1952م..
إنها ليلة خريفية هذه التي تبدأ عندها الحوادث، وقد وافقت من ترتيب الشهور السابع : يوليو، ومن ترتيب الأيام : الرابع والعشرين، وحين جلسنا - آنذاك - على مائدة الاجتماع العائلي كان عصياً على النفوس أن تتفادى الحديث عن هذا الطارئ الذي نزل إلى ساحة السياسة، والذي بموجبه تبوء تنظيم الضباط الأحرار مسؤولية السلطة، وبات الملك - ومعه تاريخ قرن ونصف من حكم الأسرة العلوية - معلقاً كأنما هو ظل باقٍ على عرش ذاوٍ، كانت الخواطر - إذن - مشدودة بعنف إلى هذا الجديد من شأن السياسة المصرية وصارت مسائل الاجتماع العادية في المقام الثاني، مهملة وغير مطروقة.. وجلسنا جميعاً - إخوتي - حول المائدة التي ترأسها أبي، على حين كانت أمي منا غير بعيدة ناهضة بشواغل المطبخ بيدين مبتلتين، غير مكترثة - فيما يظهر - بشيء مما جعل يترامى إلى أذنيها من أحاديث،.. وإذ المرأة مولية ظهرها منكفئة على مشاغلها الجمة، فإن أبي كان بحضوره المهيب وفي موقعه المجابه لنا بؤرة الناظرين ومقصد السائلين، وسألته :
- وماذا يدفع الناس إلى الاستبشار؟ إننا - كما أرى - نوغل في مسار مجهول المعالم،.. أليس من النزق أن يتحمس المرء لما لا يعرف؟
وغرس أبي شوكته في صحن السَّلَطَةِ - فأخذنا جميعاً نباشر الطعام مكررين الأمر عينه، كأنما كنا نننظر منه الإشارة - قال وهو يأخذ يمطق:
- فاروق ! إنه عديم المزايا على نحو يدفع المرء إلى اليأس، أجل.. لم يكن الملك إلا دمية الاحتلال الإنجليزي الذي خلعه الناس بأيدي الجيش، ولأجل هذا استقبلوا الدبابات في الشوارع بسرور وغبطة ظاهرين.
وأشفقت من أن أجيبه وقد بدا عليه تحمسه الشديد للحركة الجديدة، وطأطأت الرأس، لائذاً بالصمت، ولاحظ أخي محمود تأثري، قال متهكماً :
- لابد أن أخانا كان في حياة أخرى فرداً من أفراد الأسرة العلوية !
وصمت أخي حيناً كأنه يحصي الضحكات التي انطلقت من حولي بلا ضابط، وواصل منتشياً بقدرته على الإضحاك، متهلل العينين :
- إنه يحدثني مراراً عن أخبار الماضي،.. الخديوي إسماعيل، والقاهرة الخديوية، وأفضال لذرية محمد علي لا نرى لها في حاضرنا أيما أثر !
وتدخل أبي كأنما يريد أن يُرَشِّد هذا السيل غير المضبوط :
- لقد وضعت الحرب الكبرى أوزارها، وآن للعالم الثالث أن يحدد مصيره بنفسه ! إني لا أرى الحوادث الجارية إلا بهذه العين.
وقد كان سيل غاضب من الفكر يجتاح نفسي، ولكني تساءلت : أنى لي أن أميل الكفة التي يقف منها أبي في الموقع المناوئ - أن أميلها إلى صالحي؟ وثمة من الضحكات المعدة ما يساند كفة الأخوة ويضفي على الجلسة الودودة إرهاباً عجيباً ! إنه لمنطق متهافت هذا الذي يصدرون عنه ولكنه مدعم بالسخرية اللاذعة والكثرة العددية ! ثم وما قيمة إقناع قوم لا ناقة لهم فيما يجري ولا جمل؟ هكذا استحالت غضبتي سلاماً جزئياً، وشخصت إلى صحن الجمبري شارعاً في الأكل مستطيباً مذاقاً شهياً، وخِلت صمتي مصير ما بقى لي من حضور بالجلسة، وعند ذاك ترامى إلى الآذان إنشاد أم كلثوم، هكذا.. لقد أرادت أمي - كدأبها في أحوال الخلاف - أن تقطع علينا أسباب المجادلة، ورفعتْ صوت المذياع إلى حد الطغيان على أصواتنا جميعاً :
"وقف الخلق ينظرون جميعاً.. كيف أبني قواعد المجد وحدي
وبناة الأهرام في سالف الدهر.. كفوني الكلام عند التحدي !"
كان من الواضح أن "بناة الأهرام في سالف الدهر"، قد جعلوا الجلسة في صمت وكفوا الكلام ! ولكن أي حنجرة هذه التي تُغني؟ إني أكره هذا الصوت الخشن، ولو كان المسموع لرجل لكان خيراً من أن يُنسب إلى امرأة، ورفعت يدي مبدياً رغبة مهذبة في خفض الصوت، ومعبراً عما يجيش في صدري من شعور تجاه المغنية المجللة بأكاليل التمجيد والحظوة المجتمعية، قالت أمي معاتبة :
- إن أم كلثوم - في بيتنا - فوق النقد ! ولقد يتفق أن نتسامح مع تعاطفك مع الملك،.. ولكننا لا نمرر تعدياً على شخص أم كلثوم !
وأجبتها :
- أحب كاتب الكلام : حافظ إبراهيم، ولا أميل إلى مغنيته.
وإذاً، فقد عرفت من قولتها أنها لم تكن غائبة عن حديثنا ولا هي عنه ساهية، وأنها - بطبيعة أنثوية جُبلت عليها - آثرت ألا تقتحم حديث السياسة الذي تسمعه وتفهمه، وعاد إلى الجلسة الساكنة - إلا من طرقات الملاعق - شرر النقاش حين سأل أخي الأصغر فريد أبي :
- ومع أي فريق كنت تقف في الحرب الكبرى يا أبت؟ أعني : مع المحور أم مع الحلفاء؟
وقال أبي وهو يأخذ يمسح فمه بالمنديل إيذاناً بالنهاية :
- الألمان.. إنهم قوم بارعون خذلهم الحظ العاثر !
وشملني الجواب بقشعريرة تصنعت بعدها رغبة في النهوض، وتعثرت وأنا إلى المطبخ أقصد كيما أفر من الجلسة،.. وتدانيت من المذياع كي أحول دون سماع المزيد، لكن فضائل للأنظمة الشمولية - في اليابان وألمانيا وإيطاليا - بات أبي يعددها اخترقت حجاب المسافة وحاجز الصوت الشادي، هكذا بدا لي الغناء الآن خيراً من الثرثرة.. ولقد أجدني أنفر من أحاديث الحرب نفوراً اتصل إلى تقززي من الدماء، وأما امتداح صناع الحروب فإثم أنوء به بغير اقتراف، واقتربت أمي مني وهي تقول بينما يتناثر من يديها الماء على ملابسي بغير عمد :
- ولماذا تفر من حديث الرجال؟ أم عساك أحببت أم كلثوم وصوتها بعد كره؟
- إنه حديث رجال متوحشي الطباع، أجل.. يتسامرون عن أخبار خمسين مليون من ضحايا حرب هي شر البلايا والأرزاء الإنسانية المعروفة.. وصوت أم كلثوم النافر خير منه !
وضحكت أمي مني وأغلقت الصنبور وهي تحرك رأسها ذات اليمين وذات اليسار كاليائسة، وعلى شفتيها ابتسامة. وحملقت إلى الجالسين من موقعي الجديد، بدوا لي - مثلما يبدون لأبي ولكنهم أصغر حالاً- شطرين توزعا بطول المائدة في انتظام، والكرسي الثاني من جهة اليمين شاغر ومضطرب - كأنه نغم نشاز في عزف منظوم - إذ كنت قبل نهوضي المضطرب - أيضاً - أشغله، وأما أبي فوعيت منه صوته - دون صورته - إذ أن قفاه الثابت يطالعني كالوجه الأثري الجامد الممسوح،.. إنه ما ينفك يتحدث إلى الأبناء عن ستالين غراد والعالمين ويذكر مآثراً لروميل ! واقتربت منه أكثر وهو يقول كالمنفعل :
- أقسم بأن هتلر لم ينتحر ! لقد فر من ستالين ليس أكثر !
ورحت أتساءل في صمت : كيف انقلب الحضور المهيب لأبي هزلياً حين انكشفت صلعته؟ وهل تظل الأشياء - وتحت هذا البند تندرج الحركة الجديدة - كما هي حين تتبدل مواقعنا منها؟ واستعصى عليَّ الجواب، وودت لو أسعفني زماني لأعثر عليه، وتحركت إلى اليمين فانكشف لي وجه أبي، يبدو مثيلاً لوجه ستالين ولكنه بغير شعر يستر أعلى الرأس، وابتسمت للفكرة الطارئة وإن لم يلحظ من الجالسين أية علامة على وجهي، ولعل فريداً لاحظ شيئاً ولم يبده مخافة أن يفسر الابتسام في حضرة الأب استهانة بمقام لا يُمس، وكنت بارعاً في إخفاء انفعالاتي براعة اكتسبتها من لعب الورق، وقال أخي محمود :
- لقد نجحت الحركة الجديدة فيما قصر عنه عرابي منذ سبعين سنة ! (وهنا رفع أخي ناظريه إليَّ وكنت وراء أبي وواصل..) وستكون الطامة الكبرى إن كنت تقف من حركة عرابي موقف المعارض أيضاً !
وأجبته :
- لم أتحمس له،.. مثلما لا أتحمس لما يجري !
- وماذا تعرف عن التاريخ إذن؟
- أعرف عنه ما يكفي..
- أنت تجهل بالوطنية المصرية !
- إذا هي على حساب المدنية والحضارة، فلا أفهمها..
- أنت لا تمانع في حكم الإنجليز أو الملك ماداموا قوماً متحضرين ! تبدو لي منفرداً بهذا،.. وماذا عن الظلم الاجتماعي؟
وتدخلت أمي وفي يدها صينية الشاي، إنها لحذرة وإن اهتزت منها أسطح الأكواب، قالت :
- إنه ملك ابن ملوك ! اجلس ها هناك !
وعدت أجلس في الموضع الذي انصرفت عنه مضطرباً، وسألتني أمي :
- ولمَ لا تتزوج؟
- لا أجد امرأة تناسبني.
وشخصت المرأة إلى بعيد حيث تستند أطواق الياسمين إلى جدار حائط الصالة، قالت :
- ولمن تصنع أطواق الياسمين إذن؟
- أصنعها لمن لم أجدها بعد.
وكانت رياح خريفية تتسلل من نافذة نصف مفتوحة فأحالت حال الارتكاز إلى انهيار، ها قد استقر الطوق الأول على الأرض وتبعثرت بعض أوراقه، ونهضت أقول :
- ثمة شياطين تحرك الهواء هذا المساء !
وجعلت أقيم الطوق وأرده إلى حاله الأول، وهناك سمعت جلبة تترامى إليَّ، إنها مشوهة المعالم كأصداء غمغمة، واجتاحني شعور غامض حين نظرت من النافذة فرأيت جيراننا الجدد، وغابت عني ثرثرة الأهل أمام رؤية أولئك الوافدين، حدقت وتحققت ملياً، إن لابنتهم عينين نجلاوين ولقد حجب عني هذا الغريب - كأنه أبوها أو أخوها الأكبر - رؤية المزيد، والتفتت بغتة إلىَّ فوليت ظهري مدبراً، لا أخال أنها رأت شيئاً ولا عرفت بتلصصي ! لقد حجب مصراع النافذة عنها رؤيتي، وعدت إلى الطاولة مدفوعاً برغبة جديدة في الحديث عما رأيته، ولاحت الطاولة مبعثرة الصحون والملاعق على نحو أثار في نفسي بواعث الإشفاق على أمي، ولكن أبي هو من استقبلني بالسؤال :
- الديمقراطية أم حكم الفرد؟ أيهما الذي ينهض بالدول؟
وفهمت أنه اتخذ من الجالسين ناخبيه في مسألة شق عليه أن يحسمها، وجهده أن يهتدي فيها إلى الأمر الفصل، وقلت :
- إن اتخاذ التصويت وسيلة للفصل في قضية كتلك يمثل تناقضاً، إن التصويت لهو وسيلة ديمقراطية بالأساس !
وقال أخي محمود وهو لم يزل يأكل الجمبري المتبقي له في الصحن البيضاوي بغير أن يعنى بفصل الرأس :
- لقد أصاب أخونا المتفلسف هذه المرة !
وقال فريد مقاطعاً :
- سيكون الحكم لجوقة من الضباط وهذا يعد مزاجاً من الأمرين !
وتدخلت قائلاً :
- هذا إن لم يكن لمجلسهم رأس ! هل تصدق أنهم جميعاً سواسية؟
- ومن يكون الرأس إذاً؟
وأجبته :
- اللواء نجيب ! أو آخر منهم لا نعرفه !
وقالت أمي التي جعلت ترتب المائدة :
- ثلاثتكم شباب، ولم تتزوجوا ! أي نصيب عاثر هذا الذي حرمني من الأحفاد !
وتدخلت قائلاً ومتأثراً بما تكشف لي منذ قليل من زاوية النافذة من ألوان البهاء المستتر :
- إن قلبي يحدثني بأن هذا الأمر لن يطول !
وقال محمود هازئاً :
- إن لديه من أطواق الياسمين ما يجعله متشجعاً.
وأخذ أبي يحصي الأصوات بصدد القضية التي تشغله، امتنعت أمي عن إبداء رأيها واستمسكت برغبتها في ترتيب البيت، قال الرجل لما انتهى وفي نفسه غصة محيرة :
- إن الكفتين سواء !
مساء اليوم نفسه،.. وحدي أنوء بثقل التخيل ومجاراة التصورات، صاحبني الأرق طويلاً ولم أنعم بالصفاء إلا لماماً، رأيت في منامي الخديوي إسماعيل يعاتبني وجللني ما رأيت حتى انتفضت، كانت عيناه حمراوتين ووجهه الطفولي يشيخ ويندثر، إني أشفق على مصر من مغبة الحوادث التي تعثرت فيها، كأنها انتزعت انتزاعاً من سياق المظالم الاجتماعية إلى سياق موحش من سوء الإدارة،.. أيهما أخف وطأة على النفوس؟ أيهما دون الآخر في التأثير على البلاد؟ إن قلبي وثاب إلى ماضٍ لم أعشه، إن نفسي تتوق إلى إرهاصات مشروع المدنية الذي لم يكتمل، لقد لوت الحركة الجديدة عنق تاريخ وددت له أن يطول أكثر،.. يبدو محمود محقاً، قال إني منفرد بخوفي وهواجسي، وأي مصري معتز بماضيه يجب أن يبارك الحركة الجديدة، هكذا رنت العبارة الأخيرة في مخيلي كأن الشياطين تحفل بها على مائدة وتطرب لها،.. جاءتني أمي في حجرتي، أرادت أن التحف بالغطاء فوجدتني يقظاً، عاتبتني برفق، وحين أوضحت لها أسبابي استوشحت ما سمعت وعجبت منه، قالت وهي تنير الضوء :
- لمَ تحمل نفسك مسؤولية ما لم تصنع؟
- رأيت الخديوي إسماعيل في منامي !
- ومن يكون يا ترى؟
حكيت لها شيئاً عن شجرة العائلة وسلسالها، إني أحفظها عن ظهر قلب، تزوج الخديوي إسماعيل بفريال هانم وأنجب منها فؤاد الأول، تزوج الأخير بنازلي صبري وأنجبا الملك الحالي فاروق، تعجبت كيف أقدره بعد هذا، إنها لم تسمع عن فاروق إلا كل نقيصة ومذمة، وسألتها متلهفاً :
- أنى لأبي أن يشتري الجمبري؟
- لقد حاز مكافأة العمل.
قبلت رأسي ومسحت بيدها عند صدري، رأيتها تضحك وهي تعود تطفئ الأنوار، لم تفهم تأثري بالتاريخ الفائت ولا بصفحاته المنصرمة، ورأت مبالغتي ضرباً من المضحكات الهينات، لعلها لم ترَ ظلاله على الحاضر والمستقبل مثلي، حين انفرد بي الظلام، استسلمت لتيار من النعاس الذي أبى أن ينقلب استغراقاً من النوم عميقاً، كنت يقظاً ونائماً، حين جاء النهار لم أكن قد استجمعت قواي بعد، كنت مشتتاً ووهناً، عند مدخل باب العمارة اجتزت الممر الضيق الذي يفصل بيننا وبين عمارة الجيران، لقد جاء البواب بشجيرات جديدة وزينها وذكر لي شيئاً عن البداية التي تتوق إليها الطبقات الفقيرة بفارغ الصبر، ابتسمت له، لم أصدق نفسي ولا صدقته.. استدرت إلى اليمين، إني أروم العمل، ولكن أي عمل؟ ألفيت فتاة الجيران الجدد تصدمني بغتة، انطرحت أرضاً وانكسرت نظارتي، نهضت متعكزاً على يدها وعلى الحائط، بدت لي غائمة الملامح وأنا بغير النظارة بينما جعلت تعتذر، أخبرتها بأني احتفظ بنظارة أخرى للقراءة وسوف تسعفني، وقالت بعد أن عادت الأشياء إلى نظامها :
- إنني أوافقك الرأي بشأن الحركة الحالية !
خلت نفسي مهلوساً، كيف عرفت بما يدور في نفسي؟ كيف ألمت بما يختلج في بواطني؟ عرفت منها أنها ابنة لثري يخشى أن يخسر بعضاً مما له، لم تفصح لي أكثر عن هويته ولا عن نفسها، استدارت عني تكرر اعتذارها، وهنا سألتها :
- ومن أخبرك برأيي؟
- إنه أخاك.. محمود !