tafrabooks

Share to Social Media

أرهق عقلها صوت صياحه القادم من المقعد الخلفي، لأجله تخلت عن أمانها وحلت حزام الأمان، التفتت للخلف لتتطاير بقوة رغم إرادتها، تطردها الجاذبية من مقعدها رغم كل صراعاتها للتمسك بظهر المقعد، بينما الصراخ الخلفي يزداد عليه صراخ أمامي بصوت جهوري، كوب الشاي الساخن انقلب في حجر زوجها، لتفلت عجلة القيادة من بين كفيه ليفقد تركيزه، لحظات خاطفة انتزعت وعي سنوات.
طار جسدها للخلف بعنف باتت تعيش حالة ممتزجة من الصراع والصدمة مغمسه بالخوف، كأنما الزمان قد توقف عند تلك اللحظات، أضحت لا تدرك ما يدور حولها، فقط ترى ذكرياتها الحلوة مع زوجها وأبنائها تندس كالخيالات واحدة تلو الأخرى برأسها، لا تعي هل مازالت على قيد الحياة أم فارقتها، تتمنى لو دامت وطالت تلك الذكريات، امتلأت مقلتيها بالدموع رغما عنها، إكفهر وجهها، أحست بالاختناق وكأن الأكسجين ينفذ من كوكب الأرض، شعرت بألم مبرح لا يطاق حين أدرك جسدها أنه أصبح كدائرة نشان أصابتها كل الأهداف دون أن تخطئها، كل الزجاج الخلفي تكسر بعدما اصطدمت به، وطارت خارجة من السيارة بصحبته، لم تعد هناك مساحة خالية منه في جسدها، أصبحت شظايا الزجاج كالعاشق المهووس بمعشوقته لا يقوى على تركها تذهب وحدها لأي مكان إلا برفقته.
أما زوجها فكان كالمسحور مسلوب الإرادة لا يعرف ماذا يفعل، ترجل من السيارة بعد الحادث بمساعدة أحد المارة الذي سرعان ما اتصل بسيارة الإسعاف، وفي دقائق قليلة اكتظ المكان بالمشاهدين الذي حاول عدد كبير منهم المساعدة وتهدئة الأطفال الباكين في المقعد الخلفي.

قبل سبعة أيام من الحادث، بعد أن نشرت الشمس ضيائها الوهاج السرمدي في السماء وأرجاء الغرفة استيقظ مبتهجا في حماس، تأملها بهدوء وهو مستلقي على جانبه ظل يتفحص شفتيها الصغيرتين وشعرها الأسود القصير لمس بأطراف أنامله وجنتيها الناعمتين برفق، ثم لثم شفتيها بلطف، تبسمت وفتحت عيونها اللامعتين كزيتون أسود رفعت رأسها قليلاً، ولفت ذرعيها حول رقبته بخفه وبسرعه بادلته بقبله خاطفة .
-أما زلت تحبني حتى بعد مرور خمسة عشر عامًا من زواجنا.
أجابها بطريقة عملية جدا، اقترب منها أكثر وضمها بين ثنايا صدره بعمق، وأغلق عينه البنية، شعرت بالأمان المطلق بين ذراعيه الكبيرين أحس هو أنه امتلك العالم أجمع وهي بين أصابعه، أخبرها بصوته الأجش أنه حتى لو مر على زواجهم مائة عام سيظل عاشقًا لها.
فجأة شعر بوخزة غريبة تتسلل لقلبه العاشق، سقطت دمعة حارة من مقلته دون إرادة منه، مسحها دون أن يلفت نظرها، ابتسمت وطلبت منه أن يوقظ الأطفال حتى يتسنى لهم أن يقضوا أكبر قدر من الوقت أمام الشاطئ، حاول إقناعها بالعدول عن تلك الرحلة وقضاء الإجازة بين الحدائق والمتنزهات، طبعت قبلة على خده الأيمن وفرت من بين يديه تركض لتحضر ما يلزم للسفر، أنبأته أنها تريد قضاء شهر عسل جديد معه، لم تعطِه فرصة أخرى للرفض فهب ليوقظ الأطفال، ويساعدهم في تغيير ملابسهم، استعد الجميع وترجلوا للأسفل في مرح وحماس استقلوا السيارة، بعد أقل من ثلاث ساعات وصلوا لشقتهم في الإسكندرية صعدت هي ممسكة بالأطفال (تيا) الطفلة ذات السبع سنوات، و(إياد) ذي الخمس سنوات، فقد تعمدوا تأجيل الإنجاب لفترة حتى يتمتعوا ببعضهم البعض قبل تحمُّل مسؤولية الأولاد، لولا أنَّ (هدى) أضحت في الثامنة والعشرين من العمر وأشرفت على أعتاب الثلاثين، فتدخلت والدتها ووالدته لإقناعهما بضرورة وقف تأخير الحمل، وإفزاعهما من إصابتها بالعقم، أو ربما تحتاج لعلاج لفترة طويلة بسبب الأدوية التي تتعاطاها لمنع الحمل، لهذا أنجبت أبنائها، أولجت المفتاح وفتحت باب الشقة، ودلفت مع أبنائها وجدت المنزل منظم تمامًا فقد طلب زوجها (علي) من البواب أن ينظف الشقة سلفًا حتى لا يرهق زوجته الحبيبة، ويضيع وقتهم بين الأتربة وتغير الملاءات، أحست بأن أعباء العالم رُفعت عن منكبيها وتنهدت تدعو لزوجها، الذي سرعان ما صعد حاملاً الحقائب يساعده بذلك بواب العمارة، وهو لا يكف عن الترحاب بحفاوة بهم، أعطاه الزوج بعض النقود وشكره ثم أغلق الباب.
استقبلته زوجته باسطة ذراعيها بحب، ارتمى بين أحضانها يستنشق عبير عطرها الفواح الذي طالما أدخله في عالم آخر لا يوجد به أعباء ولا مسؤوليات، منذ أن إلتقى بها في أول مرة وهو يعلم أنها نصفه الآخر الذي لا مفر منه، تتقبله كما هو وتشجعه على المضي قدمًا، عرضت عليه أن يفرغ محتويات الحقائب وهي تقوم بإعداد الفطور، تبسم بوجهها، وأعلمها أنه طلب من (عامر) البواب أن يحضر لهم بعض الفول والفلافل والجبن للإفطار والخبز الساخن، طلب منها الولوج لدورة المياه للاغتسال بماء دافئ وتبديل ملابسها ليعرجوا للخارج بعد الإفطار مباشرةً، جلس بجوارهم يخيرهم بين الشاطئ أو مدينة الملاهي الجديدة القابعة على الكورنيش، قهقه الطفلين وأشار كل منهم بأصبعين السبابة والوسطة أي اختاروا الاثنين معًا، ضحك مبتهجًا وفطن لمه يريده الأبناء، فقرر الأب أن اليوم للشاطئ وغدًا سيقضون اليوم بأكمله في مدينة الملاهي.
جلسا الزوجان على الشاطئ تحت الشمسية كعصفورين حديثي الزواج، مشبكان الأيدي، يضحكان ويتسامران يستأنسان ببعضهما البعض، يرتشفان العصير، يلعبان (بالكوتشينة أو الدومينو) يبتر كل هذا بعض النظرات التي يلقيها أحدهما ليطمئن على الطفلان الواقفان أمامهما منشغلان باللعب بالرمال الذهبية، في نهاية اليوم عادوا للشقة مرة أخرى وذهب (علي) لإحضار بعض السمك المشوي للغداء.
تورات سبع أيام مبهجة كالحلم السعيد، في تلك المدينة العامرة بالجمال بين الشاطئ، والتنزه، والانتقال من مكان لمكان، وتجربة أكلات جديدة، أثناء عودتهم حدثت الحادثة الكارثية التي لم تكن في الحسبان التي أقحمتهم بداخل كابوس مرعب، لا يعلم إلا الله متى سيتنهي.
في طريقهم للعودة، بدأ الصغير (إياد) في الصياح بسبب أن شقيقته الكبرى قامت بأخذ لعبته، فأستشاط غضبًا وغيظًا، ولم يكف عن الصراخ المزعج، بملل ألقت (هدى) نظرة خاطفة على الأطفال أدركت أنه لابد من التدخل وحل النزاع بينهما، فكت الأم حزام الأمان بضيق و استدارت بجسدها للخلف لتحل ذلك الخلاف بين الشقيقين دون قصد لمست يدها كوب الشاي الساخن الذي جلبه زوجها منذ دقيقتان من إحدى (كافتريات) الموجودة على الطريق، سقط الكوب الموضوع بجانب زوجها على حجره وأحرقه، هب يصرخ بصوت عال غاضب ممتعض الوجه من الألم الذي تعرض له، ولوهله سها عن التحكم في عجلة القيادة، و لم ينظر إلى الطريق أمامه حين أعاد النظر، حملق بقوة ولم يستطع التفوه بكلمة وفقد القدرة على التفكير، طفقت يده في الارتجاف رعبًا تنحرف السيارة يمينًا ويسارًا وكأنه يمشي على جليد، حين وجد سيارة نقل عملاقة مسرعة علي وشك الارتطام بهم، لم يكن هناك وقت لفعل أي شيء واجتياز هذه العربة المسرعة، حدث اصطدام قوي بينهما أدى إلى اصطدام الزوجة بالزجاج الخلفي وتكسير الزجاج من شدة الارتطام، فرمى جسدها بقوة من الزجاج الخلفية للسيارة ودخل الزجاج بجسدها فقد تعرضت لأبشع ألم من الممكن أن يتعرض له إنسان، وتشوه وجهها وأجزاء كثيرة من جسمها.
أبلغ المارة عن الحادث وجاءت سيارات الإسعاف لتستحب أصحاب السيارتين تعرض صاحب السيارة الأخرى لكسر في القفص الصدري واليد اليمنى أما الزوج فقد فتحت رأسها و كسرت يد الصبى وقدمه وتعرضت الصغيرة لبعض الكدمات لكنها كنت بخير حال، لأنهم كانوا يضعون أحزمة الأمان وقت الحادث، أما الأم فقد كانت في حال يرثي لها؛ فهي أكثر شخص تعرض للضرر لأنها لم تكن تربط حزام الأمان.
جلس خارج حجرة المشفى يبكي بحرقة شديدة كالأطفال التائهين خشية فقد أمهم للأبد، تنفجر في عقله الأفكار السلبية كيف سيحيا بِلاها؟ ماذا سيفعل بدونها؟ ماذا سيحل به وبالأطفال؟ كاد أن يفقد عقله من فرط الصدمة القوية، يضع كفه بعنف على عينه شاعرًا بالذنب، محدثًا نفسه أنه من تسبب في ذاك الحادث، تره يصرخ من الألم الذي احتل قلبه التعس يمخر فيه دون شفقة أو رحمة ثم يذهب ليرمقها فيبتر كل أمل لديه في نجاتها، بات عاجزًا عن الحديث فلم يستطيع الضابط أخذ أقواله بسبب الصدمة القاسية التي مر بها إلا بعد مشقة.
أمام غرفتها بات يتمنى المكوث مكانها، يضع يده على أذنه ليتحاشى سماع نبراتها المتألمة، فآه واحدة من حنجرتها حين تصرخ متوجعة تمزق قلبه إلى أشلاء غير قابلة للتجميع مرة أخرى، هو لا يستطيع النظر إليها في هذه الحالة المزرية، أصبحت الآن جسد محطم ممزق لا ينطق لسانه إلا بالألم الذي يعجز أي إنسان عن تحمله، فالجميع يدعو لها بالموت، فطن ذلك من نظراتهم المشفقة هو يبتغي وجودها معه حتى لو بقت راقده قِبلَه في سرير لا تتحرك، لكن وجعها يكاد يقتله، يتعالى وينخفض، أضحت امرأة مشوهةً تمامًا، لم يترك الزجاج مكانًا إلا واستقر به، ظل يتساءل بداخله عن أي ذنب يحاسب عليه بما يحدث له؟ لما يعيش تلك المأساة، وما ذنب الأطفال التعساء في فقد والدتهم في تلك السن المبكرة؟ وماذا سيحل بهم؟
يتجرع ذكرياتهم معًا، قاطع شروده وصول والدها ووالدتها وشقيقها وأختها الصغرى، بعد أن أبلغتهم إحدى الممرضات بعد أن سألوه عن أرقام أشخاص يود حضورهم بسبب حالته المضطربة، أبصروه وقد تبدلت ملامحه لوجه شاحب أصفر كوجوه الموتى؛ مما زاد هلعهم واضطربت قلوبهم.
صاح الأب العجوز بصوت متقطع يلتقط أنفاسه بصعوبة بالغة وكأنه وصل توًا من مارثون للعدائين، رجل مسن قد تجاوز الخامسة والسبعين من العمر، وارتسمت التجاعيد على وجهه بالكامل.
-ما.. ماذا حدث لابنتي؟ أين هي؟
لم يستطيع أن يجبيه، خانته دموعه، وانفلتت الدموع كحبات العقد المنفرط، فقط أشار بيده اليمنى بوهن وصعوبة، وكأنه لا يستطيع حملها من الثقل القابع على جسده للغرفة التي ترقد بها، دخلوا مهرولين، لم تمر هنيهة إلا وعم الصراخ الحاد أرجاء المشفى، فقد فزعوا وانشقت قلوبهم وفغرت أفواههم عندما رأوا الشاش الأبيض المليء بالدماء يغطي معظم جسدها، لم يتوقعوا سوى كسر صغير بأحد ذراعيها، أو الساق، حاول الأخ التماسك وتهدأتهم ، سألوا الأطباء عن ما حل بها لأن زوجها لم يفصح بكلمة واحدة، فقد اكتفي بهز رأسه يمينًا ويسارًا ثم يصيح كالمجانين أو المجذوبين في الشوارع يتهم نفسه أنه السبب في كل ما حدث ثم يصمت.
بالداخل حين وقعت عيونهم عليها اقشعرت أجسادهم وأشفقوا عليها، ذرفت عيونهم جميعًا الدموع حزنًا وخوفًا رغمًا عنهم، ظلت تئن وتتلوى من ألمها رغم ما أخذته من مسكنات بعد استخراج معظم شظايا الزجاج من جسدها وخياطته ووضع الضمادات على جروحها، كان صراخها يقطع القلوب حتى المتجمد منها، جثت شقيقتها (نجوي) بجانبها تراقبها بعيونها البنية التي غطتها الحمرة من شدة البكاء والحزن، أمسكت بيدها لتطمأنها أنهم بجوارها ولم يتخلوا عنها أبدا لكنها شعرت أن روحها تتمزق ويلقى كل جزء منها في شطر مختلف من العالم حيث لن تلتقى مرة أخرى، أحست المسكينة بصعوبة بالغة في التنفس بدء جسدها بالارتجاف بقوة جاء الأطباء مسرعين يحاولون إنقاذها، فجأة تعالى صفير الأجهزة معلنة عن مغادرة (هدى) الحياة للأبد، حاولوا إنعاش قلبها لكنها لفظت أنفاسها الأخيرة، فارقت الروح الجسد، رحلت سريعًا كأنها لم تكن.
أسدلت ستائر الحزن السوداء القاتمة على المكان، توقف الوقت كعادته في مثل هذه الأوقات الكئيبة، تربعت الصدمة عقول الجميع، انشقت القلوب إلى نصفين وربما أكثر، تمزقت الروح باتت تائهة لا أحد يستطيع العثور عليها أبدًا، حين غطا الطبيب جسد الفتاة مخبرهم بنبرة حزينة مشفقة.
-البقاء لله.
عم الصمت الحجرة لبرهة من شدة الفاجعة كأنه الهدوء الذي يسبق العاصفة، ثم تعالت أصوات الصراخ لكل من (نجوى) ووالدتها أظلمت الدنيا بعيون أسرتها وكأن الحياة توقفت عند تلك اللحظة المقيتة التي أصبحت مرة كالعلقم حارقة كالنيران، شقت الأم عباءتها من شدة الوجع على ابنتها، وظلت تقفز في الهواء وتلطم خديها حتى فقدت الوعى على الفتاة التي لم تتجاوز الخامسة وثلاثون من العمر فأسرع ابنها (علاء) يحاول إفاقتها؛ فلم يكن الحزن خياره في تلك اللحظة، ماتت تاركة خلفها زوج أربعيني يائس، وطفلين لا حول لهم ولا قوة، دخلت والدتها في غيبوبة من هول الصدمة ففراق الأبناء أشد فتكًا بالقلب من فراق الوالدين، احتشدت الدموع في مقلتي زوجها، ثم تسربت كالأمطار على خديه دون توقف أو وعي، وضع الأب يده على فمه كي لا يصرخ هو الآخر محاولًا التماسك رغم ما شعر به من وجع واختناق، فقد أحس كأن روحه قد سحبت منه حتى أضحى لا يقوي على المقاومة، بات مشتتًا عاجزًا لا يدري ماذا يفعل، هل يمسك بابنته الميتة أما زوجته الفاقدة للوعي أم ابنته المنتحبة التي فقدت شقيقتها؟ أيواسي زوجها أم نفسه؟ صار شريدًا متجمدًا، هكذا تفعل الصدمة أحيانًا، تُفقدنا السيطرة على أنفسنا، رفع رأسه لسماء يهتف بحرقة واختناق.
- اللهم أجرني في مصيبتي اللهم أجرني في مصيبتي يا الله.
تم التحقيق في الحدث، وتنازل صاحب سيارة النقل عن المحضر بعد علمه بوفاة الزوجة، تم حفظ القضية والتصالح لأن الحادث لم يكن مقصودًا، ولم يكن خطأ السائق.
لم تحضر الأم الدفن والجنازة لأنها ظلت راقدة في غيبوبة لمدة أسبوعين، حتى فاقت أخيرًا، حاول زوجها احتوائها فهي سيدة قد تجاوز عمرها السادس والستين من العمر لا تقوى على مثل هذه الصدمات، ظلوا لشهرين بمنزل زوج ابنتهم لإعانته اليتمين عن فقد والدتهم، عندما قرروا العروج لمنزلهم نشب خلاف بينهم، فالزوج يرد إبقاء أبنائه إلى جواره وهما يريدان أحفادهما معهما ليشعروهم ببعض العوض عن فجيعتهم، وأول فرحتهم، خاصة مع حديث أهل (علي) عن زواجه بأخري تعينه على تربية أبناءه، شعر الأجداد بخوف كبير يستحوذ على فؤادهم ورعب يتنامى من خسارة الأطفال أو تعقديهم، فربما يختار زوجه جديدة لا تحب الأطفال ربما تعاملهم بقسوة، هناك الكثير من الاحتمالات، طمأنهم الزوج أنه لا يفكر في الزواج وأخبرهم أنه سيُحضر الأطفال إليهم كل يوم ليُطمئن قلبيهما أنهما بخير وأنه لن يحرمهم من بعضهم البعض.
قطعت (نجوى) إجازتها وعادت لعملها، واساها جميع زملائها في الفقيدة، فهي تعمل مهندسة ديكور ماهرة، ولولا أن صاحب الشركة صديق شخصي لوالدها لما أبقاها في العمل بعد تلك الإجازة الطويلة.
بعد انتهاء اليوم ودعت صديقتها المقربة (منى)، عرجت لإحدى (الكافيهات) برفقة زميلها وحبيبها(عمرو) الذي يعمل مهندس مدني بنفس الشركة التي تعمل بها، والذي ظل يتأملها مبتهجًا مشتاقًا بعد غيابها، فلم يرها لشهرين كاملين، شعرت بالارتباك والخجل لأن عيونه الزرقاء كالبحر الصافٍ لا تحيد عنها منذ أكثر من ربع الساعة، مد يده و أمسك كفها الصغير بحب وقضيا وقتًا لطيفًا معًا.
مر شهر فوجئ (عمرو)بإصابة الفتاة بنزلة برد حادة أجلستها بالمنزل ثلاثة أيام، في اليوم الذي عادت به قضوا وقتًا مميزًا معًا بأحد الحدائق العامة رمقها بعشق واشتياق جلي.
-اشتقت إليكِ كثيرًا، لم تكن الرسائل تكفيني كم وددت لقاءك، لكنك خشيتِ أن يرانا أحد أقاربك، منذ ذلك الوقت وأنا علمت أنني لن أتحمل المزيد من الغياب، لابد أن تصبح علاقتنا رسمية، أحنت رأسها لأسفل واحمرت وجنتها خجلاً، دنا منها بود، هتف مداعبًا إياها:
-ألا توافقينني الرأي؟
هزت رأسها بالموفقة ثم تنحنحت وأجابته بنبرة مترددة حزينة:
– لم يمر على وفاة شقيتي سوى ثلاثة أشهر، لا أستطيع التحدث مع والدي إلا بعد مرور عام على الأقل، فهذه تقاليد عائلتي؛ لا زواج قبل مرور عام على حالة الوفاة.
تأفف متكئًا للخلف ملصقًا ظهره بالكرسي الجالس فوقه، حرك رأسه يسارَا ممتعض الوجه ثم مسح بيده على وجه وزفر بعمق كي يهدأ، فهو لم يتوقع كل تلك المدة، في العادة الأشخاص يتنظرون حتى الأربعين ثم يعود كل شيء طبيعي، وكأن شيئًا لم يكن بطريقة تجعلك تشك أن الشخص لم يولد أصلاً.
أخبرته عن مدى حبها له، لكنها تقاليد عائلتها وإرث أبدي لا تستطيع هي تغيره للأسف الشديد، أوضحت له أنها ستظل معه إلى أن يتحقق حلمهم في الزواج، ألحت عليه كثيرًا حتى وافق على مضض.
في اليوم التالي في الشركة وضعت (نجوي) القلم وتنفست الصعداء بعد أن أنهت إحدى التصميمات الجديدة لأحد العملاء، استدارت بالكرسي ذو العجلات بمرح، لتجد صديقتها (منى) تجلس شاردة الذهن تحتل التعاسة وجهها، سألتها بفضول.
– ما بكِ؟! ماذا حدث؟
هزت رأسها يمينًا ويسارًا، وتحدثت بحزن عميق:
– لا شيء.
انتصبت (نجوى) واقفة وتوجهت لمكتب صديقتها، انحنت قليلاً ليصبح الوجه بالوجه، عرضت عليها الغداء معًا، وافقت الأخرى لأنها أرادت متنفسًا، عرجوا للنادي الذي تشترك به (منى) بعد الغداء وأثناء احتساء الشاي طلبت منها (نجوى) أن تخبرها بمشكلتها وتفصح عما بنفسها علها تستريح، لم تفكر كثيرًا هذه المرة، شرعت في الإفصاح عما بقلبها، أخبرتها بأسى أن نتيجة الفحوصات ظهرت بالأمس.
رمقتها بفضول ثم تسلل الخوف لقلبها خشيه أن تكون صديقتها مريضة بمرض خطير يهدد حياتها دنت منها وربتت على كتفها بحنان بعيون مفتوحتين يطل منهم القلق تتسأل.
-أية فحوصات؟ ما بكِ؟
ابتسمت بفتور لما فطنته يدور بعقل صديقتها الساذجة، ثم عاد الحزن يرتسم على محياها، بنبرة مترددة كئيبة أعلمتها أنها قررت وزوجها بعد مرور ثلاثة أعوام على زيجتهم دون حدوث حمل أن يبحثوا حول الموضوع، فذهبوا لأحد الأطباء الذي نصحهم البدء في عمل الفحوصات لتعلم الحقيقة المرة، أن زوجها (خالد) عقيم لا يستطيع الإنجاب، لا يوجد علاج مناسب له لكنها ستكمل معه لأنها تحبه على الرغم من ما تلقاه من أسرته من محاولة السيطرة عليها وعلى حياتهم، هم ظلوا يضايقوها طيلة سنوات زيجتها الثلاث، ظنًا منهم أنها صاحبة المشكلة وأنها لا تنجب، فمن المؤكد أنهم سيعاملونها بلطف بعد أن ظهر الحق، اقترحت عليها (نجوى)أن تطلب الطلاق لأن الإنجاب حق من حقوقها فهي لن تقوى على تحمل الحرمان من سماع كلمة ماما، بالإضافة إلى أنها لا تظن أن أسرة زوجها سيحبونها، بل اعتقدت أن الكره والحقد عليها سيزداد، فأعلمتها الأخرى أنها تعشق زوجها، وهو يبادلها نفس المشاعر ولا تفكر في فراقه أبدًا، ستحاول أن تتحمل مهما حدث.
أنهت (منى) حديثها، ثم ذهبت لمنزل والديها لتطمئن عليهم، هناك وجدت شقيقتها (فاطمة) تجلس شاردة في عالم آخر (مربعة) الأرجل على الأريكة تنظر للكرسي القابع أمامها مبتسمة بغموض، تتذكر ذكرياتها الحلوة خلال المرة الأولى التي التقت فيها بزوجها، يوم كان يجلس هناك على ذاك الكرسي واضعًا قدم على قدم، يتفحص ملامحها وجسدها واثقة من نفسه بشكل كبير، مما زاد من انبهارها به، لم يلبثوا أن تعارفوا فخلال أسبوعين من أول لقاء حدث بينهم تمت الخطبة، وبدأت مرحلة جديدة في حياتها فلم يكن يروق له عملها أو (استايل) ملابسها، بات بمثابة ملقن لها فيما تقبل وترفض، لكنها ظلت راضيةً مستمتعة بذلك ظنًا منها أنه يخاف عليها، ويعرف الصواب كما يخبرها دومًا، كما أنها كانت تريد الهرب من المنزل لأن حياتها لم تكن مثالية فوالدتها كنت سيدة ضعيفة الشخصية كثيرة الشكوى من زوجها الذي لا يترك لها متنفسًا، أكثر ما يضايقها أنها أيضًا امرأة عاملة تقضي يومها بين العمل الذي تعود منه بعد العصر تلهث لتكمل إعداد الطعام لهم، طالما حاولت أن تتواصل معها لتخبرها بما تشعر وما تريد أو ما حدث لها طوال اليوم، ظلت الأم تعتذر وتتملص منها بعذر أنها لا تستطيع سماعها لأنها منشغلة، فلم يكن يتبقى لهم الكثير من الوقت لقضائه معها، استمر شعور الحرمان العاطفي يؤرق قلبها ويرافقها يومًا بعد يوم كبر معها لكنه لم يرحل.

0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.