هدوء مريب يسكن الأرض، سماء لا نجم يضيئها ولا قمر يزينها، تتوارى الطيور في أعشاشها؛ ترتعش خوفًا من مجهول لا تعرفه، صراصير الليل داخل جحورها أُخرست أصواتها المزعجة، الجو مكفهر لا ينم عن راحة وسكينة، يبدو للناظر أن الكل نيام لا يشعرون، لكن بُعد ذلك المسكن عن ناظريه يجعل ذلك المكان وكأنه مهجور، إلا من ذلك النائم الذي يتقلب على جنبيه ورغم قسوة المناخ في منتصف شهر يناير فالعرق يغزو وجهه بقوة، حتى إن لو رآه أحدهم لظن أنه يخوض حربًا ضروسًا، تقترب فيها نهايته خاصةً بعد شهقته الأخيرة، يكاد يقع من فزعته تلك على أرض غُطت بسجاد قديم بالٍ، فوازن جسده قليلًا بأطراف أصابع قدم واحدة فوقها، جفف عرقه بكف يده والأخرى يستند بها إلى الفراش، أنفاسه مضطربة كأن ذلك الكابوس لم يزره من قبل، أخيرًا بدأ جسده بالهدوء، فقد بسطَ ظهره على وسادته البالية، ثم بهدوء بدأت عيناه ترى ما حوله، وما كان إلا إضاءة معدومة من ضوء خافت يخرج من مدفأة هي كل ما تبقى له من رفاهية حياته السابقة، هو من اختار تلك الحياة بعدما زهدها بكل ما فيها، اختار عزلته بعيدًا عن كل ملذات الدنيا، نهض على مهل، مط جسده الكهل ببطء يناسب عمره، ثم توقف أمام النافذة الطولية بغرفته، استدار ليمسك كوبًا معدنيًّا كبيرًا ثم رفعه من فوق نار المدفأة بقطعة قماش نظيفة نوعًا ما، سكب منه تدريجيًّا بعض قطرات الماء الساخن في كوب زجاجي ذو يد مبتورة، عاد مرة أخرى إلى النافذة وبدأ ينظر إلى السماء القاتمة، يتنهد بحسرة وحيرة، يحدث نفسه بصوت لا يسمعه إلا عقله: «منذ شهور وأنا أشاهد ذلك المشهد نفسه باختلاف أبطاله، ماذا يعني؟ وبماذا يجب تفسيره؟».
يرتشف بعضًا من قطرات الماء التي أصبحت الآن دافئة بفعل المناخ البارد، ثم يغمض عينيه ويفرك جبينه بقوة وكأنه يستحضر جني عقله يحثه التفسير، يحاول استرجاع جزءًا من كابوسه فيأبى ذلك الجني فعلها ليتحول دون رغبة إلى كابوس حي ينبض من نوع آخر أكثر ايلامًا لقلبه.
«شجار دامٍ تكرر بينه وبين زوجته، منذ سنوات مرت، طفله الصغير يبكي بحرقة؛ خوفًا طاله لا يدرك منه شيئًا سوى رؤيته أمه تُضرب وتُسحل أمام عينيه».
لا يمر يوم إلا بتكرار ذلك المشهد المهين لها والمهيمن عليه، ثم ينتهي بنومة لا يتذكر شيئًا بعدها، إلا ذلك اليوم الذي نهض من نومه صباحًا ورآها.
توقفت الذكرى حين أتت الفكرة عقله، وكأن الألم مرتبط كله بخيط واحد، انتفض من وقفته سريعًا مع انقشاع ظلام السماء ليحل مكانها نهار يحمل معه خبرًا يمكنه أن يجعل حياة الكل كابوسًا أسود لا يُرى فيه نور.
....
هرول بقدميه النحيلتين التي بالكاد تحمله، فقُوتُ يومه لا يكفي إمداد جسده بقوة تعينه على الاستمرار طويلًا حتى ينتهي النهار ويأوي إلى غرفته التي تبعث الألم في كل خلية به، فيكاد كل يوم أن يكون الأخير، يبتسم بسخرية وهو ما زال يهرول ويحدِّث نفسه بصوت يسمعه هو ويمر بآخرين حوله مجرد هواء زائد بفعل هرولته لا يعني شيئًا لهم فقال مرارًا: «لقد فهمت أخيرًا لِمَ لَمْ أمت حتى الآن، لقد كانت تلك رسالتي الأخيرة، لقد كانت رسالتي الأخيرة».
توقف أمام ذلك المبنى الضخم، لم يزره منذ سنتين كاملتين ودعا ربه ألا تتكرر تلك الزيارات المشؤومة له، لكنه الآن يقف أمامه مرة أخرى، وقد تكون الأخيرة، أخذ بضعة أنفاس يظن أنها الأخيرة وسيترك آخر رفاهيات حياته حتى يأتي له أبديًا، فالنوم إلى الأبد أفضل من ذلك النوم المتقطع الذي تأتي بعده كوارث يتحمل هو وزر وجودها لزيارتها له أولًا.
انتظر قليلًا بمكتب سكرتير المسؤول الثاني في الجزيرة، لم يستطع الاستقرار على مقعد واحد، توتره بلغ مبلغه حتى إنه ظل ينتفض واقفًا من مكان إلى غيره بخطوات واسعة لا تنم عن جسد ضئيل، وساق قصير، التوتر يفعل أكثر من ذلك، وخاصة لو كان له سبب كما يراه هو.
نظر من نافذة المكتب الكبير كحال المبنى كله بفخامته، يرى بعض الشعب يروح ويجيء، متى استيقظوا؟! الوقت ما زال باكرًا، إنه شعب نشيط حقًّا، تذكر ذلك الشاب الذي صُدم به بفعل هرولته غير المتزنة منذ قليل، حين حاول أن يبطأ من حدة هرولته تلك والتف ليعتذر وجد أنه هو من يترنح، صدمته إذًا لم تكن إلا لعدم اتزان الشاب، نظر إليه برهة من الوقت لم تتعد خمس ثوان حين وجده يسب إحداهن وهي تمر بجواره، لم يستطع أن يشاهد أكثر من تلك الثواني فقلبه يدميه ذنبًا لن يغفره لنفسه ما حيي، يومًا ما كان يشبه ذلك الشاب.
«لعن الله الخمور ومروجيها». حدث بها نفسه وهو يعاود هرولته.
طاف بعقله خيال ذكرى أخرى، يبدو أنها تأبى اليوم أن تفارقه، لكنها متى فارقته!
عندما استيقظ صباحًا على صوت رضيعه، يصرخ فيه بأن يصمت ويكف عن إزعاجه، ثم ينادي على تلك الزوجة التي صب عليها جام غضبه من خسارته الفادحة آخر أموال له قد يحصل على مثيلتها يومًا، وكأنها هي التي أضاعتها بلعبة قمار خائبة غير ماهرة، ظن نفسه مع بعض مهارات أخرى من نساء مهماتهن هي غرس تلك الثقة العمياء بأن لا ماهر ولا ذكي غيره، لا رجل ولا فحل إلاه، حتى انتهى وانتهت أمواله فلفظته أمواجهم العاتية خارج دوامتهم، ظل ينادي وينادي لكن لا مجيب ولا حياة يسمعها غير نحيب الطفل، فتح عينيه بصعوبة من أثر خمر ما زال يسيطر بعضه على رأسه فأصابه بدوار، اقترب منها يحثها على الاستيقاظ، ابنها يناديها، لكن لا جواب يذكر بعد، أفاقته الصدمة حين وضع أصابعه يتحسس النبض بها فلم يجد، أحل مكان دوار الخمر، دوار آخر بمرارة الفقد، نظر إلى ابنه المسكين فهبطت قطرات دموع على حيرة أصابته في مقتل، كيف سيحتمل طفلًا رضيعًا وحده؟! وبقدر إصابته بالحيرة من ذلك أصابته الصدمة حين صفعته على وجهه بحقيقة أن زوجته ربما تكون قتلت وتركت له طفلًا يجب أن يتحمل وجوده معه.
أعاده صوت سكرتير المسؤول الثاني وأشار إليه للدخول، مسح دمعته العاصية ثم استدار بعزمه ودخل مسرعًا، تاركًا خلفه ذكرى نهاية حياة بدأت دائمًا بذلك الشر المختزل في الخمر، كما ستكون نهاية ذلك الشاب المسكين الذي كان يترنح منذ دقائق أمامه.
.......
ما زال ذلك الشاب بذاك المكان الذي تركه به الشيخ «فطين» منذ قليل، يجلس على رصيف إحدى «الكافيهات» الحديثة، يدندن بصوت ناشز يزعج المارة، بالداخل يجلس أربعة أصدقاء حول منضدة مستديرة وأمام كل واحد منهم مشروب يفضله، حيث قطع أحدهم حديثه الذي يدور بينهم منذ جلسوا هنا حين نظروا جميعهم إلى ذلك الشاب بيأس فقال مُعيدًا دفة الحوار:
- هل سمعتم عن عصر لويس الرابع عشر؟
فرد آخر عليه وهو يطفئ سيجاره:
- نعم سمعت عنه ولكن لا أفهم مقصدك، ما علاقته بموضوعنا؟
- هل تعرف أن النبلاء في عصره كانوا يشترون نبلهم بالمال، فهو لا علاقة لمولدهم بذلك اللقب المكتسب.
- وماذا بعد؟!
- ماذا في كلامي لا يُفهم! المال يا صديقي العزيز هو لغة كل قرن، هو المحرك الأساسي لكل البشر، والمبدأ السائد في كل الشعوب وبكل الثقافات، ادفع كثيرًا تأخذ ما تريد: (أخلاق، وألقاب، وشهادات، ومصالح، وملذات)، كل شيء مرتبط بكلمة واحدة.
قال كلمته الأخيرة وهو ينظر مرة أخرى إلى ذلك الشاب وما زال يدندن بنشاز يبدو مستمتعًا بما يفعل، في حين نطق صديقهم الثالث قائلًا باستسلام وحسرة:
- المال!
- أضف إلى عبادة المال، عبادة أخرى يُسخَّر من أجلها المال، السيادة.
قالها صديقهم الرابع بعدما احتسى بعضًا من مشروبه، فقال هامسًا ذلك الصديق الثالث وهو ينظر بعينيه حولهم كأنه سيهمس سرًّا لا يجب إفشائه:
- أيامًا أفكر في مسألة لا أعرف لها إلا تفسيرًا واحدًا.
صمت قليلًا يستكشف الكل حولهم ثم اقترب أكثر واستكمل همسه قائلًا:
- كيف يسافر المسؤول الأول إلى الخارج ويعود سالمًا غانمًا، أليس الخارج مؤذيًّا وغير آمن؟
عاد الصديق الأول إلى الخلف مبتسمًا بسخرية، ثم قال:
- وهذا هو موضوعنا الحق، يجب أن نفهم ما الذي يحدث حولنا، أمورٌ كثيرة غامضة وآن أوان رفع الستار عن غموضها هذا.
ينهي الصديق الثاني سيجارته الثانية وهو يردد خلفه قائلًا:
- حقًّا؟! كيف يفعل ذلك ولا أحد يتكلم أو يثير فضوله الأمر؟
فيجيبه الصديق الأول بنفس ابتسامته:
- من قال لك إن الأمر لا يثير فضول أحد، لكن يا عزيزي ليس بالضرورة أن يثير ألسنتهم للحديث عنه بصوت مرتفع، فلا يعلم ما التالي بعدها.
أردف الصديق الثالث ما يظنه بهمسه المعتاد منذ بدأ حديثه قائلًا:
- وهذا يقودنا إلى وجود سر عظيم من تربيتنا على الخوف من الخارج، ومنع كل وسائل التواصل بهم، هل تظنون أنهم يصورون أفلامًا ومسلسلات مثلنا، هل لديهم وسائل تواصل حديثة لا نعلم عنها شيئًا؟
دارت تلك الأسئلة بخلدهم، أربعتهم، ولا يعلم منهم أي إجابة يمكن أن تكون هي المناسبة وما زال ذلك الشاب يجلس مكانه وقد انتهى من دندنته ثم بدأ بسبابٍ قذر يلقيه على أقدام المارة أمامه دون مبرر أو هدف.
يمر أمامه ثلاثة إخوة بأعمارهم المتفاوتة، فهو وقت المدرسة الآن ويجب الإسراع قبل غلق البوابة فهتف بهما الأخ الأكبر «تاج» قائلًا:
- هيا، يجب الإسراع قليلًا قبل أن تُغلق بوابة المدرسة.
زادت سرعتهم فلم يهتموا بكلمات ذلك الشاب الذي بدأ التحرك من مكانه حين أتى العامل بـ«الكافيه» يحثه الانصراف بكلتا يديه.
وصلوا الثلاثة الإخوة أخيرًا قبل غلق البوابة بلحظات فركض الأخ الأوسط «ناجي» يلحق طابور فصله الذي بدأ لتوه بصعود الدرج، ثم ترك الأخ الأصغر «خلدون» يد أخيه ليهرول صاعدًا بين الأكبر عمرًا منه قبل بداية الحصة الأولى.
ابتسم «تاج» إليهما دون أن يلاحظه إخوته في حركة لشفتيه تلقائية ثم انصرف هو الآخر إلى طابوره الذي ما زال يقف مكانه لم يأت بعد دوره في الصعود.
«تاج» هو الأخ الأكبر لهما، منذ رحل والدهم إلى دنيا لا يعرفون عنها شيئًا قرر هو أن يكون بديلًا عنه، فهو الأب لهما والابن المسؤول لأمه «جهاد» التي تعمل بوظيفتين لتستطيع ملاحقة ركب المصروفات التي لا تنتهي ولا تحصى، ألح عليها كثيرًا أن يعمل ويساعد معها بمصروفاتهم لكنها تشاجرت معه حتى علا ضغطها ومرضت فصمت وقرر المساعدة بأساليب أخرى، «تاج» يبلغ السادسة عشرة من عمره في صفه العاشر، يتميز دائمًا بهوجائيته في الرد على أي من كان، حاول كثيرًا تعلم أن يكون متريثًا مفكرًا لكنه يثور بالنهاية على المخطئ من وجهة نظره، رغم ذلك فذكاؤه يفوق من في عمره، يفكر فقط في حالة واحدة وهي ألا يكون الأذى مباشرًا على أحد من إخوته أو أمه.
أما أخوه الأوسط «ناجي» فهو الوسط بكل شيء، فلا يثور لأي سبب كان، دائمًا ما يتجنب المشاجرات أو الأحاديث التي تنتهي بسؤال «ما رأيك؟»، في الثالثة عشرة من عمره في الصف السابع، جسده الصغير لا يقنع أحد بعمره لذلك حين بدأ الكثير يراه ما زال صغيرًا فعل هو أيضًا ذلك وتجنب أحاديث الكبار بما فيها من تحمل مسؤولية لا يحبذ تحملها.
أما الصغير «خلدون» عمره لم يتجاوز السابعة ويرى أخاه «تاج» مثله الأعلى في ثوريته ضد الظلم، لكنه دائمًا ما يعنفه مع أمه على هوجائيته تلك التي تجعله يخسر أي معركة يبدأها أو أي حق يجب استرداده، ومع ذلك الكل يراه صغيرًا جدًّا على إبداء رأيه إلا «تاج» من يسمح له أن يفكر معه أو يشاركه الرأي فهو أقرب الناس إليه، هو ذلك الأب المفقود داخله ولا يعلم عن مفهومه إلا «تاج».
يقف معلم مادة «تربية» بالفصل يشرح ويوضح عن سمات الشخصية الواجب توافرها في مواطني الجزيرة، بعدها انتقل إلى إعادة النقاط كلها جملةً دون تفصيل حين نظر إلى ساعته التي تشير إلى انتهاء حصته فقال سريعًا كاسترجاع للطلبة:
- هيا نردد معًا تلك السمات: (تدين، تسامح، عدل، صبر، مرح).
نظر «تاج» في كتابه بتعجب ثم رفع يده إلى أعلى حين همَّ المعلم أن ينصرف فأذن له سريعًا بالسؤال، نهض «تاج» وقد رفع يده بصفحة الكتاب المفتوحة على درس اليوم قائلًا:
- معلمي، بالكتاب هنا سمة أخيرة لم أسمعك تتحدث عنها وهي الانـ...
قاطعه المعلم قبل نطقها، ليقول مبتسمًا له:
- غير مسموح أن تُشرح فهي خارج المنهج وستلغى منه العام القادم، فهو خطأ مطبعي ليس إلا.
- لكنها كلمة تثير في نفسي تساؤلًا، هل يمكنني أن أطرحه؟
- للأسف لا، لأن وقت الحصة انتهى ومعلم الرياضيات ينتظر بالخارج.
خرج المعلم من الفصل مقابلًا الآخر أمامه فاعتذر له عن التأخير وطلب منه أن يدخل حتى انسحب الأول إلى غرفة المعلمين يريح قدميه حتى ميعاد حصته التالية، استأذن «تاج» من معلم الحصة الجديدة أن يذهب إلى دورة المياه فأذن له، سار حتى وقف أمام غرفة المعلمين مترددًا في الدخول وهو يتساءل لماذا لم يسمح له المعلم حتى بنطق كلمة «انفتاح» ولماذا ستلغى من المنهج من الأساس، وأيضًا إن كل سمة موجودة تنطبق عليهم تمامًا فلماذا إذًا تلك الكلمة لا تنطبق! لِمَ لا يعرفون غير جزيرتهم بلدًا، وأفرادها شعبًا؟! وما مدى الأذى الكامن بالخارج؟! يتذكر قول أمه دائمًا حين تحاول فض غضب متشابك أطرافه داخل قلبه تقول: «لا بأس من تجربة السيئ بالصدفة مرة حتى نتعلم ألا نقترب منه أبدًا مرة أخرى، لذلك لا تُحمِّل نفسك وزر خطأ غيرك مرة حتى يعلم بضرورة عدم فعله مرة أخرى».
إذًا لماذا لا يتركونهم يجربون الخارج على الأقل مرة حتى يترسخ دون شك داخلهم مدى سوئه؟
تساؤلات كثيرة دارت بخلده وهو يقف مكانه أمام باب الغرفة وما زال مترددًا، يخاف أن يعنفه معلمه فيرد له ذلك بعنف مثله وهو الذي وعد أمه أن يتجنب الخطأ على قدر إمكانه، كاد أن ينسحب حين سمع حوار جذب كامل انتباهه داخل الغرفة فصوت معلمه يقول:
- كاد طالب يسألني عن كلمة «انفتاح» الموجودة في المنهج ولم تحذف بعد، إن تركت نفسي للحديث قد أُسجن بعدها بتهمة تحريض الطلبة للتفكير فيما يؤذيهم.
فقال آخر:
- كلنا يعلم هنا بوجود سر يمنع خروجنا من الجزيرة بهدف حمايتنا من الخارج.
حينها هتف غيره:
- ألم ترَ ملابس المسؤول الثاني؟ يبدو أنها لم تصنع هنا، ليست من الطراز الموجود لدى مصانعنا وخياطي الجزيرة.
عاود معلم مادة «تربية» الحديث قائلًا:
- يبدو أن ثورة قادمة، الشباب بالخارج يفور والأسئلة بدأت تتزايد.
فقال الثاني:
- حتى إن شباب الطلبة بدأوا أحاديث جانبية ثم تفض بمجرد مرور أحد منا بجوارهم.
حينها نطقت معلمة بخوف وريبة قائلة:
- هل يمكنكم الصمت؟ فالحوائط لها أعين وأذن يمكنها أن تلتهم كلامنا وتهضمه بمعدة الحكومة، حتى تقذف بنا في جور السجون.
فصمت الكل إلا عقل «تاج» الذي بدأ يئن بكل ما سمعه دفعة واحدة، يبدو أن ما يشك به وما يسمعه منذ فترة صحيح وأن شيئًا كبيرًا سيحدث الأيام القادمة، لكنه يدعو الله أن تبدأ بإزالة طبقة رجال الأعمال الفاسدين أولًا فَهُم سبب كل بلاء على البلاد، يكفي أن ذلك الرجل المدعو «أسامة» كان سببًا في انتشار الخمور التي حرمها الله في الجزيرة، والسعي في تحليلها بتسميتها «مشروبات روحانية» وفساد شباب كُثر بها.
.....
مرت دقيقتان وهو جالس بنفس الوضعية التي بدأ بها جلسته، شاردًا في كيفية بدء حديثه، فما سيقوله لن يدركه عقل إلا وسيجن، هل يعلم أحدهم غيبيات موته، لِمَ لا وهو الذي لا يرى غيره كل ليلة، ولكن هل يستطيع أن يرى موت غيره أيضًا؟ ليس واحدًا أو اثنين، بل الجزيرة كلها، ازدرد ريقه بصعوبة ثم قال دون سابقة إنذار:
- لقد رأيت هلاكنا جميعًا.