي، ولدهشتي كانت أجهزة التكييف العديدة المثبتة في تجاويف متعددة متباعدة داخل الجدار تعمل بدرجتها القصوى مصدرة رتيباً منتظماً محوله الداخل إلى عالم آخر بارد ومعزول، ضبابي إلى حد ما بفعل الحرارة التي دخلت معي عندما فتحت الباب.. كطفلة كانت الإثارة تغمرني في تلك اللحظة، خطوت بحرص لأنظر من خلال زجاج النافذة الملون إلى أخي الذي ابتعد عن الاستراحة متجهاً إلى البئر متوقعاً أنني اختبأ هناك خلف أشجار الموز ذات الأوراق العملاقة.. أطلقت صيحة انتصار خافتة وأنا أركض ناحية الباب وقد شعرت أنه بالتأكيد لن يمسك بي هذه المرة.كنت عند الباب تقريباً عندما سمعت صوته من داخل الاستراحة..
-"هويدا" تعالي هنا!
لحظتها التفت إلى مصدر الصوت في قلق طفولي، رافعة كفي بحركة لا إرادية أتحسس خصلات شعري الشقراء المجعدة وقد تذكرت أنني تركت إيشاربي في الخارج معلقاً على دراجة أخي، ستوبخني أمي لاحقاً بالتأكيد. كان هذا أحد رفاق أخي في المدرسة، ولكنه أكبر منه يسبقه بصف أو اثنين تقريباً. تجمدت في مكاني قليلاً وأنا لا أعلم ما الذي يجب أن أفعله بالضبط؟ ولماذا يفترض مني أن أذهب إليه لمجرد أنه طلب مني ذلك؟! فكرت أن أخرج راكضة وهو رد فعل طفولي مقبول إلى درجة معقولة.. لكن قبل أن ابدأ بهذا الفعل، كان هو يقف أمامي تقريبًا.. أنا لم أكن أعرف اسمه في هذا اليوم لكن صورته انطبعت في ذاكرتي جيدًا، لازلت اذكر شاربه الغير مشذب حديث النمو وسمرة بشرته الجافة وشعره الأسود الأملس المشعث أسفل قبعة من الخيوط البيضاء. جذبني إليه برفق وليس بقوة، وهو يكرر (تعالي.. يا هويدا.. ماذا تفعلين هنا؟ لنجلس قليلاً.. تعرفين أنني صديق(سليم)أخوكي.. أراكي معه كثيراً.. أنتِ جميلة كثيراً) كان يجذبني بعيداً عن النافذة وهو يتكلم بنبرة صوت ثابتة.. وقبل أن أحاول أن ابتعد وجدت نفسي التصق بجدار الأستراحة البارد وهو أمامي بالضبط.. جسده ضعف حجم جسد أخي تقريباً ثقيل مثل انفاسه التي تصطدم بوجهي وأصابعه النحيلة القوية تتحسس جسمي من فوق ثوبي طويل الأكمام الذي تصر أمي جعلي ارتديه عند خروجي من المنزل على الرغم من حرارة الطقس. شعرت بقطرات من العرق تنحدر بسرعة من اعلى ساقي لتسقط على حافة حذائي الرياضي الأبيض الصغير وهو يرفع طرف ثوبي لتنطلق اصابعة في أكتشاف خريطة جسدي كفريق أستطلاع يتحسس أولى خطواته في عالم جديد، على الرغم من أنني وقتها كنت طفلة شديدة السذاجة كما أخبرتك، إلا أنني ولأول مرة في حياتي أدركت معنى الأنتهاك.. وشعرت أن كل معاركي الصغيرة مع أمي من أجل أن أنال بعض الحرية التي يتمتع بها أخي كانت تافهه جدا.. جدا..
تصمت قليلا.. تتنهد بلا معنى وهي تشيح بوجهها عن الجارة التي فتحت فمها بلا كلمات.. وقبل أن تبدأ في الحديث.. تكمل الأم قائلة:
"المهم .. لا أعلم كيف تملصت منه وخرجت راكضة كالسهم في إتجاه البئر حيث رأيت أخي يتجه أخر مرة.. كنت أركض وأنفاسي تتسارع أريد أن أبكي ولا أستطيع.. وكأن الكثير من الوقت قد مرّ منذ لحظة دخولي إلى الأستراحة.. هل أنكسرت حدة الشمس فعلاً أم أن مشكلة ما أصابة عيني في تلك اللحظة؟ وصلت إلى البئر و وقفت على حافته وعيني تبحث عن أخي في كل الأتجاهات, وقبل أن أرى أي شيء سمعت صوته يأتي من خلفي في قلق: ( هويدا.. أين كنتِ أنتِ؟ بحثتُ عنكِ في كل مكان.) التفت إليه في خوف وقبل أن أدرك أي شيء أختل توازني وسقط في البئر!."
وضعت الجارة كفها على فمها وهي تشهق في فزع.. لكن الأم استطردت بسرعة وكأنها تخشى أن تصمت فلا تتكلم أبدا من جديد..
" سقط في الماء كالحجر.. لم أكن أجيد السباحة.. سمعت صوت أخي قادماً من بعيد وهو يصرخ اثناء قفزه في الماء " لا تخافي هويدا.. أركلي الماء بيديك وقدميك..فقط لا تلمسي الأحجار" و كرر " لا تلمسي أحجار القاع هويدا" وفي لحظة واحدة كان قد وصل اليّ و رفعني بيديه لأصبح فوق الماء، وأنا وهو نشهق لنعب الهواء.. تعلقت بعنقه وهو يتمسك بي أكثر ويقول في حرارة" خفت كثيرًا عندما لم أجدك يا هويدا.. خفت كثيرًا"
ساعدني لأجلس على الحافة كما كنت أفعل في السابق، ثم خرج ليجلس إلى جواري.. عدّل من وضع شعري قليلا وربت على كتفي دون أن يتكلم.. الغريب أنه لم يسألني لحظتها عما حدث.. ولكنه قال وهو يشير لي بأصابعه " لن نخبر أمي عن أي شيء.. سنقول إن قدمك انزلقت أثناء اللعب!"
سرنا جنباً إلى جنب حتى وصلنا إلى الدراجة التي تركناها على جدار الاستراحة.. ركبها ببساطة وجلست خلفة كما كنا نفعل دائماً.. وعندما أمسكت الإيشارب لأضعه على رأسي.. وجدته يقول لي بلهجة قاطعة" لا تضعينه الآن.. شعرك مبتل جدا أصلا"
أومات برأسي صامتة واحتويت ظهره بكلتا ذراعي، وأستعد هو للحركة.. ولكن فجأة خرج ذلك الفتى من الاستراحة قائلاً بسخرية ظاهرة:
"سليم!! ماذا تفعلان هنا" كان يبتسم بحقارة أو هكذا وصلتني أنا الابتسامة وقتها.. الغريب والذي لم انسه أبداً هو نظرة أخي الممتلئة بالتحدي وهو يشيح بوجهه عنه وينطلق بالدراجة قائلاً: " لا شيء يا (أحمد) .. لا شيء!"
هنا قالت الجارة معقبة (كمّ هو قذر ذلك الشاب!) ثم سألت الأم باهتمام:
" وأمك هل أخبرتوها بما حدث؟"
هزت الأم رأسها نافيه وهي تتنهد قائلة:
"أبدًا.. ولم تعرف ما حدث بعد ذلك أيضاً!"
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.