انصرفتا عنها ساخطتين، بينما وقف هو بعيدًا يتطلع لها بقلق، ولكنه عقد ما بين حاجبيه بدهشة وهو يرى تلوث ما حول حاجبيها بلون بني داكن بينما بدا حاجبيها أخف لونًا من المعتاد وهو الذي لم يلاحظ استخدامها لأي أدوات الزينة من قبل.
**********
في غرفة أنيقة تدل على ذوق رفيع استلقى أحمد فوق فراش وثير، كانت ملامحه عابسة؛ شارد الذهن يسترجع وهنها الشديد وترنحها أمامه دون أن يستطيع أن يقدم لها يد المساعدة؛ خوفًا من تصرفاتها الطائشة ونفورها الذي لا يعلم متى تولد ولما، ففي بداية عملها معهم بالعام الماضي كانت كنسمة صيف ناعمة، داعبت قلبه برقتها فهونت عليه حرارة الوحدة ورتابة العمل حتى صارت محط اهتمامه بل لقد تصور أنها تبادله الاهتمام حتى أوشك على مصارحتها بمشاعره، ولكن قبل أن يفعلها تحولت النسمة لعاصفة حارة تلفح قلبه بنيران المشاغبة والتحدي، ورغم أنه لم يستطع معرفة أسباب تغيرها المفاجئ ولكن قلبه آبى أن يصدق أن السبب هو رفضها لاهتمامه، فما كان عليه وقتها سوى البعد دون إساءة، ولكنها تصرفت وكأنما تتمنى أن ينفر هو منها؛ حتى لا يتألم لرفضها، وكان هذا كافي ليزداد فضوله واهتمامه وأن تظاهر بالعكس.
زفر بقوة وهو يتذكر كم كانت مختلفة اليوم، كانت عينيها غريبة وغامضة، لم يكن يشعر بنفورها ولكنها أيضا لم تحمل له ذلك الإضطراب الذي ينعش الأمل بقلبه، كانت كمن تبثه رسالة عجز عن فك شفرتها.
تململ في فراشه يشعر بالعجز لعدم قدرته على التواصل معها والاطمئنان على حالها، فاستقام ليلتقط هاتفه متصفحًا حسابها الشخصي ربما وجد ما يطمئن قلبه، لينعقد حاجبيه بحيرة وهو يرى عدة تعليقات تشيد بإنجازها اليوم بمعسكر التصوير وتتنبأ لها بفوز ساحق.
لم يفهم ما يحدث، وكاد يوعز الأمر لسوء فهم من المعلقين ولكن ردها المرحب بتلك التعليقات كاد أن يصيبه بالجنون، ليحسم أمره وهو يفتح الصفحة الخاصة بالمسابقة، وسرعان ما اتسعت عينيه وفغر فاهه في صدمة وهو يرى بعض اللقطات المصورة لفاعليات معسكر التصوير، والتي كانت تتصدر هي معظمها، بل أن بعض من تلك اللقطات كانت موقتة، وكان توقيتها يوافق وقت تواجدها تحت عينيه بالمكتب.
***********
ابتسم أحمد بخبث وهو يرى فيفي تدلف للمكتب صباح اليوم التالي بكمامتها الطبية، بل لقد زادت عليها بأن لفت يدها اليمنى برابط طبي ضاغط، زادت ابتسامته وهو يتأكد من تخمينه بالمساء بأن ترنحها المفاجئ كان بسبب طلبه لتوقيعها الذي احتاطت له اليوم بهذا العارض المزعوم، لتنتقل بسمته المتهكمة لنبرته تلقائيًا بلا وعي: سلامة دراعك يا آنسة فريدة، من أيه ده؟
أجابته فيفي ببساطة: وقعت على السلم امبارح.
اندفعت سمر معلقة: وهي وقعة على السلم تكسر أيدك بالشكل ده، واضح أنك مش متأسسة كويس وده غلط أصل البنت مننا محتاجة صحتها عشان الحمل والولادة، ولا أيه يا رباب.
أسرعت رباب تؤكد قولها، مما أفقد أحمد السيطرة لتنطلق ضحكته المدوية مما أثلج صدريهما، فلأول مرة لا يوبخهما ويذود عنها، بينما لم تبالي هي بالجميع وهي تجلس لمكتبها بهدوء متظاهرة بمراجعة بعض الأوراق.
تمالك هو نفسه سريعا، ليتنحنح وهو يحاول أن يخرج نبرته طبيعية: آنسة فريدة امبارح لما تعبتي مامضتيش التقرير، ممكن تمضيه دلوقتي.
وكما توقع انطلق سعالها فجأة وهي تتحدث بتلك النبرة المتحشرجة: آسفة يا أستاذ أحمد مش قادرة أحرك أيدي عشان الواقعة لسه جديدة، ممكن على ما نرجع من الاجازة أول الأسبوع يكون هدي شوية وأمضيه بإذن الله.
ابتسم ببساطة وقد ايقن بأن ماكينة السعال تلك بنبرتها العملية ليست معشوقته الحالمة؛ لكنه تجاهل الأمر وهو يغمغم: بإذن الله.
لم يحاول مجاذبتها أطراف الحديث ثانية، ولكن ذلك لم يمنعه من مراقبتها ليبتسم بخبث وهو يلاحظ استخدامها لذراعيها بطريقة طبيعية دون انتباه، لتشتعل عينيه بقوة حين تلقى إشعار بوصول رسالة لهاتفه ليفتحها متحمسًا لتزداد عينيه اشتعالًا بعدما أطلع عليها، بل اشتعلت أعصابه كلها وهو ينتظر تلك اللحظة التي سيواجهها بها، وبمجرد أن حان موعد استراحة الغداء واستقمن ثلاثتهن للمغادرة امتدت يده تحمل ذلك التقرير متظاهرًا بالجدية: ثواني يا آنسة فريدة، البند ده متجمع غلط (توقفن ثلاثتهن، ولكنه أكمل بلهجة آمرة) اتفضلوا أنتم، ثواني وهتحصلكم.
انصرفتا ببطء وتذمر خفي من تركهما بمفردهما ولكن لما تجرؤا على الاعتراض، ليترك هو التقرير يسقط فوق المكتب بلا مبالاة وهو يستقيم ليقف بمواجهتها، متحدثًا بصوت قويٍ آمر: أنتِ مين؟
لم تهتز بها شعرة وكأنها كانت على علم بانكشاف أمرها حتى أنها أجابت دون افتعال السعال: أنا فريدة المنصوري.
ارتفعت يده حاملة هاتفه موجهًا شاشته لناظرها حيث تبث لقطات مباشرة لفريدة المنهمكة بالتقاط الصور: لو أنتِ فريدة المنصوري، تبقى دي عفريتك مثلا؟
احتفظت بثباتها الانفعالي وهي تجيبه باسمة: تصدق ممكن.
لم يكن لديه النية للمناورة، لذا تحرك حول مكتبه متجاهلًا لها وهو يتجه نحو الباب يشغل معظم فراغه بجسده القوي، لتزداد نبرته قوة رغم خفوتها: للأسف معنديش مزاج النهاردة للعب العيال، عشان كده يا تجاوبيني حالًا ياأما هأعلي صوتي والزمايل يتجمعوا يشوفوا أنتِ مين بالظبط؛ (بلهجة تحمل التهديد والتحذير بنفس الوقت) وخلي بالك الموضوع وقتها مش هيبقى هزار؛ ده يبقى انتحال شخصية وتزوير في أوراق رسمية بما أنك كنت بتمضي بدفتر الحضور.
راقب صمتها الهادئ الذي أوحى له أنها لم تأخذ تهديده على محمل الجد، أو أنها تثق بأنه لن يفضح أمرها، فأدار وجهه لخارج الغرفة وأطلق صوته الجهوري يهدم ثقتها وهو يهدر بقوة: يا سيد، أنت يا سيد.
ورغم ثقتها بأنه لن يؤذي فريدة، لكن صياحه الغاضب أرجف أوصالها لتهتف دون وعي: أنا فريدة محمود المنصوري، جدة فريدة يحيى ابراهيم محمد المنصوري.
طالعها بذهول أفقده النطق، لينتزعه من ذهوله ذلك الشاب المهرول وهو يردد متوترًا: أؤمرني يا أستاذ أحمد.
سعل يجلي صوته محاولًا استحضار لهجته الغاضبة: كام مرة يا سيد قولت لك تفضي باسكت مكتبي كل يوم.
غمغم سيد معتذرًا، وهو يتحرك بهمة، مستعجبًا من حدته المبالغ بها: آسف يا أحمد بيه، هافضيها حالًا.
زفر أحمد بضيق ناويًا استرضاءه فيما بعد فخطأه لا يعادل ثورته، ولكن لينشغل الأن بما تفوهت به تلك المجنونة، صحيح أنه قد أعد نفسه لأغرب المبررات وأسخفها ولكنه لما يفكر للحظة أنه قد يسمع منها مثل تلك الترهات، ليلتفت محدقًا بها كمن يتطلع لمختل وهو يغمغم : أنتِ مجنونة.
وكأنما اعترافها قد وضعها بمكانتها الطبيعية كسيدة وقورة وجدة، لتهمس بلهجة آمرة وهي تخرج تلك الهوية من حقيبتها تشرعها أمام عينيه: أتلم يا ولد، باقولك أنا مدام فريدة محمود المنصوري، جدة فريدة يحيى ابراهيم محمد المنصوري، عايز تصدق صدق مش عايز أنت حر.
تطلع لهويتها ليختطفها من يدها ينظر مشدوهًا لسنة الميلاد، ينقل بصره بينها وبين هويتها بعدم تصديق، ولكن سرعان ما هدأت أنفاسه المتلاحقة، لينظر لها بحدة وهو يضع الهوية بجيبه، وهو يأمرها بحزم: بعد ربع ساعة من ميعاد الانصراف تكوني مستنياني في المطعم اللي جنب الشركة، وإلا متلوميش إلا نفسك.
لم يمهلها الرد، لينسحب للخارج محاولًا أن يجمع شتات نفسه بعد ما سمع.
بينما هي تطالع انصرافه براحة متنفسة الصعداء وكأنها كانت تهدف لتلك المصارحة، أخرجت هاتفها وقد عقدت حاجبيها بعزم، بينما ابتسامة متلاعبة تسكن شفتيها.
**********
انتظرها بالمطعم وقد زاد عجبه، فبرغم غرابة تصريحها وموقفها إلا أنها عادت للمكتب بعد انقضاء فترة الاستراحة بهدوء نفسي غريب، وكأن ما قالته كان عبء ارتاحت وقتما أزاحته عن قلبها لتثقل به كاهله، وبشكل تلقائي كرجل متحضر استقام بمجرد اقترابها منه، ليرى تلك الابتسامة المستحسنة لسلوكه الراقي بينما عقد هو حاجبيه بضيق وهو يلاحظ ذلك الكهل الوقور الذي يرافقها، ليزداد ضيقه وهي تبتسم له بثقة مردفة بخيلاء: ميرسي، اتفضل أقعد.
أزعجته ثقتها بنفسها، وكذلك اصطحابها لهذا الرجل الذي يخيل له أنه يعرفه، لذا اتخذ موقف هجومي؛ يوضح لها بأن وجود مرافقها لا يشكل أي فارق لصالحها، ليردف بتهكم متعمد: رغم أني مقولتلكيش تجيبي حد معاكي، بس مفيش مشكلة، ياريت بقى ننسى التخاريف اللي قولتيها بالمكتب، وخلينا في فيلم كده رضا اللي احنا فيه، لأني عارف أن فريدة ملهاش توأم، ولا ليها أخوات من أصله، وأكيد باباكم مسمكوش بنفس الأسم عشان الجيش مثلا.
ارتسمت تعابير غاضبة على وجه مرافقها لأسلوبه معها، ولكنها أشارت له بالهدوء وهي تبتسم لتأكد حدسها عن اهتمامه بحفيدتها، لتتسائل بثقة: وأنت ليه بتسأل عن فيري، وتجمع معلومات عنها.
زاد انزعاجه من طريقتها، فاحتدت نبرته تلقائيًا: المفروض أني مش جاي عشان تستجوبيني، أنا جاي عشان أنا اللي أسأل وأنتِ اللي تجاوبي، وأول سؤال هتجاوبيني عليه من غير لف ودوران، أنتِ مين؟
زفر مرافقها بضيق: اتكلم كويس، والزم حدودك.
نظرت لمرافقها آمرة بأدب: من فضلك يا يحيى، أنت وعدتني أنك هتسيبني أنا أتكلم معاه، أنا كلمتك بس عشان مينفعش أقعد معه لوحدي مهما كان فرق السن، وعشان مكنش ينفع تكون بره الصورة.
ولعجب أحمد أطاعها الكهل بتوقير، بينما غاصت هي بمقعدها براحة، وهي تجيب سؤاله ببساطة: أنا مدام فريدة محمود المنصوري، وياريت تبطل رغي لو بجد عايز تعرف الحقيقة.
تبسم متهكمًا لأسلوبها ومع ذلك، بسط يده مشيرا لها بالاسترسال: اتفضلي، كلي أذان صاغية، بس ياريت نبقى منطقيين شوية.
ابتسمت غير مبالية بتعليقه الأخير وهي تردف: أنا فريدة محمود المنصوري، جدة فريدة وعندي ستين سنة.
ردد مذهولًا من نطقها للأمر وكأنه أمر طبيعي رغم مظهرها: ستين سنة!
أمأ رفيقها مؤكدًا حديثها وهو يشرع بوجهه ورقة ما: كده حضرتك عرفت هي مين زي ما كنت عايز، وده تقرير طبي معتمد بحالتها؛ افتكر الموضوع انتهى لحد كده.
اتسعت عينيه بصدمة وهو يطالع كلمات التقرير المبهمة بالنسبة له؛ قبل أن يصيح معترضًا باستهجان: حضرتك شايف أن ده تفسير كفاية؛ الورقة دي لوحدها عايزة تفسير.
كاد الكهل أن يتفوه بجملة عصبية ما؛ إلا أنه ابتلعها عندما أشارت له بالصمت؛ وهي تردف بهدوء: عايز أيه بالظبط يا أحمد.
بسط يديه وهو يجيبها بحيرة ورجاء: أفهم.
استرخت بمقعدها متجاهلة سخط الكهل الجلي وهي تخبره ببساطة: زي ما قولتلك؛ أنا فريدة محمود المنصوري، أتولدت في بلدنا *** جدي كان شيخ قريتنا وكان عنده كتاب بيحفظ فيه قرآن.
اعترض مرافقها بصوت هادئ وأن لم يخفي استياءه: أنت هتحكيله قصة حياتك يا فيفي.
أكملت وكأنها لم تسمعه؛ ولدهشة أحمد استسلم الكهل لرغبتها صاغرًا: جدي مخلفش غير والدي وعمي محمد والد ابراهيم جوزي، أنا وابراهيم اتوعدنا لبعض من يوم ما أنا اتولدت (ابتسمت بحب يوشي بأن الأمر لم يكن مجرد فرض عائلي) اتجوزنا أول ما كملت خمستاشر سنة زي معظم البنات وقتها، وخلفنا يحيى ابننا بعد تسع شهور بالظبط وبعدها بسنتين خلفنا بنتنا ثريا.
سألها وقد بدا انجاذبه لما تقصه عليه: يحيى ده اللي هو والد فريدة.
أومأت له إيجابا وهي تمسك يد مرافقها بحب بينما هو يرفع يدها ليقبلها بحنان: أيوه ابن عمري وأول فرحتي، ربنا كرمني بيه هو وثريا وفضلوا منورين حياتنا الهادية لحد ما وصلت لخمسة وتلاتين سنة.
صعق وهو يتذكر من أين له بمعرفة الرجل، ففريدة تنشر صورته دائمًا معتزة بأبوته لها، وانتبه الأن بأن مجالسته تلك نادته بيحيى، ليغمغم بصدمة: حضرتك مهندس يحيى والد فريدة؟ ودي والدتك؟! (أمأ له مبتسما، فانتبه لكلماتها ليتسائل بفضول) أيه اللي حصل وقت ما وصلتي لخمسة وتلاتين سنة؟
ابتسمت بمرارة: كلمتين، كلمتين بس من واحدة فاضية قلبوا حياتي وحياة ولادي.
أزداد فضوله وحيرته متسائلا: كلمتين أيه؟
تحولت بسمتها لضحكة وأن حملت نفس المرارة: أني مخاوية، أيوه مخاوية يعني مسخرة جن وكده، وقتها كان شكلي أصغر من سني بكتير ولا بان علي سن ولا حمل ولا ولادة، والاشاعة كبرت والناس خافت مني ومعظمهم قطعوا علاقتهم بعيلتنا وقتها.
ردد بحيرة: معقول في ناس صدقت التخلف ده!
ابتسمت بحكمة سنين لم تحمل ملامحها آثارها: صدقوا لأنهم كانوا محتاجين يصدقوا، اللي شكلي بقى أصغر منها بكتير مع أننا نفس السن، اللي اتجوزت وقعدت في البيت وشايفاني كملت تعليمي زي ما بابا اشترط على ابراهيم قبل جوازنا، رغم أني مخلفة زيها، واللي شايفة أن حب الناس ليا مش طبيعي لأنها بتكره حتى نفسها، كل دول محتاجين يصدقوا أن فأيدي قوى خفية، لأنهم معندهمش استعداد يعترفوا أنهم غلطوا في حق نفسهم أو حتى أن غيرهم مميز أو مختلف.
احتد مستنكرًا: وعشان نفسهم المريضة، يقلبوا حياتك وحياة ولادك، زي ما قولتي؟
ارتسم الألم على ملامحها وكأن الذكرى أعادتها لمعايشة معاناتها ثانية، بينما ابنها يربت على يدها وكأنه يعتذر عن غيابه وقتها: ثريا أكتر واحدة عانت؛ كل صاحباتها بعدوا عنها وقاطعوها، لكن يحيى وقتها كان في كلية الهندسة في القاهرة.
تألم قلبه للألم المرسوم على ملامح حبيبته وأن لم تكن هي فأراد انتزاعها من أحزانها وأن يذكرها بنهاية مآساتها فتمتم بحنان: والإشاعة دي انتهت امتى وأزاي؟
لانت ملامحها فعلا وهي تجيبه بهدوء: دكتور شاكر ابن عمي وأخو جوزي الكبير.
انعقد حاجبيه وهو يستجمع الأسم، ليصيح منبهرًا: دكتور شاكر المنصوري!
ابتسمت بفخر: أيوه هو، دكتور شاكر محمد المنصوري، طول عمره كان متفوق، أيامها كان في بعثة للندن بس مكنش مشهور زي دلوقتي طبعًا، وقتها كان عرف الموضوع من جوزي (زفرت بحزن وكأن ما حدث كان انفراج هم وحلول أخر) فضوله العلمي اشتغل واتعرف على دكتور كبير بره مهتم بالحاجات اللي زي دي، وفعلا الدكتور ده نزل معاه مصر لما سمع بحالتي لأنه كان قرأ عن بعض الحالات زي حالتي بس عمره ما اتعرضت عليه حالة فعلية، وفعلا جه وسافرنا القاهرة وعمل الفحوصات الطبية على حسابه حسب الامكانيات المتوفرة وقتها.
سألها بلهفة لم يحاول إخفاءها: والنتيجة كانت أيه؟
أجابته ببساطة مصابة بنزلة برد: خلل جيني بيوقف السن عند مرحلة الشباب، ويمنع علامات كبر السن.
فغر فاهه مشدوهًا قبل أن يصدر صفيرًا منبهرًا: وواووو، يا بختك، أنت مش بس خلصتي من لعنة الإشاعة، ده أنت كمان ربنا رزقك بحلم كل ستات العالم تقريبًا.
نظرت له كمعلمة خيب تلميذها أملها: للأسف الكل بيفكر زيك كده، ومع ذلك الأمور مبتمشيش كده خالص.
انزعجت ملامحه وهو يسألها بدهشة: أزاي يعني، مش عرفتم سبب المشكلة، وطلعت مفاجأة حلوة كمان.
زفرت بضيق من ذكاءه المحدود: ماقولتلك الناس صدقت عشان عايزين يصدقوا وفي كل الأحوال هما عايزين يبعدوا خصوصًا بعد ما ستات البلد عرفوا أني هافضل وسطهم زي ما أنا وهما بيكبروا.
تسائل أحمد بفضول: طيب ليه تفضلي شباب، أنت مبتكبريش؛ يعني المفروض تفضلي طفلة.
وكأن استعادة الذكرى قد أنهكت قوى فيفي وألجمت لسانها فتكفل يحيى بالرد: لا دي حالة طبية تانية اسمها متلازمة لارون Laron syndrome أو فشل النمو وده مرض وراثي بيسبب خلل في استقبال هرمون النمو وعشان كده المصابين بيه بيكونوا قصيرين وملامحهم طفولية حتى بعد سن البلوغ.
لتعود فيفي للإمساك بزمام الحديث بعدما استعادت رباطة جأشها: لكن احنا معندناش مشاكل بالنمو، مشكلتنا الحقيقية في أننا غير معرضين للشيخوخة.
ليكمل يحيى محاولًا إنهاء ذلك الموقف السخيف الذي وجد نفسه به: احنا طبعًا عارفين أن الموضوع مش سهل خصوصًا بالنسبة لواحد بيسمع عنه لأول مرة، والحقيقة مكنش المفروض أن حد يعرفه أصلًا، (ناظرًا لوالدته نظرة عاتبة) بس أعمل أيه وماما مدلعة فيري ومابتقدرش ترفض لها طلب.
لم ينتبه بحديث يحيى كله سوى لاسم محبوبته؛ ولا يعلم لم ربطه لاإراديًا بصيغة الجمع بحديث جدتها؛ رغم أن الأكثر منطقية أن ذلك الجمع يعود على المرضى؛ ولكن الأمر كله غير منطقي؛ وتلك الجدة تبدو كمن تبثه رسالة خفية منذ لقاءهما الأول؛ كا أن تصرفات فريدة اللامنطقية نحوه لايبررها إلا سبب لامنطقي هكذا؛ لذا وبدون وعي تمتم متسائلًا بصوت مرتعش وهو يزدرد لعابه: هي فيري عندها نفس الموضوع ده زي جدتها.
لم تكن هناك إجابة أبلغ من ارتجاف يد والدها وصدمته الجلية بينما تناقضت انقباضة ملامح فيفي مع اشتعال عينيها الظافر؛ ليكن التأكيد الأكبر هو تشتت يحيى الذي حاول الرد بثبات ولكن خذلته الكلمات: أصل... بس...
رغم أن سؤاله ينبأ عن شكه بالأمر ألا أن اليقين من شكه كان فوق احتماله؛ لتتسع عينيه بصدمة وهو يتطلع لهذين الجالسين أمامه وكأنهما كائنين خرافيين، ليستغل يحيى صدمته لاستجماع شتات نفسه؛ واسترجاع هدوءه وهو يخبره متجاوزًا تلك النقطة الأخيرة بمصاب ابنته: أنا عارف طبعًا أن الشغل ملوش دعوة بالحوارات دي، وأنهم اتصرفوا غلط وحضرتك ممكن تاخد أي إجراء تحبه، بس ليا رجاء عند حضرتك.
تمتم أحمد بروتينية دون استعادة حقيقية لكامل تركيزه بعد صدمته تلك: اتفضل حضرتك.
تنحنح يحيى قائلا: أتمنى محدش غيرنا يعرف حاجة عن اللي دار بينا، وبالنسبة لحق الشركة ممكن تاخد الإجراء اللي يناسبك، ممكن توقع على فيري جزا لأي سبب، ولو حتى عايزها تقدم استقالتها انا هاخليها تعمل كده.
كنت تلك الكلمات كفيلة لأن يستعيد أحمد كامل رشده، فكيف يحرم من وجودها، خاصة بعد معرفته بسبب بعدها وإبعادها له عن حياتها؛ ليندفع رافضًا ذلك الاقتراح: لا طبعًا الموضوع مش مستاهل، وبعدين السنة تقريبًا خلصت وكام يوم ورصيد الأجازات الجديد ينزل؛ كفاية تمضي يومين أجازة وتيجي فيهم الشغل ، وبالنسبة للكلام اللي دار بينا دلوقتي، وعد مني لحضرتك كأني ولا سمعت حاجة.
أمأ يحيى موافقًا: مفيش مشكلة، أول ما الرصيد ينزل هتيجي وتمضي لك اليومين.
أسرع أحمد معقبًا: لا متخليهش تجيني، أي يوم أغيبه تمضيها هي من الإدارة، وتيجي عادي بعدها، وبعد إذنكم ياريت فريدة متعرفش أني عرفت موضوعها هي وجدتها.
أعترض يحيى رافضًا: أزاي يعني، أنت عايزني أخدع بنتي.
ترجاه أحمد بأدب: بعد أذن حضرتك، ده رجائي الوحيد.
أصر يحيى مؤكدًا: آسف يابني، مقدرش أعمل كده في فيري، لو عرفت مش هتسامحني، ولو هو ده شرطك، فأنا بحلك من وعدك، وفيري هاتقدم استقالتها بكرة الصبح.
مجرد تصوره أنه قد لا يراها ثانية أفقده السيطرة على أعصابه ليندفع مهددًا: ياترى المدام وهي بتطلب من حضرتك تحضر المقابلة، بلغتك أن بطاقتها في جيبي، وأن اللي هي عملته قانونًا أسمه انتحال شخصية وتزوير في أوراق رسمية بما أنها كانت بتسجل الحضور.
طالعه يحيى بإزدراء، قبل أن يقول ببساطة: براحتك، بس أنت كمان مش واخد بالك أن النهاردة الخميس ومن هنا ليوم الحد هتكون فريدة رجعت وساعتها حتى لو اثبت وجودها في مكانين ممكن تكون جدتها هي اللي راحت المسابقة وساعتها هتستبعد مش أكتر.
زفر أحمد بضيق واضعا هوية فيفي فوق المنضدة لا يتخيل أن يصل الحوار بينهما لهذا التدني: أنا أسف والله ماكنت بهدد بجد ولا بحاول ابتزك، أنا مدرتش بنفسي لما قولت أنك هتخليها تستقيل، بس والله وعدي لحضرتك مستمر حتى لو حلتني منه، والكلام اللي حكيتهولي مش هيخرج لمخلوق بجميع الأحوال، بس أنا بترجاك تسيبها في الشغل ومتعرفهاش أني عرفت الحقيقة.
لمس يحيى صدق حديثه فابتسم مقدرًا: تسلم يابني، بس برضو مينفعش أضحك على بنتي وأخليها تتعامل معاك زي الأول وهي متعرفش أنك عارف، عن أذنك.
أمتدت يد يحيى تمسك بمقعد والدته، التي كانت تراقب الحوار منذ البداية بصمت، وقد ارتسمت ابتسامة خفيفة على ثغرها، لتتسع تلك الابتسامة وهي تستمع لصوت أحمد المندفع: عمي أنا بحب فريدة وطالب أيدها من حضرتك.
التفت له يحيى بدهشة: أيه!
أكمل بنفس الاندفاع وكأنما يخشى العودة للوضع قبل اعترافه: أنا بحب فريدة من قبل ما أعرف بالكلام ده وهي بعدت لما وصلها إحساسي، أنا وقتها افتكرتها رافضاني، لكن بعد كلامنا عرفت سبب بعدها، وخايف لو عرفت أني عرفت تقدم استقالتها.
تحشرج صوت يحيى أمام اعترافه وهو يشير لوالدته بالنهوض: آسف يابني، بس برضو ماقدرش أعمل كده في بنتي.
كاد أحمد أن يتفوه بكلمة ما ولكن سبقه صوت فيفي الآمر وهي ترفض القيام: أقعد يا يحيى، (قرأت اعتراضه بعينيه فشددت بأمر) أقعد.
أطاعها صاغرًا، وهو يهمهم باعتراض: مينفعش أعمل فيها كده، الموضوع منتهي يا فيفي.
أجابته بحدة: وأيه اللي نهاه، عجبك عندها وتفكيرها المتخلف والرهبنة اللي قررت تعيشها.
احتقن وجهه بشدة أمام حدتها، ليجيبها بصوت متحشرج: لا طبعا مش عاجبني، بس...
قاطعته زاجرة: مبسش، لو هي مش عارفة مصلحتها احنا عارفينها ومش هنجبرها على حاجة وبعدين الولد كويس.
كان أحمد منذ حديثها يتمالك نفسه بالكاد عن الضحك وهو يرى أسلوبها مع يحيى وانصياعه لها رغم مظهره كوالد لها، لكن ما أن نعتته هو بالولد، حتى انفجر ضاحكًا، لتنظر له شزرًا: شبعت ضحك ولا أقوم قبل ما أقولك أزاي هاديك فرصة تقرب منها وتقنعها بمشاعرك.
كف عن الضحك فجأة والتمعت عينيه بسعادة وهو يهتف: بجد.
طالعت لهفته الصادقة بابتسامة وقد التمعت عينيها بشدة.
***********
غادرت فيفي المطعم بصحبة يحيى الذي أغلق خلفها باب السيارة باحترام ليحتل بعدها مقعده أمام المقود ليتحرك ببطء وهو يخبرها متوترًا: أنا قلقان من اللي هنعمله ده يا فيفي؛ مش عارف أنا طاوعتكم أزاي؛ متخيلة هيحصل أيه لو فيري عرفت.
لتزفر بضيق وهي تجيبه: ومتخيل أنت هيحصل أيه لو فضلت راكبة دماغها وموقفة حياتها بالشكل ده.
ليجيبها بتردد: أيوه بس ده مش مبرر أننا نخدعها بالشكل ده وندبسها في أي جوازة والسلام.
لتخبره بثقة: مش أي جوازة والسلام؛ بنتك بتحبه يا يحيى.
ليهتف متبرمًا وهو ينظر للطريق أمامه: بصراحة مش عارف جايبة الثقة دي منين؛ منكرش أن الولد ساب عندي انطباع كويس؛ بس مش للدرجة دي يا فيفي.
ليستطرد متذمرًا لتجاهلها اعتراضه على الاسترسال بحديثها معه: ده أنت فتحتي له قلبك على الأخر؛ لا وقعدتي وفضفضتي وحكتيله قصة حياتنا.
أردفت متبرمة بسخرية: معلش بقى يا يحيى كبرت وخرفت.
ذم شفتيه بإستياء وهو ينظر لها معاتبًا على تأويل حديثه ما لا يحتمله؛ قبل أن يشيح نظره مركزًا على الطريق أمامه.
بينما أشاحت بوجهها تجاه النافذة بدورها؛ رغم علمها بأنه على حق وأنها لم تتباسط مع أحدهم على هذا النحو من قبل؛ حتى أنها لا تعرف السبب؛ ربما لحب غاليتها له، أو تأكدها من حسن خلقه من مواقفه السابقة وتغاضيه عن رعونتها معه؛ أو أملها في أن قصتها تخبره بمعاناة فريدة وتفسر له سبب نفورها كما حدث بالفعل، أو ربما أنه قد فاض بها الكيل وأصبحت تنؤ بسرها وتتمنى أن تبوح به لعلها تتخلص من ثقل الذكرى التي تثقل روحها وتقيدها؛ أو ربما ذلك كله.
غاصت أكثر بمقعدها، بينما تضغط كفيها بلا وعي وهي تنظر للطريق أمامها بأعين غافلة سكنها الحزن والألم؛ بما يوحي بأن تلك الذكرى التي أعادتها تلك المقابلة للغوص فيها كانت بداية لعنتها الحقيقية، وبدأت تسترجع تلك الأحداث كأنما تعاود معايشتها بمرارتها وقسوتها وبعضٍ من حلاوتها.
لتبدأ من منزل عصري أنيق لا يدل على وجوده بالريف سوى تلك الأراضي الزراعية مترامية الأطراف خارج شرفته التي تقف بها فيفي تحاور شابة بالعقد الثاني من عمرها: أنت اتجننتي يا ثريا؟!
لتجيبها ثريا متذمرة: اتجننت عشان وافقت على عريس متقدملي؟
زادت ثورة فيفي وهي تصيح بسخط: وهو ده يتقال عليه عريس يابنتي.
تـآففت ثريا بضيق: راجل واتقدملي يبقى عريس ولا مش عريس.
دلف إليهما رجل اربعيني وقور متسائلًا بقلق: في أيه يا فيفي، في أيه يا ثريا صوتك عالي كده ليه وأنت بتتكلمي مع مامتك.
التفتت له فيفي مستنجدة بلهفة: الحقني يا ابراهيم، بنتك اتجننت وموافقة تتجوز سالم.
همهم ابراهيم بدهشة: سالم مين؟
أجابته فيفي مندفعة: الزفت ابن العمدة اللي كنت بتحكيلي أنه اتقدملها امبارح، وأنك يومين وهتعتذرله من سكات لأنه مش مناسب، الهانم سمعتنا، وجاية تقولي أنها موافقة ومش عايزك ترفضه.
صاح ابراهيم بصدمة: موافقة على سالم؟!
أجابته ثريا ببساطة: ماله سالم، أيه اللي يعيبه؟
اندفعت فيفي صائحة، وهي تعد على أصابعها: قولي أيه اللي ميعيبوش، مش معاه غير دبلوم، ولا شغلة ولا مستقبل، أكبر منك بكتير، ده غير أنه طايش ومسنود على أبوه.
اندفعت ثريا مدافعة: شغله ومستقبله مضمونين، ده العمدة الصغير زي ما الخفر بيقولوله، وبعدين طبيعي أن الراجل يبقى أكبر والفرق بينا مش كبير قوي كده.
صاح ابراهيم بنفاذ صبر: أهدوا أنتم الاتنين، اصبري يا فيفي، وأنت يا ثريا مفيش جواز قبل ما تكملي تعليمك، ومتنسيش أنك ثانوي السنادي؛ فاهتمي بمذاكرتك أحسن بدل ما أنت مطلعة عينا معاكي.
أجابته بوقاحة: أديك حضرتك قولتها، مطلعة عينيكم، يعني منيش دحيحة زي يحيى، يبقى ليه مبدأش حياتي واتجوز، خصوصًا لو قدامي فرصة زي دي.
أجابها منفعلًا: وهي فين الفرصة دي يا بنتي.
التمعت عينيها بطمع: أنا سمعتك وأنت بتحكي لماما أنه عرض عليك فدانين مهر، ده غير أنه هيسكني في المركز وهيجبلي الشبكة اللي اختارها.
اجابها والدها بضيق: هو ده بس اللي سمعتيه، مسمعتنيش وأنا باقولها أن الحيوان عمال يتكلم عليكي وكأنك لعبة هيشتريها وأنك أكيد زي أمك، وأنه الوحيد في أهله، وفي البلد كلها بعدي اللي مراته مش هتكبر، وأنه هيعمل فرح تتحاكى عليه البلد كلها عشان الناس تشوفك وتشوف أمك ويعرفوا هو قد أيه محظوظ، وعنده اللي مش عند حد.
أشاحت بوجهها بلامبالاة مردفة: وأيه المشكلة، مامعظم الرجالة بتختار الست عشان شكلها وجمالها، وهو عايز ست حلوة وتفضل حلوة، وده حقه بدل معاه؛ بفلوسه ياخد اللي عايزها، والف من تتمناه.
صعقت فيفي بمنطق ابنتها لتهمهم بصدمة: أنت سامعة نفسك، أنت موافقة تبقي بيعة وشروة، مستعدة تسيبي تعليمك عشان واحد عايز يتمنظر بيكي، بدل ما تهتمي بحياتك وتبني مستقبلك وتبقي حاجة في وسط الناس.
صاحت ثريا بمرارة: أنهي ناس، الناس اللي مقاطعينا وبيطلعوا علينا اشاعات عشان غيرانين، يولعو الناس، أنا بكره هبقى ست الناس كلها لما ابقى مرات العمدة، لما يبقى معايا فلوس الناس هما اللي هيتمسحوا فيا بعد ماحسسوني أني جربة.
هدر صوت ابراهيم غاضبًا: أنت اتجننتي يا بنت، أنت بتعلي صوتك قدامنا، الموضوع ده منتهي، ومفيش جواز غير بعد ما تتخرجي.
اخفضت رأسها بطاعة ظاهرية بينما التمعت عينيها بنظرة مشتعلة توحي بأن الأمر لم ينتهي بعد، ولن ينتهي سوى على النحو الذي يرضيها.
..........
عرس ثنائي ضخم، حيث زفاف ثريا وعقد قران
شقيقها يحيى، وقفت فيفي وحيدة بركن قصي تنظر لولديها بنظرة حنان ممزوجة بقلق من المستقبل، جفلت على تلك اللمسة الحانية لكتفها، لتهدأ أعصابها على صوت زوجها الحنون: أيه يا قلبي واقفة بعيد لوحدك كده ليه؟
ابتسمت بمحبة لشريك دربها وهي تشاركه مشاعرها كما اعتادا دومًا: خايفة عليها قوي يا ابراهيم.
احتوى يدها بين كفيه يربت عليها بحنان: مش هتشوف غير نصيبها يا قلبي، احنا عملنا اللي علينا وزيادة، نصحناها على قد ما قدرنا بس هي اللي ركبت دماغها، ولا فاكرة أنه كان من السهل عليا أن بنتي تجمع أخواتي تقولهم أنها عايزة تتجوز وأنا واقف في طريقها.
زفرت بحزن: بس برضو مكنش ينفع نسيبها ترمي نفسها الرمية دي.
غمغم بقلة حيلة: وكان في أيدينا أيه نعمله، كله على يدك، أنا خوفت أني لو فضلت معاند تتهور وتعمل حاجة تقل منها ومنا، وافتكرت أني لو وافقت على خطوبة مش أقل من سنة يمكن تعقل، لكن أديكي شوفتي اتمسكت بيه زيادة أكتر من الأول.
همست بحسرة: أنا مش مصدقة أن دي ثريا بنتي اللي ربيتها على إيدي، البنت اتحولت، بقت مادية بشكل مش طبيعي، مكنتش مصدقة لما طلبت تقعد معاه وسمعتها بتفاصله في الشبكة والمهر.
زفر بحزن: المعاملة والظروف اللي اتعرضتلها وقت الإشاعة مكنتش سهلة، وخصوصا وهي مراهقة، وعامة أنا سجلت كل حقوقها باسمها عشان لما تفوق لنفسها مترجعش تلومني أو تتهمني أني بعتها وقبضت التمن، وربنا يهدي حالها ويخلف ظننا.
آمنت برجاء: آمييين يارب العالمين.
داعبها محاولًا محو حزنها: سيبك أنت، مين يصدق أنك بتجوزي ولادك الاتنين، وأنت أحلى وأصغر من بنتك وخطيبة ابنك، وواخدة جنب كده عشان متحرجهومش لو اتقارنوا بيكي.
همست بحرج: لا طبعا دول قمرات، بس بصراحة ومن غير زعل أنا خوفت لو وقفت جنب نبيلة مامتها تتضايق، صفاء أختك عمرها ما حبتني ونبيلة بنتها طول عمرها ماشية بدماغها، ودي أكتر حاجة كانت قلقاني وقت ما يحيى قال أنه بيحبها، بس القلب وما يريد وأنا لا يمكن أقف قدام سعادة ابني.
أجابها متفهمًا بحنان: أنا عارف أن صفاء صعبة وياما ضايقتك وحاولت تعمل لنا مشاكل، بس أنتِ كمان عارفة أني عمري ما سمحت لها ولا لغيرها يتدخل ما بينا، وابنك راجل وهيقدر يعدل الميزان ويدي لكل واحد حقه من غير ما يجور على التاني (ليخفت صوته وهو يهمس مشاكسًا) وبعدين بصراحة أحسن أننا ناسبنا بيت أختي مش أحسن مايخطب واحدة غريبة متعرفش ظروفنا والاقي أخوها جاي يطلب أيدك مني.
امتزجت ضحكتهما وهو يضمها إليه يربت على كتفها بحنان، فتدعي بقلبها أن تجد ابنتها السكن والمودة مع زوجها كما وجدتهما هي مع والدها، ولكن شتان بين أسس الاختيارين.
ولكن هناك عند العروسان، كانت ثريا أبعد ما يكون عن دعوة والدتها وهي تلوم عريسها بغضب: يعني أيه مجبتش هدية الصباحية يا سالم، محدش قالك أنك لازم أول يوم بعد الدخلة تباركلي وتهاديني حاجة دهب.
زفر سالم بضيق: دي موضة جديدة دي ولا أيه، وبعدين دهب أيه اللي هاجيبه، مكفكيش كل اللي جبتهولك، ده كل خروجة في الخطوبة كنتي بتشبطي في حاجة شكل، أنتِ فاكرة في عروسة في البر كله جالها اللي جالك.
ابتسمت بخيلاء وهي تجيبه بكبر: وهو في عروسة في البر كله زيي، أنا حاجة وستات الدنيا كلها حاجة تانية يا سالم، وعشان كده أعمل حسابك أنك هتبات في الأوضة الصغيرة الليلادي، لحد ماتقدر النعمة اللي في أيدك، ومش هتدخل أوضتي إلا وفي أيدك هدية الصباحية.
زفر بضيق وهو ينظر بغيرة لشقيقها الذي يبدو سعيدًا ومسيطرًا بينما خطيبته تجلس كحمامة وديعة ويحيى يميل نحوها هامسًا: نبيلة، مبروك يا حبيبتي، معرفتش أبارك لك كويس بعد كتب الكتاب عشان الناس بس ملحوقة هبارك لك لما يخدونا نتعشى.
تخضبت وجنتيها بالدماء وخفضت وجهها خجلًا وهي تهمس بصوت مرتعش: بس يا يحيى متكسفنيش أكتر ما أنا مكسوفة.
كاد أن يهمس لها بالمزيد ولكن منعه اقتراب بعض أصدقاءه فاستقام يستقبلهم بحفاوة، لتقترب تلك السيدة الأربعينية من نبيلة هامسة بأذنيها بصوت يقطر غلًا: شوفتي المعدولة مرات خالك واقفة بعيد أزاي وكأن الجوازة مش على هواها.
ناظرتها نبيلة بحيرة: يا ماما مش أنت قولتيلي أياكِ أخليها تقف جنبي للناس تقارن بينا، أهي وقفت بعيد من نفسها أيه اللي مضايقك دلوقتي.
مطت والدتها شفتيها بامتعاض: والله لولا أنه ابن أخويا ومهندس ملو هدومه وهيعيشك في مصر؛ ما كنت وافقت أنك تتجوزي ابن النداهة دي ولو وقف على شعر راسه.
زفرت نبيلة بضيق: وأنا مالي ومالها يا ماما، متخافيش هي الحمد لله مش عايزة تسيب هنا، يعني هيبقى بينا سفر وكل واحد هيبقى في حاله.
غمغمت والدتها متبرمة تتذكر مقارنات زوجها لها بزوجة شقيقها: طبعا، تسيب هنا وتروح فين، أمال مين يحرق دمنا ويسود علينا عيشتنا أكتر ما هي سودا؟
..........
انتفض كلا من فيفي وزوجها على صوت تلك الطرقات العنيفة على باب منزلهما، ليهرول ابراهيم لفتحه، ليفاجأ بثريا ببطنها المنتفخة باكية تحمل طفلها الأصغر بينما ابنها الأكبر يمسك بتلابيبها منهارًا من البكاء.