tafrabooks

Share to Social Media

سبيل دَاوُد بَاشَا

أَسفَر اللَّيْل وَتَجافَت اَلجُفون وَغَادرَت مُبَكرا غُرفَتَي المتواضعة وَكأَن شخْصًا مَا دَعْك جِدارَهَا اَلذِي يُريد أن يَنقَض فحرِّرَني مِنهَا , غُرفَة ذات أَربَعة جُدْران مَطلِية بِالْجِير اَلمُطفأ ذُو صِبْغَة خَضْراء فَاتَح لَونُها ، شَأنُها شَأْن الثَّلَاث غُرَف الأخْريات ، وَلكِن غُرفَتَي تقع مُبَاشرَة أَمَام رَدهَة مُمْتدَّة بِضْعَة أَمتَار مَكسِية بِكَسر قِيشانيِّ بِشَكل عشْوائيٍّ يَفتَقِر إِلى أَدنَى مَظاهِر الجمَال ، تَنتَهِي بِبَاب مِن الصَّاج يُنَاهِز مِن اَلعُمر ثَلاثَة عُقُود تقْريبًا ، وَكَأنَّه نَكَّس فِي صُنْعِه ، فانْفصلتْ بَعْض أجْزائه المترابطة عن بَعْض ، فَثقُلت حركته عِنْد غَلقِه وعنْد فَتحِه وَرَافقَت تِلْك الحرَكة المسْتمرَّة على مَدَار اللَّيْل والنَّهار ضجيج ، وَكَان اَلْباب الكهْل يَبُث أوْجاعه بِهَذا اَلضجِيج ، وَتحَد غُرفَتَي مِن نَاحِية اَليمِين دَورَة مِيَاه كأنَّهَا مِرحَاض عامٌّ بِإحْدى الأسْواق لَا تبْرحهَا تِلْك الرَّوائح النَّفَّاذة الخانقة ، ويتْلوهَا غُرفَة مُتناهية الصِّغر لِإعْدَاد الطَّعَام أَظُن يُسمُّونهَا مَطْبَخا ، كمَا يَحُدهَا مِن نَاحِية الشَّمَال بَاقِي اَلغُرف الثَّلَاث ، وَالتِي تُطِل جميعهَا على بَهْو البيْتِ اَلذِي يُبْد فِي مُجْمَلِه ككهْف سحيق يَحوِي بِضْعَة شُقُوق , بَيْت ضئيل بلغ أَربعِين عامًا ، وَلَكنَّه لَم يَبلُغ أَشُده . عصف بِه الإهْمال إِلى أن أَصبَح فِي حَالَة اِحتِضار , يُنَازِع الموْتُ بِاسْتمْرار , لَم ينل الرِّعاية إِلَّا مَرَّة وَاحِدة عِنْدمَا أُصْلِح مَالُك العقَار دَاوُد بَاشَا اَلْباب الرَّئيسيِّ بَعْد مُضِي عَشرَة أَعوَام مِن إِنْشائه ، وَلَكنَّه يَتَفرَّد وسط قُرَنائِه بِقَصر قَامَتِه ، فَهُو يَتَكوَّن مِن طَابَق أَرضِي فقط ، وفناء أَصبَح أَرْض فَضَاء تَحوُّل بَينَه وبيْن البيْتِ اَلذِي يليه فِي حَارَة ضَيقَة شَرْق العاصمة قَاهِرة اَلمعِز بِمنْطَقة كَانَت سلفًا أَجمَل جَزِيرَة تُعَانِق الضَّفَّة الشَّرْقيَّة لِلنَّيْل وتتدَثَّر بِالْعراقة , وَتطِل بِوجْهِهَا على النَّاحية المقابلة حيَّ الزَّمالك اَلذِي يَتَحلَّى بِالْأناقة , رَحِم اَللَّه مَالِك البيْتِ دَاوُد بَاشَا جَعلَه وقْفًا لِلَّه سبيلا يَأوِي عَابرِي اَلسبِيل , كان فِي عَهدِه يَعُد قصْرًا وَلكِن يد الإهْمال عَبثَت بِمقْدراته واسْتحال إِلى كَهْف يَأوِي طَرْداء هذَا المجْتمع الفاسقون مِن نِظامه وَإِن كَانُوا هُم على صَوَاب ، فَصَديقَي شِحاتة اَلفقِي ورفيقي فِي السَّكن رَغْم ضَخامَة بُنْيانه إِلَّا أَنَّه يَخَاف مِن خَيالِه , يُوَارِي فِي جَنابِه قلْبًا رقيقًا ويخْتَبئ بِرأْسه عَقْل طِفْل لَم يَبلُغ اَلحُلم , فرَّ هاربًا مُنْذ عَشرَة ونيِّف مِن الفقْر اَلمحْدِق اَلذِي أَحَاط بِه وبعوائله ، فَهُو لَديْه أُسرَة بَسِيطَة تَتَكوَّن مِن أُمِّه وزوْجَته وولدَيْه وابْنَته الصُّغْرى اَلتِي يَبلُغ عُمْرُها أيَّامًا معْدودات عِنْدمَا فارقَهم ، أوْدعَهم جميعًا فِي يد الفقْر اَلتِي أَشفَقت عَليهِم وَأَماطَت عَنهُم غُبَار الحيَاء اَلذِي ران على وُجوهِهم ، فتناولتْهم يد الرَّحْمة وَالبِر بِالْقرْية فاسْتحالت حياتهم رغْدًا مِن بَعْد بُؤْس ، وَلَكنهَا حَيَاة لَا تَنعَم بِالدِّفْء , حَيَاة تَتَدثَّر بِالطَّلِّ . فرَّ شِحاتة ولم يَكتَرِث لِمصير أُسْرته ، وحلَّ نزيلا بِهَذا الكهْف , قَرْع سَبيلِه فِي طلب الرِّزْق فَتَاة فِي زِحَام القاهرة , وَذَاك رفيقنَا وثالثنَا عَادِل القناوي قَدَم مِن صعيد مِصْر لِيتيَمَّم بِنَيل القاهرة , قَدَّم كَفنُه بَعْد أن اِغتسَل مِن دنس اَلدَّم اَلذِي تَحوَّل إِلى شبح يُطارِده ويلاحق نَسلُه مِن بعْدِه ، فَقبِل صَاحِب اَلدَّم وَبصَق على الكفن بِصَوت مُرْتَفِع حمْلته الضَّغينة إِلى أَهلِه وذويه ، فحكِّموا عليْه بِالرَّحيل ، وأصْدروا لَه شَهادَة وَفَاة شَفَويَّة بَعْد أن أحْياهم بِصنيعه ، وجازوه على ذَلِك بِوفاته ، وَمضَت السُّنون وَعادِل القناوي يَزْداد فَخْر بِصنيعه اَلذِي حَسبَه سدٌّ أقامه فَمنَع تَتَدفَّق اَلدَّم فِي أَهلِه وقرْيَته ، فَبلَغ اِبْنه عِمْرَان أَشُده وَبلَغ عِشْرون عامًا بِمَا يُضَاهِي عُمْرِي , آمنًا فِي سِرْبِه آمنًا على عُمْرِه وغيْر آمنًا على سُمْعته . لَا يَستطِيع أن يُقيم هامته وسط أَهْل قَريَتِه مُسْتسْلمًا لِجَور العادات والتَّقاليد , يتيمًا ومَا زال أَبَاه على قَيْد الحيَاة , بلغ عِمْرَان أَشُده وَلَكنَّه لَم يَكُن بار بِأبيه , أَربَع غُرَف على شَكْل خطٍّ مُسْتقِيم وَلكِن تَفاصِيل حَيَاة قاطنيهَا مُعْوجَّة , أَحدُهم سَائِر فِي مناكبهَا ، والْآخر مُهَاجِر إِلى ذَاتِه ، والثَّالث مُعْتكِفًا فِي غُرْفته مُحْتجِبًا بِأسْراره نجْهله نَحْن الثَّلاثة لَا يعْرفه مِنَّا أحدًا لَا يَبرَح غُرفَتَه إِلَّا مَرَّات مَعدُودة فِي اليوْم واللَّيْلة لِقضاء حَاجَتِه , يَخرُج لِيلْقي اَلتحِية على دَورَة الميَاه ثُمَّ يَعُود أدْراجه إِلى غُرْفته ، ورغْم هذَا الضَّبَاب اَلذِي تَغْشاه وَأَحال دُون رُؤْيته إِلَّا أَننَا لَم يَتَبادَر إِلى أذْهاننَا نَحْن الثَّلاثة مُجرَّد السُّؤَال عن هُويَّته غَيْر أَننِي نَظرَت إِلَيه أَكثَر مِن مَرَّة مِن طرف خَفِي , رَجُل فِي مُنتَصَف الأرْبعينيَّات , ضَرْب اَلمشِيب رَأسَه فِي غَيَّر أَوَان , مَفتُول العضلات , قَوِي البنْيان , أَجعَد الشِّعْر , ذُو لِحْيَة كَثِيفَة اِسْتوْلى عليْهَا اَلمشِيب ، كَذلِك كَانَت تَزورُه اِمرأَة تماثله فِي اَلعُمر تُطِل مِن نَافِذة خِيامِهَا بِوَجه يبْد كالْقَمر فِي تَتمَّة , لَم تَجرُف مَلامِح الشَّبَاب عَوامِل الدَّهْر , مَا زَالَت تَحتَفِظ بِآثار شَبابِها , كان يَخلُص إِليْهَا بِإيذَاء اَلْباب وَينصِت إِلى تمْتمتهَا ثُمَّ يَتَناوَل مِنهَا لِفافة كَبِيرَة الحجْم ثُمَّ يَأوِي إِلى غُرْفته , فَكَان هذَا الوقْف اَلذِي نَسكُنه بِمثابة كَهْف أوى إِلَيه نفر مِن النَّاس فحبستْهم بِه الظُّروف , بل أَصبَح كُلٌّ وَاحِد مِنَّا طريحًا فِي غيابَات نَفسِه , يَرقُب السَّيَّارة اَلتِي تحل بِه وتدلَّوْا دلْوهَا فَتنقِذه مِن فِنَاء الجسد وتحكُّم وِثاقه بِالرِّقِّ وَتقضِي عليْه بِفناء الرُّوح , كَهْف تَزاوُر الشَّمْس عَنْه ولَا تُقْرِضه شَيْء .
اِنْطلَقتْ فِي صَبَاح ذَلِك اليوْم غرَّة خريف عام أَلْف وتسْعمائة وأرْبعين ، وكانتْ السَّمَاء خَالِية مِن اَلمُزن كَفَلاة قَاحِلة ، وكانتْ الرِّيَاح تُثير بَعْض اَلغُبار اَلذِي هجع أَسفَل جُدْران المباني وعطفتْ نَاحِية اَليمِين مُهَرْولا حَتَّى لَا يُدْرِك أحد مَصدَر اِنْبعاثي كعادَتي مُنْذ أن أقمْتُ بِسبيل دَاوُد بَاشَا , كان دائمًا يَسطُو الحيَاء على جَوارِحي فيدْفعهَا إِلى مُوارَاة الواقع اَلمرِير اَلذِي أعيشه بِشَيء مِن الزِّينة اَلتِي لَا تَضُر أحدًا ، فلَا ضَيْر لَديَّ أن أَكُون مِن أَبنَاء هذَا اَلحَي اَلفقِير ، وَلكِن لَن أَسمَح بِأن يَغْتال هذَا الكهْف كرامَتي فلسْتُ طريدًا , لَم ولن أَكُون ولن تَكُون العثرات جَرِيرَة نَأثَم عليْهَا هِي فقط مُجرَّد أذًى يَستوْجِب إِماطَته ، وهَا أنَا فِي سَبيلِي لِإماطتهَا ,قَالُوا قديمًا لِابْن آدم حظًّا مِن اِسْمِه ، وَأنَا أَدعِي عَلِي وَمِن حَقِّي أن أَعثُر على حَظِي مِن اِسْمِي , أُريد أن أَكُون وجيهًا مِن وُجَهاء المجْتمع , أَتطَلع إِلى أن يُشَار إِلى بِالْبنان أَظُنه طُموحًا مَشرُوعا مَا لَمٌّ اِجْتثَّه مِن أحد ، فعمدتْ إِلى أن أَكُون وجيهًا مِن حَيْث يَرانِي النَّاس , يحْسبونني غنيًّا مِن التَّعَفُّف ، والْحقيقة أَنِّي غَنِي بِنفْسي أمْتطيهَا لِأعْرج بِهَا المناكب ، فَكُنت دائمًا أبدًا أنيقًا فِي مَظهَرِي ، كمَا أَننِي أَتمَتع بِشَيء مِن الوسامة ، وأحمِّل بَيَّن ثَغرِي اِبْتسامة لَا تُفارقني رَغْم مَا يطْويه جَوفِي مِن هُمُوم ، وَكَان أَهْل اَلحَي يعْرفونني جيِّدًا بِهَذا النَّعْتِ اَلبسِيط صَاحِب السَّعادة ، فَكُنت فِي ذَهابِي وإيابي أَسدَى إِليْهم الابْتسامات وَأرَق التَّحيَّات ، وَكُنت أَسعَى بَينُهم فِي قَضَاء الحاجات على قَدْر اِسْتطاعتي الأمْر اَلذِي دع السَّيِّدة أُمَّ عَبدُه بَائِعة اَلخُضار بِإضافة نَعْت جديد إِلى نَعتِي فكانتْ تُناديني فِي غُدوِّي ورواحي بِصاحب السَّعادة والسُّكَّر الزِّيادة ، وَالتِي كَدَّت أنَّ اِرتطَم بِهَا أَثنَاء خُروجي مِن الحارة وَهِي جَاثِية على مَقعَد صغير تَدنُو قَوائِمه مِن الأرْض كَأنَّه يَحُول دُون مُوَاطأَة مُؤخَّرتهَا لِلْأرْض ، وَهِي مَلفُوفة فِي جِلْبَاب أَملَس فَضْفاض مُنقْرَش بِصور مُختلفَة مِن الزُّهور ذات أَلوَان مُتَعددَة وَمبهِجة وَرَأسهَا مُحَلاة بُطيْلسان يُشْبِه كثيرًا الجلْباب , تَتَدلَّى مِنْه ضفيرتان سوْداوان كبيرتان , يَنْساب بِامْتدادهمَا بريق كنصْلَيْنِ لِسَيف عتيق ، وَيبرِز عُنقَهَا مِن حَوْض الجلْباب كَإبرِيق مِن اَلفِضة يَشِع نُورًا ، وتحْتَضن بِذراعيْهَا مَقْطَفا كبيرًا تَتَزاحَم بِه الخضْروات مُختلفَة النَّكهات مِن فُجْل وَجرجِير وَبصَل أَخضَر وبقْدونس وَشبَّت ونعْنَاع وَفِي قَبضَة يَدهَا اَليُسرى خُرْطُوم مُزخْرَف بِلفائف فِضِّية لِأرْجيلة تَكَاد تُنَاطِح هامتَهَا وَهِي مُتقوْقعة فِي نفْسهَا وَمتكِئة بِذقنِهَا على يَدهَا اَليُمنى تَستنْشِق عبير الأرْجيلة بَعْد أن يَمُر بِجَرة الميَاه ، وَكُلمَا أَخذَت نفسًا عميقًا يَتَميَّز اَلْماء مِن الغيْظ وَيطقْطِق الفحْم المسْتعر بِرَأس الأرْجيلة فتطْرب أُمُّ عَبدُه لِهَذا العزْف المنْفرد ، وَيرُوق لَهَا تكْراره على فَتَرات مُتتابعة , كان هذَا العزْف هُو السَّبب فِي تَعثرِي أَمَامهَا , الأمْر اَلذِي دعاهَا تَصرُخ بِصَوت مُرْتَفِع صَرَخات تحْذيريَّة :
ـ اَللَّه خَيْر حَافَظ.
، ثُمَّ قَالَت وَهِي تَمزَح :
ـ اُثبُت ثَبتَك اَللَّه يَا بُنَي.
قَالَت ذَلِك ، ولم تُحرِّك ساكنًا ، ولم تهم بِمساعدتي وإغاثتي فقط قَدمَت هَذِه الكلمات على سبيل المشاركة الوجْدانيَّة ، وَهذَا القدْر يكْفيني والْقليل مِن أُمِّ عَبدُه يُرْضيني فيَا لَيتَنِي اِبنهَا عَبدُه فأحْظى بِدفْء قُرْبِها وأنْعم بِجوارهَا , تُضَاهِي البدْر فِي حُسْنِها وقوامهَا يَفُوق الظَّبْي قدْرًا. جَمَال لَم ينل الدَّهْر مِنْه شيْئًا ، وَلمَا تِفرْشتْ الأرْض تَعمدَت أنَ أَبسَط إِليْهَا يَدِي طلبًا لِمساعدتهَا وإعانتيْ على النُّهوض , كان هذَا ظَاهِر إِرادَتي ، ولكنِّي كُنْت أَضمَر أَكثَر مِن ذَلِك , كُنْت أودُّ أن يُعَانِق كَفِّي يَدهَا ، وأقْتَبس مِنْه شيْئًا يَكبَح جِمَاح شَهوَتِي ، وباغتتْني أم عَبدُه بِأنَّ مَددَت إِلى خُرْطُوم الأرْجيلة واغْتالتْ إِرادَتي فِي لَمَّح البصر ، فوثبتْ مِن مَوضعِي وانْتصبتْ قائمًا وَأنَا أَنفُض عن ثِيابي اَلغُبار المتراكم بِالْأَرْض ولم يَخذلْنِي طَربُوشي حَيْث سقط هُو الآخر وانْحَدر إِلى أَسفَل مَقعدِها فمدَّدتْ يَدِي وتناولتْه على الفوْر واقْتبستْ أَثنَاء ذَلِك شَيْء مِنهَا لَم يَكبَح جِمَاح شَهوَتِي بل أَثَارهَا وَجَعلهَا تَتَمرَّد على حَيائِي فمكثتْ بِجوارهَا أُبادلهَا اَلحدِيث واخْتَلس مِنهَا النَّظرات :
ـ أو تَدرِين يَا أُمّ عَبدُه ؟
لَا يَا بُنَي وَاَللَّه لَا أَدرِي .
ـ فَقدَت أُمِّي مُنْذ كُنْت طِفْلا ، ونشأتْ مَحرُوما مِن حَنانِها ، وَكذَلِك لَم أَذُق طَعْم عَاطِفة اَلأُخوة ، فَكُنت اِبنهَا اَلوحِيد وقد سبقهَا أَبِي مُنْذ كُنْت أسير على أَربَع ، فكانتْ نَفسِي دائمًا تَتُوق إِلى المرْأة النَّاضجة , أَجمَع بِهَا الحسْنيان اَلأُم والزَّوْجة , سَحبَت أُمُّ عَبدُه نفسًا عميقًا أَشعَلت بِه التَّبغ بِرَأس الأرْجيلة فَبدَا كَجذْوَة مُتَوهجَة ونادتْ بِصَوت مُرْتَفِع على صَبِي المقْهى اَلتِي تُقَابِل فرْشهَا مُبَاشرَة مِن نَاحِية الشَّارع العموميِّ اَلمُبطن بِالْحجارة السَّوْداء :
ـ يَا عَبدُه . . يَا عَبدُه . .
لَم يَلبَث عَبدُه إِلَّا قليلا ثُمَّ اِستقَر أَمَامهَا , صَبِي فِي مُنتَصَف العقْد الثَّاني يَصغُرني بِبضْع سَنَوات , يَرتَدِي جِلْبابًا مُتواضعًا مِن الصُّوف تَتَدلَّى مِنْه ساقان نحيفتان وقدمَان عاريتان وَيلُف خَصرُه بِلفافة خَضْراء اللَّوْن ويغطِّي رَأسُه بِطاقِيَّة خَضْراء اللَّوْن , كَذلِك يَتَمتَّع بِقَدر مِن الحسن اَلذِي يَتَوارَى خَلْف الفقْر وأجابهَا قائلا :
ـ عَبدُه تَحْت الأمْر وَالإِذن .
ـ سلم لسانك وسلمت لأمك يا قرة العين وحبة القلب.
قالت ذلك ,ثم أومأت بالخرطوم الذي لم يفارق يدها اليسرى وكأنّه بعض منها إلى الأرجيلة ولم تنطق ببنت شفاه ففطن عبده لما تريده أمه فأسرع والتقط من الأرجيلة وعاء من الفخار يطلق عليه مصطلح الحجر, يضم بين جنباته التبغ والفحم المستعر واستبدله بآخر جديد لَم يَستهْلِك تَبغُه ولم تَخِب جذْوته , تَتَطايَر شظايَاه بِفعْل الرِّيح اَلتِي لَم تَهدَأ حَتَّى الآن ثُمَّ وَضعُه فِي محلِّه وجذْب الخرْطوم مِن يد أُمُّه وسحْب عِدَّة أَنفَاس مُتتالية أَشعَل الحجْر بِمَا يحْتويهَا ثُمَّ ردِّ الخرْطوم إِلى أُمِّه وَهُو يَسعُل بِشدَّة وَهُو يَضغَط على صَدرِه بِبَطن يَدِه ويردِّد :
ـ إِنَّما نَستنْشِق نارًا لَظًى تَكوِي يَا أُمَّاه الحشَا .
ـ فِدْيتك يَا وَلدِي لَا تفْعلهَا مَرَّة ثَانِية .
ـ أُعاهِدك وَأعطِيك على ذَلِك إِصْرِي إِنَ أَقلَعت أَنْت أوَّلا يَا أُمِّي .
ثُمَّ اِسْتطْرد عَبدُه قائلا :
ـ مَا قِيمة الحيَاة بِدونك يَا أُمِّي !
وَفِي هَذِه اللَّحْظة أقامتْ أُمُّ عَبدُه عُودهَا فاسْتقام واسْتَوى على سُوقه وَبدَت مفاتنهَا وأنْسَال رِيقي مِن فَمِي وكأنَّني مُصَاب بِبَله وألْقتْ بِالْخرْطوم فَوْق الأرْجيلة فانْفرجتْ أَسارِير عَبدُه وخطْف الأرْجيلة مِن تَحْت قَدمِي أُمُّه وَفَّر بِهَا عائدًا إِلى المقْهى وَهُو يَهتِف قائلا :
ـ أُمُّ عَبدُه يَا . . تعيش . . يَا . . تعيش ..
وَفجْأَة وَجدَت نَفسِي واقفًا جنْبًا إِلى جَنْب مُلاصِقًا لِأمِّ عبْده أَكَاد أَسمَع أنْفاسهَا ، فهمستْ فِي أُذنِها همْسًا يَكَاد أن يَكُون فارغًا مِن أيِّ صَوْت :
ـ أُحبُّك .
فانْتبهْتُ ، وَرُسمَت على ملامحهَا عَلامَة اِسْتفْهام:( مَاذَا قَلَّت ؟) ثُمَّ تَابعَت قَائِلة بِمَا يُوحي إِدْراكهَا بِمَا هَمسَت إِليْهَا بِه :
ـ هَذِه عَاطِفة الأمومة مَا زِلْتُ تَبحَث عَنهَا .
ـ هِي كَذلِك ، وَلكِن مع إِيقَاف التَّنْفيذ عَاطِفة شَفَويَّة اِفْتراضيَّة تَفتَقِد حَرارَة العنَاق لَيْس بِوسْعي أن أَتوَسد نهْديْهَا, أن أَظرَف الدُّموع فَوْق كتفيْهَا لِأنَّهَا مُحَرمَة عَلِي ,ثم أردفت قائلا:
- هِي فقط وَثِيقَة يُحَررهَا مَأذُون حَارتِنا , فيجيز لَيّ كُلِّ ذَلِك وأكْثر.
ثُمَّ وَجهَت إِليْهَا سُؤَالا :
- أَلَا تَطمعِين فِي ثَوَاب يقيك حرٌّ جَهنَّم ؟
فَكَان جَوَابهَا صمْتًا أَبرَز دَهشتِها , أيُّ ثَوَاب هذَا تَنالُه مِن شَهوَة مُوقَدَة , فَهِي تحْسبني مُجرَّد شَهوَة ستفْنى عِنْد مَولدِها , مُجرَّد نَزوَة تَزُول بِانْقضائهَا , ومَا لَبثَت أن اِنْفرَجتْ شَفَتاهَا عن اِبْتسامة يمْنعهَا الخجل ثُمَّ قَالَت على اِسْتحْياء :
- أَمسَح على كَاهلِك يتيم أَشفَق عليْه إِنَّ كان كَذلِك فلَا بَأْس .
ثُمَّ اِسْتطْردتْ قَائِلة :
- مِثْلك مِثْل عِبده .
قَبضَت على يَدهَا وَأَحكمَت قَبضَتِي ويدانَا مبْسوطتان لِأسْفل حَتَّى لَا يَتَطلَّع أحد إِليْنَا وأوْدعتْهَا هَذِه الكلمات :
- أَبغِيك أُمًّا وَزوْجَة .
فَأَمسكَت بِالطَّرْبوش بَعْد أن أَفلَتت يَدهَا مِن يَدِي ووضعَتْه فَوْق رَأسِي ودفعتْني بِيديْهَا الاثْنتيْنِ تُبْعدني عَنهَا بِطول ذِراعيْهَا وَهِي تَقُول :
- اِنصرَف بِحقِّ اَللَّه اَلحَق لَا تُؤْذِني ولَا أُؤذِيك .
** ** **
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.