tafrabooks

Share to Social Media


-1- "في الأندلس"
النور هو ما يرى في سماء قرطبة, والمعرفة هي ما تطلي أرضها شعبا و سكانا وأزقة, فحين الأرض تطرد الخرافة يتكاثر النور ويصير أجنحة, يحلق عاليا رصدا خلف الخرافة حتى يوصلها إلى الجحيم.. ويعود ليعتمر بأرض قرطبة.. قرطبة جوهرة العالم..
هذا أفقر رجل في الحي الذي ينحدر عن الزهراء المبجلة
كعادة أهل الأندلس يبيت ببطن خاوية مالا أنفقه في إطعام مكتبته, يكرهون الجهل كما يكرهون أن يلقوا في النار.
مع انبثاق الضوء بين ثنايا الحضارة يخرج الرجل من بيته حاملا دراهم معدودة يأت بها بطعام لصغاره, خطوات فقيرهم لا تشبه خطوات فقيرنا, يصادف شابا يحمل المؤلف الذي يسرق عقله, ها هو راكض إليه يزايده على ثمنه, فاز به وعاد إلى أهله طاويا.
غالباً.. لا مكان للظلم في مكان كهذا
مدينة تعرف .. مدينة مّتصلة بروح السماء وتُسبغ أنوار الوحي عليها أسدالها، لا ينبغي أن يجلس فيها على عرش الحكم إلا النور..
مرحبا بك في قرطبة, قرطبة مدينة النور!



-1- "في القدس"

قبة الصخرة كيان شمس على الأرض, في البلدة القديمة بطل قصتنا يزايد على مجلد يزن قلقه.. يظفر به كأنه انتصر في إحدى جولات الحياة, يجلس على ركن شاهد لدماء كثيرة أُريقت في سبيل حرية الأرض المقدسة, يبدأ بالقراءة ثم يخرج مدونة من كُمِّ سترته ويبدأ بالكتابة, بطلنا "نورس" الذي بلغ الخامسة بعد عقد.. خمسة عشر شتاء باردا جافا لا مطر فيه ولا يليه ربيع, صقيع يبلد الروح فقط.
لم يكن فارقا عن غيره من أترابه إلا بثاقبتين تريان الأغلال التي تكسو الأعناق جميعا, هذه السلاسل التي التحمت مع الجلد و العظم حتى بدت جزءا من هيكل آدم..
"نورس" سليل عائلة موريسكية أتى بها الجد الرابع هربا من محاكم التفتيش, الأندلسيون هربوا إلى المغرب.. أو تسللوا مع البحارة إلى الأمريكيتين, أو اختبؤوا في أطراف الجبال..
لكنه رجل ذو عقل سباق من اختار قطع جبال وبحار وسهول و وديان ليصل إلى أرض كانت تزهر وتثلج وتخبئها صواعق الزمن بين طياتها " القدس"
يقول نورس: جدي كان أندلسيا مقدسي, وكأنه اخترق بوابة عبور بالزمن ليخبر أن هذه الأرض ستشهد.. هو وولده كانا تحت ظل أقصى حر حين أوصاه خيرا بعيش هنا. حين قال له ما أخبرتني به فرات" حينما يعثر نسلك على حرة تشاركه حلمي فليكن اسم سليلتنا فرات" حسنا فرات اسم عمم على فتيات العائلة قبل عقود, كل أنثى تولد توأد بقوالب حاضرة تلائم حلم الجد الرابع الذي نفي أيضا منذ عقود ومنذ أن أصبحت البطولة غثاء لا سماء ، لكن غبارا أكثف من قلق أمي وحنانها مجتمعين تراكم فوق الحلم العتيق.
بالنسبة لي.. عائلتي كأي أسرة عربية تقليدية, لا تحسب أن لجدي مكانا في بيتنا أو داخل رؤوسه, لا تحسب أن لذلك البطل فسحة عندنا"
بين العائلتين متحدتا الأصول متآخيتا الأبوين –فرات ونورس- تناقض الشرق والغرب.
فهم ذو صورة سينمائية تخطف الأبصار, وله عائلة نسخية تعتقد الهدف جامعة والسماء سماء
ما عرفا عن بعضهما إلا الأسماء قبل الحادثة، بحكم رابطة الدم واللبن بينهما لم يكن هناك تحفظ، لكن كلاهما قطعة ثلج تمشي على أقدام.



نورس

يجري عمري القصير مجرى تكّات الساعة, على رتل موحد لا خروج عنه ولا فكِاك, للخريف ألوان وتقلبات, ولي جلباب شتاء رمادي باهت تحيط به العادية من شتى جهاته, هذه المسيرة يمشي عليها الجميع .. حقا!
تحت هذا الجلباب أجنحة كبيرة كأجنحة النورس, ربما الخوف يبقيها جامحة ثقيلة على الطيران, ربما الطقس يثلجها إن استرقت البصر, وربما هذا الريش الذي يحميها يشل حركتها.. ربما عدم وضوح البوصلة يمنعها عن التحليق.
عند الأدباء.. يرمز النورس للترحال والشوق.. لكني حبيس أسر مدينتي توّاقٌ للحرية!
وفي الشتاء أهاجر من أريكة تحت النافذة إلى أخرى جانب الموقد بحثا عن الدفئ.. وأفعل من كتاب إلى كتاب بحثا عن النور.. النور لي معه قصة أخرى.
يمكنني تلخيص الثرثرة السابقة بأن حياتي " مزيج سأم متربص وترف عظيم"
تقولون لي "هذه خير نعمة و يمتن الناس لذلك"
حسنا وأنا ممتن لله إذ أجل استعمالي إلى أن أنضج أكثر
أترى لو أنك تدرعت واستللت سيفك وهبطت إلى المعركة, ووحدها الريح من اقتربت صوبك وأنت تنتظر عدوا تقاتله في هالة لا تستطيع الخروج منها أو عنها والأعداء يدورون حولك تباعا دون أن تستطيع المساس بهم..
أهذا جميل؟ لا
إن كان سيفك مغمداً, أو لا تملك سيفا أساسا فهذا شأنك
أما أنا فإني أرى هذا الجمود ابتلاء!

كما يقولون" شر البلاد بلاد لا صديق بها"
وأنا هنا كطير بلا جناحين في فلاة, بدون قفص ولا غصن ولا أشجان.. ولا صديق
رفيق الدرب جزء منه, وأنا أسير إلى الحرية بطريق معبد بالوحدة, لا أحد ينصت إلي سوى قلبي ولا أحد يحادثني سوى عقلي..



كل الأوطان غدت أعشاشا, وكل السماوات ترعد دون توقف, وكل الأحرار صاروا طيورا مكسورة الجناح
وكل الأراضي للهاربين من أوطانهم أوطان.
هوة بيني وبينه, فأنا ابن الحرب, ابن ألم الاحتلال, ابن القدس, هو لاجئ وحسب.!
لكني أنا اللاجئ على شطآن بحر تجربته, فهو ابن الملحمة, ابن الكيماوي وكل الأسلحة المحرمة دوليا
أنا اللاجئ وهو بار تمنّى بمثله الأوطان!.
خافوا علي.. خافوا علي من ندبة وسمت جبينه, من جبروت احتل عينه, من صليب عُلّق على رقبته لم يضعه ولم ير من وضعه لا يربطه إلا بمدفع أخذ أحبته ولم يبق له سواه رابطة على أنه يوما كان ابن عائلة, لا يربطه حتى بلسانه الذي كبر به كلما أخرج طفلا من أسفل الركام.
لم يكن ذنبه أن غبار الحطام هو من رباه.. وشعث الصعب ينشئ جبالا, جبالا لا يضاهيها قوة إلا إيمان اعتمر قلبا.
كان شاب السن شيب العمر, إن تنظر دفاتره وسجلاته تجد ما اجتاز عقده الثاني, لكن إن تنظر سجل الحياة تجد جاوز الألف ندبة, الألف ألف سوط ولسعة.
يراني قِطواقا( ) صغيرا, مع أن الفارق بيننا لا يكاد يذكر,
وحين أحاول صب الإيمان في قلبه لا أجد إلا الحرية تعبئ كل مقاعده و تغلق نوافذه, حتى بدا ذلك بحد ذاته أسراً..!
يوما في خضم حماسي قرأت قوله تعالى" أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ۚ وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ ۗ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَىٰ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)"
قيل لهم كما قيل لي ولكل من مثلي أن قوموا بما عليكم من تفاصيل صغيرة وكبيرة, خافية أو ساربة, فتعجلوا الاستعمال في وقت التربية, وحين رأوا أنفسهم في أرض المعركة دب الخوف في أوصالهم و وجدوا سيوفهم التي يحملونها لن تُغير عنهم ولن تغني عنهم ما دامت قلوبهم خاوية! " لولا أخرتنا إلى أجل قريب" لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ ۗ كما أقول لنفسي في كل مرة أحاول فيها أن أُفنّد ذبذبة اللاجئ وأعثر بظلي.. لولا أحطت بذلك أكثر قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَىٰ
لا أتردد كثيرا وأفرغ كل ما بجعبتي غير آبه بانزياح متاع من الدنيا لكلمة قلتها.. فالتردد ورم خبيث.. لكن التقوى شيء آخر
وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا
مكانك الذي وضعت فيه والثغر الذي أنت عليه لم يظلمك الله بوضعك فيه.. مكانك صحيح ولا ينتابه الزلل بأقل من فُتات الممحاة التي تزيل بها زلاتك الكثيرة..
ولكن في هذا الوقت الذي من المفترض أنه وقت تزويدك بالروح لتستطيع مجابهة الحياة, أنت لست في منطقة رمادية
وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24)
لا مكان هنا لمنطقة ساكنة متعادلة.. من لم يكن في زيادة فهو في نقصان وهذه قاعدة مهمة علينا إرساؤها في ميناء عقولنا. (من لم يكن في زيادة فهو في نقصان)
حسنا أين كنا؟
تحت ظل شمس مدينتنا-الأقصى- كنت أشتكي له عن حالي" النوم هو الشيء الوحيد الذي لا يجعل أحدا يغضب مني"
هو نادر الضحك هول ما رآه أسدل على ثغره ألحفة من جمود, نطق بثقل بعد وهلة" عائلتي أيضا كانت كذلك"
ببلاهة سألته" كيف؟"
بجذالة أجابني" لم تكن سوى كغيرها تخشى الحرية أن تتردد بين جدران بيتها, لكني أذكر بوضوح دعاء قد علمه جار مسلم لوالدي" ربنا أعنّا على الصيام والقيام و إبادة الظلام"
قلت محاولا اختلاق حديث معه "هل تكرههم؟"
"هؤلاء المجرمون سفلة الأرض, لا تحدثني عن بني إسرائيل, هي لا تملك الوحشية الكافية لفعل ما يفعلونه, وجودهم يجعل الأرض في حالة اشمئزاز دائم منهم, وجودهم يجعلنا ظلاما ونحن خارج سجونهم, نحن لو نلتف حولهم كرها لا تملقا لاقتلعناهم من جذورهم, ما فعلوه مظلمة بحق آدم, فهم الوحيدون الذين لا ينتمون لأي فئة كانت إلّا أنهم جزّارو الأبالسة"
جافيت حاجبي عن عيني" ألهذا الحد وجودهم جريمة؟"
التف إلي حنقا "نحن جيل كامل جعلوا أجنحته جريمة, بحقك أليس وجودهم جريمة؟!"
ابتعدت عن عينيه البارزتين فزعا" بلى.. أنت محق"
أكمل" لكني أعيش في مأزق حقيقي, لي قلم لا قوة لي عليه, ولي إذ ما استمررت بهذا الشكل عذاب آخر لا قوة لي به ولن أحتمله, إنهم يزجرونني باستمرار, لو يعلمون ما أكتبه.. ما اقرأه وأتحدث به لجعلوا من جلدي محكّا لكل هذه الحجارة التي تفرش الطريق يا نورس"..




جيئة وذهابا, عودة وإيابا , مرارا وتكرارا جادلته, لديه رأس يشبه الصوان بل أكثر شدة .
بعض أبناء الحرب حُجرات دواخلهم هدّمت, حتى سدّت كل المنافذ لدخول الضوء, ألا إن نارهم لا تكفي وتخنقهم في أنفاسهم!
على وشك ذهاب لم يبلغ الرحيل , اللاجئ كان ومضة.. نجمة! ظلها لازال موجودا لكن حقيقتها أفلت منذ آلاف الخيبات.
لم آت إليه لأودعه بل كل ما كنت أود أن أفعله هو أن أحاول استئصال الجمرة من داخله .
بأصابعي هذه قطعت عنقه, قصدت عقده وعنق الثعبان الذي ينفث دخانه في عيني نجمي
حشرت العقد في جيبي ونظرت في عينيه هامسا" أنت نجمي الذي أريد له النور لا النار, الحرية الصائبة هي النور.. الله هو النور! أتفهم؟؟"
بان ضاحكه لأول مرة بعد أن وكزني في كتفي" أعدك , وأنت فلتكن حراً أيها النورس العزيز"
لم يصفني بالصغير كما يفعل دوما!
اختبأت وراء كتبي وأنا أرى مؤشر أيامي حط على الثامنة عشر شتاء.. باردا .. جافا..
فيه نجم وحيد واسم حسن، فيه اللاجئ .. والنور
وحين قررت أن أكون حرّاً شعرت بأني وضعت يدي على كنز ثمين, وأشفقت على كل من لا يزال يكمل حياته بدون هذا السر العظيم!
كنت أتلو القرآن فلا يكاد يخلو وجهٌ منه من الأسماء، عرفت أن لذلك شأناً عليّاً عليّ دركه.


0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.