فى الصباح يستيقظ سعد عبدالراضى من نومه ، يفتح عينيه على أشعة ذهبية تتسلل من شرفة غرفته ، ونسمة حانية تهب من فوق صدر النهر محملة برائحة الطمى ، وعطر المياه العذبة ، يمارس طقوسه اليومية بتفاصيلها الصغيرة ، وما الحياة كلها إلا تفاصيل صغيرة ، ينظر نحو الفراغ الممتد البعيد على مرمى البصر .
يستريح لرؤية النهر الخالد الذى يتهادى خجولا هامسا ، مسترخيا كسولا كصاحب القصر ، يتنفس الهواء النقى ، ويملأ صدره بعطر الزرع الأخضر العابر للحقول ، ويطمئن على النهر والأرض والنخل ،والديار البائسة للفلاحين البسطاء المهمشين .
كل شىء على مايرام ، فالنهر يجرى كما هو مقدر له منذ ألاف السنين ، والنخل مرفوع الرأس نحو الأعالى ، ولاشىء يتغير تحت سماء عزبة المصراوية إلا هؤلاء الذين دخلوها بآلاتهم وكائناتهم الحديدية الهائلة وعرباتهم الضخمة .
يصلى ركعتين لرب الكون ، ويتضرع إلى الله ، ويدعوه بسكون أن يمنحه البركة ، وخير هذا اليوم الجديد ، ويكفيه شر مافيه .
بينما وداد زوجته تنتظره بشغف ،وحب على مائدة الإفطار ، والطعام أمامها على صينية فضية لامعة فوقها غطاء بنى شفاف ، وعندما يقترب منها يحييها بوجه بشوش ، فترد التحية بأحسن منها ، ثم يجلس قبالتها على كرسى قديم مذهب كملك متوج على عرشه ، يتناول إفطاره المعتاد كوب من الشاى بالحليب ، وقشطة فى طبق زجاجى ، وطبق آخر فيه عسل أبيض من خلية نحل فى مزرعته ، بجانب الخبز الشمسى الفلاحى اللذيذ .
يهمس باسم الله ، ثم يبدأ بشرب الشاى بالحليب ، وبعده يواصل إفطاره على مهل .
تستمتع وداد بالجلوس معه فى تلك اللحظات اليومية المقدسة ، تحكى معه فى أمور تافهة ، لكنها لذيذة ومسلية ،وهو ينصت إليها برفق ويبتسم ، وتظل تثرثر فى شتى الأمور ، والحكى بينهما فيه ود وألفة ورحمة ، بينما نظراتها لاتفارق وجهه الطيب ، تتأمله بحرص ، وتراقبه بعيون متيقظة تتلألأ ببريق الحب الذى لايخفت مع مرور الزمن بل العكس ، وحبها له راسخ فى قلبها رسوخ الجبل الهائل هناك على أطراف العزبة ، وعند أول الصحراء الصفراء .
بعد الإفطار ينتقلان إلى الشرفة المطلة مباشرة على النهر ، ويتلمسان الشمس الساطعة بحنان دافق ، وتقفز الدقائق مسرعة إلى الأمام ، بينما الشمس تصعد إلى صدر السماء ، وتفرش ثوبها الذهبى على أرض العزبة ، وتحط خيوطها على الديار والحقول ، وفى الغيطان رجال ونسوة وأطفال ، يعملون بحماس منقطع النظير من قبل أن تستيقظ الشمس من نومها ، ومازالت الحقول مغسولة بماء السماء ،ولم تجفف بدنها بعد ، ولم تبخرها حرارة الأسلاك الذهبية !
فى الشرفة البحرية المطلة على النهر من ناحية حديقة القصر ، يجلسان كعادتهما منذ سنوات ، كعصفورين متآلفين منسجمين ، يحلمان أن تستمر الألفة العمر كله لتوثق رباطهما المقدس ، يتلذذان بالفضفضة فى كل شئون الناس ،وشجون العزبة وأهلها الفلاحين والأرض والزرع والمال وأحيانا يتبادلان الحب البرىء كالعذارى من تلاميذ المدارس ، وكأنهما نسيا أوربما تناسيا مع مرور الزمن ،أنهما متزوجان منذ سنوات بعيدة .
يغادر مقره بتحية الرجال الذين يحرسون القصر ، ويزرعون بستانه ، وهو فوق حصانه الأشهب مثل أمير يخرج فى نزهة ليتفقد أحوال رعيته ، يسير مختالا فخورا مهابا على الضفة الشرقية للنهر ، يحس مع وقع حوافر حصانه أن تراب الأرض مازال مبللا بالندى ، يحاول أن يكتشف كل مافى عزبته التى عاش فيها عمره كله ، كما لوكان يراها لأول مرة ، يتابع عماله وهم يكدحون فى أرضه ، ويراقب الزرع الأخضر المثمر فى حقوله الشاسعة ، ويعطى أوامره ، ويصدر نواهيه بلطف حنون .
يبدو مزهوا ،وكل هذه الحقول ملك يديه ، وقصره يجرى من تحته النهر كأنه يعيش فى الجنة ، ويمتلك يابسها وأخضرها، ويتنعم بطرحها ، وإن كان ينقصه شىء واحد ينغص عليه حياته ، ويسرق منها لذة السعادة وترف النعيم ، ومتعة الإقامة فى جنة الله على الأرض .. إنه الولد الذى يحمل اسمه ، هذا هو الإنجاز الكبير الذى عجز حتى الآن عن تحقيقه ، وإيمانه راسخ بأن من عاش بلاولد ، فليس له إنجاز يذكر فى هذه الحياة الدنيا .
يلف ويدور فى الحقول ، فيلقاه الناس بترحاب وحفاوة ، يتحدث إليهم بود وحب وبساطة ، ووجه بشوش ، يمزح مع الأطفال ، ويوزع عليهم حفنة من الأوراق المالية الجديدة ،يحتفظ بها دائما فى جيب جلبابه، مفرودة غير مطوية كأرغفة الخبز التى خرجت من النار فى التو والحال ، ولاتفارق الإبتسامة وجهه .
وحين يرونه يتطلعون لعطاياه فلايخذلهم أبدا ، وعندما يراهم سعداء بما أخذوا يسعد هو أيضا بما أعطى ، وعلى الفور يتقافزون ويحدقون فى الأوراق المالية غير مصدقين على الإطلاق أنها بحوزتهم .
لايحب شيئا فى العزبة أكثر من حبه لأطفالها ، وتسيطر عليه فكرة دائما لئيمة تستقر فى رأسه وتزعجه من حين لآخر ،ويتردد صداها فى نفسه .. ماذا لوانتهت حياته الآن ؟! وماذا سيتبقى له فى الوجود ؟!
لاشىء يبقى سوى الوجود الباهت الذى يشبه العدم ، ولمن يترك كل هذه الثروة الطائلة من أرض وقصر ، وحقول شاسعة ، ومزارع حافلة بالمواشى والأغنام ، وأموال سائلة لايعرف حتى الآن عددها فى بنوك المدينة البعيدة !
تغوص تلك الأفكار المزعجة كأشواك متوحشة ، تستقر فى ضميره تؤرقه مثل إبر حادة ، وسكاكين مسنونة بعناية .
يشعر وهو فوق حصانه الأشهب يختال كالطاووس ، ومن حوله رعاياه فى حقوله ،ومزارعه وبساتينه ، يقدمون له فروض الولاء والطاعة ، أنه يوشك على النهاية ، كما أن الحلم المستحيل فى طفل صغير يجعله يشعر باختلال فى توازنه ، هل يوشك أن يموت ؟! وما الموت ببعيد عن أى مخلوق !
ربما يكون الإحساس ـ المحبط لمن يبتلى به ـ بداية الانحدار نحو الدار الآخرة .. نحو الحفرة الأبدية التى تنتظر كل حى ، الإحساس مجرد بداية ثم يتبعه فقدان شهية الحياة ، وتجرع كئوس اليأس .
لابأس .. إذا كان الموت حق على رقاب الجميع ، وقادم لامحالة إلا أنه أبغض الحقائق التى يفكر فيها ، ولايخشى شيئا قدر خشيته من طائر الموت الذى لايعرف أحد وجهته ، ولايدرى موعده .
شىء مدهش لفت نظره فى الأيام الأخيرة .. ألا وهو الزحام ، وكأنه كان مسافرا لسنوات طويلة ثم عاد ففوجىء بكثرة الناس هكذا ، وتزاحمهم فى كل مكان يذهب إليه فى العزبة .. الطرقات مزدحمة بالأولاد والبنات .. براعم صغيرة .. يراهم يلعبون ، وزهور بشرية تجرى على الأرض ، هاهم يمرحون فى الطرقات والشوارع ، وفى الغيطان مع الأباء والأمهات كتفا بكتف ، يحصدون ويزرعون ،وحتى فى المدرسة الوحيدة بالمصراوية بدت له الفصول مكتظة على غير العادة وفناء المدرسة يعج بالزهور الصغيرة من الصبيان ،والبنات فى وقت الفسحة .. لاصوت يعلو على صوت تزاحمهم المرح ، ولهوهم الجرىء البرىء ، ولغطهم المشاغب الذى يشبه لغط الكتاكيت فى حظيرة صغيرة ، تتسع لهم بالكاد .
قبل الغروب بقليل ، كان يمر بجوار مجموعة من أطفال العزبة ، وقد جلسوا تحت شجرة جميز عتيقة على شاطىء النهر ، يتناقشون ويضحكون بعد أن نال منهم إرهاق اللهو واللعب ، إقترب منهم وتوقف بهدوء ، وسمعهم يتساءلون مع بعضهم البعض .. بأى طريقة يفضلون الموت ؟!
هل بقنبلة عمياء ، أم بوباء فتاك .. أم غرقا فى محيط الهجرة ، وبحرها الواسع الغريق كما يرون الأبرياء على شاشة التلفاز فى نشرات الأخبار ؟!
اختار أحدهم ، وهو أكثرهم حكمة أن يموت بالوباء ، وعندما سأله رفاقه عن سر اختياره هذا ، قال بلاتردد .. لأنه يستطيع أن ينقل العدوى للأعداء على الضفة الأخرى من الشاطىء ، قبل موته بالبصق عليهم !
ضحكوا منه ، واعتبروه ساذجا واسع الخيال ، واختار كل منهم لنفسه ميتة أخرى أقل ألما من الموت بالوباء ، وكأن الموت اختيار .
زحام .. زحام .. زحام .. ماأكثر الصغار، وكأنهم فراخ العزبة يتوالدون بسرعة ،وبأعداد كثيرة كالأرانب حتى بدت له المصراوية كأرض المحشر والمنشر .. سأل نفسه باستغراب :
ـ من أين جاءوا بكل هؤلاء ؟! وهل حدث هذا التكاثر فجأة .. أم أنه هبط بشكل تلقائى تراكمى دون أن يلحظه ؟!
ربما لأنه يقدس العزلة ، ويرى المجد فى الوحدة .. سبحان من يغير كل شىء ولايتغير ،ثم هز رأسه متهكما متسائلا بينه وبين نفسه :
ـ هل صارت خصوبة الناس فى العزبة ، تفوق خصوبة الأرض العفية التى تطرح الزرع ،ولاتكف عن الطرح فى كل موسم ؟! وياترى صارت خصوبة الفلاحين وزوجاتهم أكثر من خصوبة النهر العظيم ؟!
لابأس فتلك إرادة الله ، وحكمته فى مخلوقاته ، هاهم يتناسلون كالنمل ، ويتكاثرون كالجراد بأسرع مما يظن .. لاشىء يهم .. أليس الإنسان هو خليفة الله على الأرض ؟! ومن أجل هذا الكائن الضعيف الجبار، العاقل المجنون ،خلق الله له شىء فى هذا الكون ؟!
كل دقيقة يأتى إلى الدنيا طفل جديد فى العزبة المنسية التى لامكان لها على الخريطة ،وقد سمع فى الراديو ـ ذات صباح ربيعى ـ أنه يأتى للدنيا عشرة أطفال كل ثانية فى أرض الكنانة !
برامج وهيئات ،ومنظمات تسعى لتنظيم النسل ، لكنها تقف عاجزة أمام طوفان الخصوبة الهادر فى مصرنا المحروسة !.. أم الدنيا فعلا ، وصدق من أطلق عليها هذا اللقب .. وماذا تفعل الأم فى هذه الحياة سوى أن تلد ؟! أليست تلك مهمتها المقدسة التى خلقت من أجلها ؟!
إن بطون النساء كبطون الأرض لاتكف عن الأخذ والعطاء ، لابأس فالأرحام تدفع ، والأرض تبلع !
والأغرب أن الناس صنفين .. صنف يعتبر الأطفال هم الرزق ، والصنف الثانى يعتبرهم العبء ، وربما يحسبهم مصيبة سوداء .. ويقول غلطة !
أطفال .. أطفال .. صبيان وبنات ،فى كل بقعة من العزبة ،كأن أرضها منثورة ببذور الأطفال ، ومزروعة بالصغار من كل الأعمار .. لن يكون جاحدا ويسأل :
ـ لماذا لايكون له نصيب من كل هؤلاء الذين يتزاحمون ، ويملأون الفراغ فى كل ركن ،وطريق وحقل وفصل وساحة فى عزبة المصراوية ؟!
لن يسأل ولن يتساءل ، وإن كان يشعر بغصة ،وحسرة على حاله .
عندما يعود إلى قصره على حصانه الأشهب ، بعد جولة فى مزارع العزبة وحقولها للتأمل ، والمتابعة لأرضه وزرعه ، وماله وأهل بلده ، يشعر بالخواء وهو بين رخام قصره الواسع العامر بالتحف والنجف وجمال المعمار ،ورونق الجدران ،وزخارف الحوائط والأسقف والأرضيات ، لكن جمال القصر ينفث برودة ، وجفوة فى أوصاله ، وتظل الوحدة شاخصة فى أنحاء القصر تحاصره ، كما لوكان فى صحراء قاحلة بلانهاية .
أحلامه لاتهدأ ولاتنام ، دائما متيقظة ترنو إلى حدث سعيد يهدىء من رجفة قلبه ، وحسرة زوجته الصامتة ، يسود بينهما صمت طويل ، ويختبىء الكلام ، ويظل محبوسا فى دهاليز الصدور ، فتهمس له بنظرات حزينة :
ـ ياسعد .. الحياة ستظل مستمرة ، وعلينا ألانستسلم لليأس ، فاليأس معناه شىء واحد .. الموت .. وهو الراحة الثانية بعد اليأس ، هيا بنا ياحبيبى نتمسك بالأمل ، ولانفقد الإيمان بما يختاره لنا رب الكون .. علينا أن ننقش حكاية حبنا وصبرنا على وجه ماء النهر ،وفوق جدران هذا القصر الذى يضم حبنا وحلمنا .
ينصت سعد لنصفه الحلو، فيأتيه صوتها هادئا منسابا عذبا مثل الماء الرقراق الصافى فى النهر المار تحت أقدام القصر .
يودعان النهر إلى حين ، ويتركانه بكل أحداثه وحوادثه ، يختفى فى رحم الليل عسى أن يولد يوم جديد مختلف فيه ماينقصهما ، لعله يأتيهما بما حرما منه سنوات قحط عجاف.. فلاشىء مستحيل ولاشىء بعيد ، ورب العالمين أقرب إليهما من حبل الوريد .. أمره نافذ .. كن فيكون .
فى سحر الليل وخيالاته ، وهدوء العزبة، وسكينة القصر ،تنطلق موسيقى رومانسية خافتة ، قادمة من راديو عتيق فى ركن قصى ، وعلى أنغامها تشدو كوكب الشرق بأغنية الحب كله ..
( الحب كله حبيته فيك .. وزمانى كله أنا عشته ليك ) .. عندئذ يصمت كل صوت ، وتنتبه كل الحواس ، وتجيش فى النفوس كل المعانى الخالدة ، واللحن القديم يسقى الروح بالحنين إلى كل شىء جميل مفقود ، وصوت الست أم كلثوم يأتى متهدجا ، يصدح بكلمات تسكن الوجدان ، ولاتغادره بسهوله لعلها تتحدى النسيان آفة الإنسان الكبرى .
تلمع العيون الأربعة بدهشة الحب الأول والأخير .. ولاغرابة فى ذلك ، فالعشاق أكثر الناس تأثرا بألحان الحب وموسيقاه ، حتى ولوطال الزمن فهذا الاحساس لايصدأ ولايبلى أبدا .
وحينما يسود الصمت بين العاشقين ، تكون بينهما ألف لغة ولغة منطوقة وغير منطوقة ، لايفهمها أحد سواهما .
تسكت كوكب الشرق عن الشدو ، وهما يتمنيان ألاتسكت أبدا ، هذه القيثارة المهداة من السماء إلى أهل الأرض .
يمتد حديثهما من أحوال القلب إلى أحوال المال ، وكيف ينمو ويتناسل كزرع أخضر ، ويتكاثر كأهل العزبة ، وإن كانا لايخجلان من حديث الحب ،وأفاعيله بعد أكثر من عشرين عاما من السباحة معا فى نهر الغرام .
فى كثير من الليالى ، ينفقان الكثير من الوقت فى الثرثرة عن المال وشئونه وسحره وفعله زيادته ونقصه .. لاشىء يبقى على حاله.. كل شىء يتغير حتى التغير نفسه ـ بقواعده وأصوله وقوانينه ـ يتغير ،ولايبقى على حاله .
فى معظم الأحوال ، وإن بدا كل منهما مهموما بأشياء كثيرة مشتركة بينهما فإن هناك لحظة فى هذا الليل الطويل ،يحس كل واحد منهما بأنه عاجز وحيد بائس يائس .. وإن كان كل منهما يؤمن فى نفسه بأن اليأس راحة خادعة من فعل الشيطان .
لايفكر أبدا فى امرأة أخرى تهبه حلم الذرية ، لأن وداد حبه العظيم ، ولامانع عنده ولاعائق عندها حسب أقوال الأطباء .. لكن الأمر كله بيد الله دون سواه .
أحبها ذات يوم ثم تزوجها على الفور ، بعد أن سمع من شيخ حكيم أن الفوز بامرأة صالحة جميلة أفضل مكسب للرجل فى هذه الحياة.
كان والده أغنى رجال الناحية كلها ، وهو الابن الوحيد للأسرة ، ومن خلاله سيستمر اسم العائلة بينما وداد من أسرة بسيطة لأب فلاح مكافح ، لايملك من حطام الدنيا سوى فدان واحد من الأرض .
رآها بدرا ساطعا ، ونورها بازغا ـ كالقمر فى تمامه ـ فخفق لها قلبه ، وها هو الآن يغمض عينيه ، ويستجلب ذكريات شبابه الأخضر ، ويستعيد حبه الأول والأخير من صندوق الزمن .
رحل الأب والأم فى عامين متتالين ،وورث هو كل شىء .. كان قد تزوجها وأبحر معها فى نهر من الحب الفياض لاتعكره أمواج ،ولا تعوقه مطبات لقوارب وبواخر ،تمخر عباب نهر الحب الهائج الهادر .
ليل الشتاء طويل ممطوط بارد بشكل عجيب ،والقصر واسع فسيح كالدنيا بشرقها وغربها وشمالها وجنوبها .
عندما يجاوز الليل منتصفه ، يداهمه احساس غريب ،يشعر أنه صار عجوزا وكبر مائة عام مرة واحدة .. احساس محبط يبعث على الخوف ، ويوحى بأن النهاية وشيكة ، يصبح رجلا مهموما تعيسا رغم كل مايملك من مفاتيح السعادة ، لكنه يدرك أن الأقدار تعانده ، والحظ يعاكسه ويشاكسه ، وسلسلة مفاتيح السعادة ينقصها المفتاح الأهم ، فيسأل نفسه :
ـ ماذا يريد من هذه الدنيا ، وماذا تريد الدنيا منه ؟!
يجد ذاته تجيب على سؤاله الكبير الصعب .. يريد كل شىء .. لاحرمان من أى نعمة على الإطلاق ، وهكذا الإنسان حين يهبه الله كل شىء باستثناء شىء واحد ، يظل غاضبا يفكر فيما ينقصه ، وينسى الكثير الذى بين يديه والنعم التى لاتعد ولاتحصى التى فى حوزته .. إن الإنسان إلى ربه لكنود !
ولاشك أن مايطمع فيه الإنسان ،ويطمح إليه بنيل كل النعم ، يتناقض مع معنى الدنيا .. إنها القليل المتدنى .. هكذا خلقها الله ، وهكذا أرادها .
ينتابه كابوس ثقيل يجثم على صدره ،ويشى له بحالة الفشل ، وأنه فقد ظله ، وأن الأرض تهتز تحت قدميه فيشعر بالوهن والخواء ،وأنه ليس بيده شىء سوى الرضوخ التام لإرادة القدر .
وقبل أن تفارقه وداد إلى غرفتها، اقتربت منه ، وطبعت قبلة أمومة حانية على جبهته ثم همست له بصوت منطفىء قليلا ، ويخالجها الضيق الذى ينتابه :
ـ دع الأمر كله لله .. نحن أحسن من غيرنا بكثير .
أومأ برأسه ، وانفرجت أساريره ، وتلاشى معظم الضيق من على محياه ، وهبطت سحابة من رضا على وجهه ، وإن أطلت على ذاكرته مناظر الأطفال الذين يتزاحمون مثل النمل ، ويتدافعون مثل الجراد فى كثير من أماكن العزبة .
وتوسوس له نفسه الأمارة بالسوء .. كيف يكون هنا غزارة فى النسل ، وشح فى العدل ؟! ماأكثر الأطفال ، وماأقل التوزيع العادل .. أين العدل على الأرض ؟! يبدو أن العدل فى السماء ،وليس على الأرض .. وإذا كان الله هو العدل فلماذا يعانى الإنسان من الظلم ؟! لعل هناك حكمة لاتدركها العقول .
تنهد ورد عليها بصوت مكلوم :
ـ الله كريم ياوداد ياحبيبتى .
تمتمت له بدعوات ـ بصوت خشوع هامس ـ بطول العمر ، وصالح الذرية ثم انصرفت بوجه بشوش .