قام من ثباته على أشعة الشمس الملتهبة تلسعه، ليجد نفسه على أرض رملية، نهض فزعاً كيف جاء إلى هنا! لا بد أنه تم اصطياده، تلفت حوله يحاول الهرب، لكنه فوجئ من هول ما رأى! الكثير من الناس مثله ينامون في العراء، بدأ البعض منهم يستفيق، وفي خلال دقائق استيقظ الجميع وبدأت التساؤلات.. أين هم؟ وكيف تم اصطيادهم جميعاً في نفس الوقت؟! لا بد أنها جماعة قوية، لكن مهلاً أين الكلابيب والأحبال، وأين البيوت! صاح أحدهم بصوتٍ عالٍ:
- ماذا تنتظرون؟! هيا اهربوا قبل أن يستيقظوا ويأكلوننا هيا.
بالفعل بدأوا يهرولون ويبحثون عن طريق، لكن أين هم! كل الاتجاهات تشبه بعضها، صحراء تحاوطهم من كل اتجاه.
- فلنقسم أنفسنا إلى جماعات، وتذهب كل جماعة من اتجاه.
قالها شخص، ليرد آخر:
- لا، فوجودنا معا أفضل، ونستطيع الدفاع عن أنفسنا.
ليرد عليه الأول بسخرية:
- نستطيع الدفاع عن أنفسنا! ولمَ لم نستطع فعلها عندما أتوا بنا إلى هنا!
رد إبراهيم بعد صمت طويل:
- هل يتذكر أحدكم أنه خُطف؟
آخر شيء أتذكره أنني كنت في بيتي نائمًا على فراشي.
- لم أخرج من منزلي منذ يومين خوفاً من الخطافين. قالها أحد الأشخاص ليرد عليه أحدهم بلؤم:
- لم تخرج منذ يومين، يبدو أنك استطعت توفير الكثير من الطعام يا هذا!
توتر الرجل خوفاً من أن يُكشف أمره وأمر الطعام ولم يرد، تكلم إبراهيم مرة أخرى:
- وجودنا هنا وبهذا العدد ليس له سوى معنى واحد. رد عليه عثمان بتهكم:
- أجننت يا إبراهيم تصدق هذا المخبول! إذا كنت جننت فنحن ما زلنا عقلاء.
في الخلف تقف وحدها في خوف، تلف الوشاح جيداً عليها حتى يخفي معالمها وهويتها، التفت إليها أحدهم فجأة، شك بها، تراجعت للخلف خطوة فتقدم منها، شد وشاحها على غفلة وصاح قائلاً:
- امرأة!
التفت الجميع إليها وبدأوا يقتربوا منها وانهالت التساؤلات:
- من أنتِ؟
- ماذا تفعلين هنا؟
الخوف يسري في أوصالها، فهي مثلهم.. لا تعلم كيف أتت هنا، خائفة أن تُكتشف هويتها، يقتربون منها وأصواتهم عالية، تكلم إبراهيم أخيراً ليوقفهم وينقذها قائلاً:
- ألا ترون الخوف في عينيها! بالتأكيد هي مثلنا أصابتها اللعنة، لا تعترضوا طريقها ودعوها وشأنُها، لا تخافي يا سيدتي
تقدم منها وأخذ الوشاح من الرجل وأعطاه لها:
- أعتذر لك.
أخذته منه وابتسمت في راحة، كاد أحدهم أن يتحدث، لكن قطع كلامهم صوت يقترب، ترقبوه جيداً حتى اقترب منهم، همسوا بينهم وبين أنفسهم:
- ما هذا الشيء إنه يتحرك!
- آلة عجيبة، ما هذا؟!
بدأ الجميع بالرجوع إلى الخلف في رهبة وفزع ليصيح أحدهم:
- ما هذا؟! لقد خرج من هذا الشيء بشر! كيف هذا!
- انتبهوا جيداً، من الممكن أن يكونوا خطر.
قالها شخص منهم، ليرد عليه آخر:
- أو جان!
إبراهيم بهدوء كعادته:
- اهدأوا ودعونا نرى، من الممكن أن يكونوا أناس طيبين، ويرشدوننا إلى الطريق.
نزل من السيارة رجلان، فوجدا مجموعة من البشر ذوي هيئة غريبة، لحي طويلة، عِمامات على الرؤوس، ملابس متسخة ويكاد يكون بعضها بالي، لكنها تحمل طابع الطراز الإسلامي القديم.
قال أحدهم:
- إنتوا بتصوروا هنا ولا إيه؟ فيلم إيه ده يا كابتن منك ليه، أحمد السقا معاكوا هنا ؟
عم الصمت المكان ليرد إبراهيم أخيراً، ويعلو وجهه علامات الدهشة؛ لعدم قدرته على فهم ما قيل:
- عذراً!
ثم استأنف حديثه بأمل:
- هل لك أن تساعدنا؟ نحن تائهون، هل تعرف أين نحن؟
رد الشخص الآخر على صاحبه:
- ده باينه فيلم تاريخي، بس إيه متقمصين الدور أوى، اللبس بردو زي الأفلام العربي القديمة بالظبط، يمكن دي حفلة تنكرية!
- حفلة إيه بالنهار كدا! بيقولك تايهين، شكلهم سياح وتاهوا في الصحرا.
ثم وجه كلامه لإبراهيم:
- أنا اسمي زين، ودا أسامة صاحبي، شكلكوا تايهين من زمان، عايزين تروحوا فين، وإنتوا أصلاً منين؟
حاول إبراهيم استيعاب الكلام لكن لم يفهم؛ فهو يتحدث بسرعة، وبلهجة غريبة عليه لم يستطع تحديدها، كرر سؤاله مرة أخرى:
- أين نحن؟
هل تستطيع أن تصف لنا كيف الطريق إلى الفسطاط؟، قالها ثم أكمل موضحاً:
- القاهرة، مصر، إنها بلدنا ولا نعرف كيف ضللنا الطريق لا بد أنهم الخطافين.
أدرك زين عدم قدرته على فهم المصرية العامية وحاول التحدث مثله:
- فسطاط! نحن في مصر تحديداً الجيزة، علي بُعد كيلومترات من الهرم، من هم الخطافين؟
- وكيف نعود للوطن؟ من أي اتجاه نذهب؟ قالها إبراهيم.
أشار له زين على الطريق ثم قال:
- هتمشوا كل ده، دي مسافة كبيرة علي ما تطلعوا للطريق، وبعدين هتروحوا فين؟!
مفيش عربيات معاكوا، أو جي بي إس؟
- استيقظنا من نومنا فوجدنا أنفسنا هنا، ومعظم من هنا ليس لديه عربات...
صمت قليلاً ثم أكمل مستفسراً:
- ماذا تقصد بالذي تقوله، جي جي بس! لم أفهمك هل أنت مصري؟!
- يبدو أنه من بلاد الفرنچة. كان هذا عثمان.
- ده هو اللي مستغرب إني مصري!
قالها زين لصديقه ليضحك ثم يرد عليه ببساطة:
- طيب ما تطلبلهم أوتوبيس ينقلهم وخلاص.
- براڤو عليك، عندك حق ازاي مفكرتش فيها.
قالها ثم وجه كلامه لإبراهيم، الذي يبدو وكأنه المتحدث الرسمي لهم.
- بصوا قصدي، سوف أحضر لكم عربات تنقلكم إلي حيث شئتم، علشان إنتوا شكل حكايتكوا حكاية.
صمت قليلاً ثم قال مفكراً:
- بس إنتوا عددكم كبير، تقريباً مِيّة. جيتوا هنا ازاي!
- أشكرك .قالها إبراهيم بامتنان.
أخرج زين هاتفه وطلب الأتوبيس تحت نظرات الدهشة من الجميع، ليأتي شاب صغير أثاره الفضول قائلاً:
- ما هذه الالة العجيبة؟ وتلك أيضاً عجيبة!
قالها مشيراً الى السيارة، متى ظهرت تلك الأشياء؟ ملابسك أيضا غريبة! لكنها جميلة، من أين اشتريتها؟ بكم رغيف خبز أخذتها؟
- رغيف خبز! هي العملة اتغيرت ولا إيه! صحيح كل حاجة غِليت لكن مش للدرجة دي!
- والله حاسس ده برنامج الصدمة، أو هلاقي رامز جلال هنا!
بعد حوالي ساعة ظهرت الأتوبيسات من بعيد، ما أن رأوا الغبار رجعوا إلى الخلف في خوف ودهشة:
- ما هذا؟ إنه جيش من الجان، انتبهوا جيداً.
- إنها كلابيب ضخمة، سيصطادوننا بها جميعا احذروا
أسامة في فزع:
- كلاب ضخمة! لا أنا رايح العربية، فين الكلاب دي؟
بدأ يلتفت في كل اتجاه لكنه لا يري شيء غير الاتوبيسات، أشار إليها في ارتياح:
- أخيراً العربيات جت وهنمشي من هنا، الناس دي هتجبلي صرع.
زين كان يضحك عليه وهو يعلم خوفه من الكلاب:
- بيقولوا كلابيب مش كلاب، اهدى بقى، هي إيه حكاية الكلابيب دي؟ قالها ثم أستأنف بجدية: عارف دلوقتي بس ندمت إني ماكنتش بذاكر عربي كويس.
ضحك أسامة مؤكداً ندمه أيضاً. اقترب منهم عثمان بفضول وابتسامه مريبة:
- أين هي تلك الكلاب، يمكنني شرائها منك؛ فأنا جائع جداً.
نظر له أسامة بتقزز:
- أنت عاوز الكلب تاكله! إي القرف ده، خد كُل دي، أعطاه بسكويته، ثم أكمل:
- بدل ما تاكلني أنا.
رد عليه وهو ينظر له متفحصاً وهو يقول بجدية:
- أنت عبارة عن عظام، ماذا سآكل بك! هذه جيدة وتفي بالغرض الآن.
رجع أسامة للخلف وهو خائف منه
زين بضحك:
- شكله بيخوفك، أهي العربيات وصلت أخيراً.
نظروا لها بدهشة ورهبة، ورجعوا خطوات للخلف، ليقول زين:
- الناس دي اللي يشوف كده يقول أول مرة يشوفوا عربيات، أو بني أدمين اصلاً. إنتوا متأكدين إنكم من مصر!
فتح أسامة الباب:
- يلا اطلعوا
- ما هذا الشيء ؟ أهو آمن !
- إنه ما سيأخذكم إلى القاهرة، نعم هو آمن لا تخف.
قالها زين ثم صعد أمامهم ليطمئنهم، ثم أشار لهم:
- هيا اتبعوني.
صعد إبراهيم أولاً واصَطحِب المرأة، ودعاها تجلس بمفردها، نظر لها زين بإعجاب ودهشة من شدة جمالها عندما حرك الهواء وشاحها، ولأنها الأنثى الوحيدة معهم. رمقه إبراهيم بغضب، وحذرهم من اعتراضها وهو ينظر له بتهديد، فهم زين النظرة وخفض عينه في حرج واعتذر له.
فعل أسامة الشيء نفسه في العربة الأخرى، وتبعه الآخرون ثم نزلوا وأغلقوا الباب وركبوا سيارتهم وتبعوهم، بعد مدة وصلوا إلى القاهرة، أنزلهم السائق قائلا:
- إنتوا جايبين الناس دي منين، دول ناس مجانين، عمالين يصوتوا طول الطريق، أول مرة يركبوا عربيات ويشوفوا طرق!
كل حاجه يزعقوا ويشاورا عليها إيه ده؟! كلامهم كمان غريب، طالعين من سبيستون ولا إيه!
- هما فعلا ناس غريبة، يمكن جايين من قرى نائية؟
قالها أسامة في تساؤل ليرد زين:
- حتى القري عارفين الحاجات دي، الناس زي ما يكونوا من دنيا تانية، لولا إن مفيش حاجة اسمها انتقال بالزمن كنت قلت مش من زمنا خالص.
اقترب إبراهيم منهم بتساؤل:
- ما زال لدينا الكثير من الوقت حتي نصل إلى القاهرة يا هذا؟
- زين بدهشة: دي القاهرة:
أسامة بصبر بدأ ينفذ :
- إنتوا منين من القاهرة بقى؟
إبراهيم بصدمة:
- هذه هي الفسطاط!
نظر حوله مندهشاً ثم أكمل:
- ما كل هذا الزحام؟ وكيف تغيرت الملابس كلها؟ وما هذه الآلات العجيبة! يوجد الكثير منها في كل مكان! أين نحن؟ أين مصر؟ أين بلدنا؟ ما الذي يحدث هنا، كل شيء غريب اليوم ولم نراه من قبل.
زين بتفكير:
- الفسطاط، الفسطاط مش دي اللي في حي مصر القديمة؟ بسيطة نروح هناك .
كان يقف من بعيد من يسمعهم باهتمام، وقد أثارته ملابسهم الغريبة، لا يعلم لمَ ذهب خلفهم ليرى ما سيحدث، وماذا سيجلب له فضوله هذه المرة من المتاعب لكنه لا يهتم سيستمتع قليلاً.
بعد مدة طويلة وصلوا إلى المكان، بعدما علقوا في الزحام الذي سبب لهم الخوف والرهبة أكثر.
- لدي شعور أن هناك شيء خاطئ هذه ليست مِصر! أنا لم أرَ أي أحد يقربنا أو يشبهنا ولا…
كان هذا إبراهيم الذي قطع كلامه عندما بدأ يرى النقوش على المساجد والكنائس، وبعض البيوت القديمة:
- أترون هذا، إنها تشبه منازلنا، لكنها أصبحت كثيرة وعالية، وهذا المسجد أتذكره، لكنه حديث بعض الشيء أيضاً، إنها تشبه شوارعنا وحاراتُنا لكن أين الناس؟ أين الأهل!
هبطوا من الأتوبيسات وهم ينظرون حولهم برهبة ودهشة لم تفارقهم منذ أفاقوا من نومهم:
- لقد كان بيتي هنا! قالها أحدهم وهو يبحث عن بيته والدموع تتجمع في عينيه:
- تُرى أين هم أبنائي الآن ؟
نظر حوله وجد الجميع حالهم من حاله، فَهُم الآن في وضع لا يُحسدون عليه، شعروا جميعاً بالضياع، شعورك بالغربة والضياع في وطنك أمر لا يُحتمل مهما كان وطنك قاسياً، لكنه يبقى وطنك، جميعنا نشعر بالتيه أحيانا لكن هذا التيه الذي هم فيه ابتلاء صعب للغاية.
قال إبراهيم بصوت يكسوه الحزن:
- وكأنما نقلوا البيوت كلها، وكأنما تغير العالم من حولنا، لم تصدقوني، وقلتم مجنون يبدو أن النبوءة قد تحققت، ماذا نحن فاعلون الآن!
(إبراهيم)
الحياة بالنسبة لي لم تكن مجرد أيام وتمر، التفكير والتأمل لهما النصيب الأكبر في كل شيء، لم أعتد أبداً التسليم والاتكال على الحظ، ولا تصديق كل ما أرى، يُمكن أن تكون نشأتي في بيئة غنية بمجالس العلماء والفقهاء لها يد بهذا.
منذ نعومة أظافري وأبي يصحبني معه، ثم بدأت التعلم وحفظ القرآن الكريم، كل شيء كان على ما يرام، والأوضاع مستقرة ونعيش في ازدهار ويُسر في الحال، لكن كل شيء تغير فجأة.. لا أصدق كم المآسي التي رأيتها، وكيف تحول الناس هكذا فجأة! بعد جفاف النيل بعدة بأعوام انتشر مرض لعين أخذ معه الآلاف من البشر، ومنها إلى الفيضان الذي ابتلع الأخضر باليابس، لا أعلم إن كان لِحُسن حظي أم سوئه أنني كنت ممن نجوا من تلك الظواهر، ومن الفيضان إلى الجفاف مرة أخرى، وتغيرت الأحوال كُلياً، لكن لم تتغير نظرتي للأشياء، بل زاد يقيني ألا أثق بأي شيء وأنه لا يوجد شيء دائم، فدوام الحال من المحال كما حدث من قبل، والآن صارت الأمور أسوأ، كنت أظن أنه لا يوجد أسوأ مما رأيت في السنوات الماضية، ولا أعلم ماذا سيحدث بَعد، تيقنت أنه لا دائم غير الله فلنتمسك به، فهو من نجاني في كل مرة ظننت فيها أنني لن أنجو، أيضا سينجيني هذه المرة.
الفسطاط القرن الخامس الهجري..
يمشي في القرية يرى حوله أثار الخراب والدمار، الموتى في كل مكان، يبكي ويصرخ وهو يبحث عن أهله وعن بيته، وقف مصدوماً
- أبي!
جَمدت الصدمة لسانه، مَنزله انهار، أبوه غارق في دِمائه، يصرخ بصوتٍ عالٍ:
- أبي.
قام من نومه والعرق يكسو وجهه المرهق، ما زال هذا الكابوس المزعج يراوده منذ سنوات؛ ليذكره بذلك اليوم المشؤوم الذي فقد فيه أسرته، بل والكثير من أهل القرية إثر ذلك الفيضان، مسح حبات العرق وقال محدثاً نفسه:
- وكأنما كان ينقصنا ذلك الفيضان ليزيد عدد القتلى، أما يكفي من فقدناهم في ذلك الوباء اللعين! وما زلنا نفقدهم إلى الأن، لقد سمعت أحد العسكر يقول أن عدد من فقدناهم يقدر بثلثي السكان إلى الأن...
- ما بالك يا يعقوب ما شأنك وشأن من فُقدوا، يكفيك خسارتِك هيا أخلد للنوم قبل أن يطلع النهار ويوقظك عمك.
- لا أعلم إلى متى سأظل تحت رحمته، وأتقبل سوء معاملته لي، لكن ليس لدي حل آخر الآن.
في الصباح..
دخل الغرفة صافقاً الباب بقوة وقال بصوتٍ عالٍ:
- هيا قم، يكفي نوماً يا كسول، لدينا الكثير من العمل.
- حسنا يا عمي، لقد استيقظت، لكن عليك باستئجار حِمار أُنقل عليه البضائع، ظهري أصبح يؤلمني من الحِمل الثقيل .
- ومن أين آتي بالنقود لاستئجار الحِمار يا فتى؟!، قم بعملك وكفى.
صمت يعقوب قليلاً ثم قال:
- عمي لقد قلت لي أن أبي عليه دين كبير لك، وعليِّ تسديدة، أنا أعمل عِندك منذ سنوات، ألم يُسدد الدين بعد!
لطمه عمه بعنف:
- تريد تَركيِ والرحيل يا هذا؟ إرحل إذن، وأرني كيف ستأكل وتشرب، فأنت في نعيم معي، غيرك ذبحه صاحب الحانوت وأكله لندرة الطعام.
فكر جيداً في الأمر هناك الألاف يموتون جوعاً ويريدون أخذ مكانك، لن أخسر شيئا من دونك، أنت لا تفيدني بشيء وسيأتي البديل فوراً، لكن أنت ابن أخي لهذا أشفق عليك لا أكثر.
نظر له يعقوب بقهر، فهو يعلم تماما صحة ما يقول من أحوال البلاد، لكن آخر جملة قالها استوقفته قليلاً، يريد أن يضحك ساخراً، كل هذا ويُرفِق به! ثم استأنف حديثه قائلاً :
- لا أقصد تركك يا عمي، لكن أريد العمل بلا دين أسدده، أريد أن أفهم أكثر، أبي كان شريك لك، يزرع الثمار ويرسلني بها إليك لتبيعها في حانوتك، وآخر مرة لم تُرسل له أموال، فكيف أصبح هو المدين ؟
عمه في توتر حاول ألا يظهره:
- البضاعة التي أرسلها أبيك كانت في حالة سيئة ورفض الديوان ضمها للمتجر السلطاني ككل مرة، ولم أستطع بيعها، ثم نهبها الجوعى وخسرناها، هذه هي الديون، وزادت الديون بقدومك أنسيت أنني أُطعِمك وآويك في بيتي؟ فهمت الآن أم لا؟
يعقوب بقلة حيلة فهو يعلم أنه كاذب وبخيل، لقد باعها بأضعاف أضعاف ثمنها مستغلاً الأزمة، يريد فقط توفير أُجرة عامل وحِمار، لكن هذا شأن الجميع الآن، لعله أفضل من غيره بعمله مع المتجر السلطاني، ويستطيع تأمين الطعام ولو شحيح، لكن يكفيه ويقيه شر الجوع والحاجة.