لم تدم حيرة الملك مصريم كثيرا، فيمن سيوليه الحكم من بعده فقد أقبلت جيوش الملك الُعديم الجرارة تُزلزل الأرض من تحتهم وقد غافلتهم بظهورها المفاجئ وكأنما طٌوٌيت الأرض من تحتهم، لتحسم الأمور فقد جاءوا يريدون غزو أرضه والاستيلاء على مُلكه.
كان العٌديم من سلالة الملوك الجبابرة من نسل الملك العرباق بن داويل ومن أول من ملكوا الأرض الواطئة وحكموا ما ورائها وحولها حتى أبعد نٌقطة من قبل الطوفان، وكان العٌديم ومصريم يمتدا له بصلة من النسب البعيد.
كان الملك مصريم يعلم منذ زمن بعيد أن العٌديم نفسه تطمح لتمٌلك الأرض الواطئة وهو يرى الحسد يملأ عينيه كلما شاهد العمران والمدائن المشيدة والأسوار الحائلة، فأغرى عميم الخير طمعه وأشعل حسده.
في لحظة غضب حنق الملك مصريم على ابنه قبطيم؛ لأن شهامته هي التي جرت عليهم المتاعب، فما أكثر ما أرسل لمملكة الجبال بالغلال إذا ما اقحطوا، ثم سريعا استعاد رباطة جأشه وصوابه وتذكر أن لولا ما يقوم به قبطيم لما عمّ الخير عليهم وأن هذه هي تعاليم جده النبي نوح.
أما العٌديم رأى أنه الأجدر بحُكم الأرض الواطئة لأنه الأقوى وله سطوة بين الملوك ولم يرع في حربه القرابة التي تجمعهم، ولا معروف قبطيم، هذه البلاد بالنسبة له هي الخلاص له، فهي مستوية مرتوية بماء المطر الذي ينقطع عنها، يأتيها رزقها رغدا وقد زاد عدد شعبه بشكل كبير ولم تعد بلاده تسعهم فامتلأت نفسه بالحسرة وهو ساكن الجبل الذي يحيا حياة البدو يعيشون على الرعي والأرض الوحيدة التي تٌزرع وحده من يملكها، فتمني لو أنه مثل مصريم أرضا تمتد بلا نهاية علي مٌد بصره، يٌقطع قسما منها لقادة جيشه فتهدأ أطماعهم ويضمن الثبات على عرشه طيلة عمره؛ أكثر فقد كان أخوف ما يكون من الخيانة!
كان الملك مصريم يعلم أنه خرج من ملة الإيمان منذ زمن مهما أظهر لكنه يوقن بأنه يٌبطن الكفر ولا يٌحركه سوى شيطانه بما فيه من قسوة وفُجر، فقد تعلم الكهانة لذا فقد تحاشاه تماما لكن ما صنع الهالة العظمة حوله هزيمته لملك الجن.
كان وقتها العديم، شابا صغيرا يسعى لإثبات جدارته للفوز بالعرش وحكم بلاده فكان لزاما عليه أن يفعل أمرا لم يسبقه إليه أحد وظن الجميع أنه مات وانتهوا من شره لما غاب طويلا عنهم والناس ارتاحوا من آثامه وشره.
كان مشهورا عنه حبه للقنص وللقتل فلا يُفرق بين إنسان أو حيوان، إلى إن عاد فجأة وسيطر على العرش وحكم مملكة الجبال من بعد موت أبيه، الذي مات في ظروف غامضة، ولم يعلم أحد أين غاب ولا كيف ظهر فجأة ثم شاع بين قومه أنه ذهب إلى أقاصي الأرض وذهب لجبل المشعوذين لتعلم السحر والكهانة ليتغلب على كل خصومه ويجلس على العرش لكنه كان يسعى لأمر اكبر من هذا بكثير فهو لم يكفه عرش الإنس وطمع فى تسخير الجن لخدمتهَ!
خرج العٌديم إلى الصحراء القريبة منهم التي لا يجرؤ على خوضها أحد من شدة قسوتها واستعمار المسوخ والغيلان لأرضها ومن يستولي على تلك الصحراء يفتح أبواب الخيرات والتجارة لأهل هذه البلاد التي تنفتح على بحر ٌعجاج خيراته تٌطعمهم وتجارته توسع عليهم.
كانت الغيلان التي سكنتها تتمثل بصور البشر وتقتلهم أو تصيبهم بالخبل، أما المسوخ فكانت لا تٌبالي وتأكل كل من تٌسول له نفسه ويمر بها، وكل هذا وفاءا لثأر قديم، فكانوا بلاءَ وحل على أهل البلد.
خرج العٌديم وكأنما ذهب ليطلب الموت حثيثا، والناس في بلاده انقسموا ما بين قسم يؤيد ما سوف يفعله ويراه شجاعة، والبعض الآخر يتمني زواله ويخشي نتائج فعلته لكن ما كاد يٌعلن هذا الأمر إلا وفوجئ أهل مملكة الجبال بحشد من المشعوذين الغرباء، سود الملابس، ذوي سحن مُقبضة وعيون تٌنذر بالشر وملابسهم ووجوههم مُغبرة كأنهم خرجوا من القبور ووقفوا بباب مدينتهم يطرقوه!
كانت البلاد قديما مدننا تحوطها الأسوار الضخمة لحماية أهلها من الضواري أو غارات الأعداء وأحيانا الجن والشياطين وكل مدينة على قَدر غناها وعظمتها يعبر عنهم حصانة أسوارها.
رأى العامة أميرهم القوي الذي لم يحظ بعد بالتاج يخرج بنفسه لتحية هؤلاء الغرباء على الرغم من رائحتهم النتنة وأشكالهم المنفرة فتحاشاهم الجميع ولم يجرؤ أحد على الاختلاط بهم أو حتى سؤالهم من أي البلاد أتوا، كل ما علموه أنهم جاؤوا من اقاصي الأرض لمساعدة أميرهم في مهمته ولم يعلم كيف استطاع استدعائهم رغم بعد المسافة.
خرج العٌديم بصحبتهم إلى الصحراء ثم راحوا يتمتمون بكلام غريب والأمير يقبض على سيف له مقبض ونصل عليه نقش غريب لم يٌرى له مثيل لما عليه من نقوش وألوان، أخذ الأمير يٌمشط أرض الصحراء فظن قومه أنه قد أصابه مس أو خبل لأنه أراد أذية الجن فانطلق القسم المؤيد له يسابق الريح وتركوه مع المشعوذين خشية أن يصيبهم مثله الأذى.
لم يترك العٌديم يومها حية أو عظاءة أو عقربا أو أيا من هوام الصحراء إلا وأمسك به وحبسه حتى ضجت الجن من أمره بعدما أسعده حظه وأوقع بابن مليكهم الذي يٌدعى الأُحيمر.
فسُمع دوي صيحة عظيمة ارتجت لها الجبال وفوجئ أهل مملكة الجبال بأن الجن أتت تطرق باب مدينتهم؛ لطلب الصلح معهم وأن تترك لهم صحرائهم آمنة لكنهم يطلبون مٌهلة للتشاور لأنهم ليسوا قبيلة واحدة فكانت المرة الأولى التي يرى فيها أهل هذه المملكة الجن والغيلان والمسوخ على صورهم ويعلموا أنهم عدة قبائل لكنهم جميعا يخضعون لسلطان الملك الأُحيمر ملك الجان في هذا المكان وقد قرروا هٌجران الصحراء عدا المسوخ آثروا الخضوع لسلطان العٌديم والبقاء في خدمته.
بفضل جهوده ازدهرت أحوال رعاياه ومملكته، فتحسنت أحوال التجارة وازدهر الصيد ونعم الناس بالخير لكنه خير بلا بركة، فما كان من العامة إلا أن نادت باسمه ملكا عليهم دون منٌازع لأنه حرر صحراء بلادهم من سطوة الجن عليها، وصار الكل يحسب له حسابا بعد ما قام به، لكن أهل تلك البلاد ملأ الطمع قلوبهم لما هجرهم الإيمان والرحمة وسُمح بإقامة المشعوذين زمنا، وبدأوا في انتخاب من يصلح منهم لتعلم الشعوذة والكهانة ، ثم لما أيقنوا من تعلمهم فوجئوا بهم في الصباح وقد هجروا بلادهم، وكما أتوا فجأة رحلوا فجأة ولم يجرؤ أحد على السؤال حول ذلك، وبدأ جيل جديد من المشعوذين مٌكرسين لخدمة الملك في صنع الطلاسم والسحر.
ثم في يوم استيقظ أهل مملكة الجبال علي قرار جديد لملكهم أمر فيه بإحاطة بلادهم بالطلاسم والسحر فلا يصل إليها وافد إلا من خلال تلك الصحراء التي حررها فلم يجرؤ أحد أن علي مناقشته في قراره، ثم فوجئوا به يقيم مدينة صغيرة له ويحيطها بسور عظيم لا يدخلها عليه غريب دون إذن خاص منه وإن حدث وأفلت غريب من الطلاسم التي تحيط ببلاده، فهناك رصد من نٌحاس أحمر على هيئة فارس يٌمسك بوقا فإذا أتى غريب إلى مدينته المحصنة نفخ نفخة عظيمة فيخرج فرسانه ويقطعوه إربا.
كانت المعركة بين أهل الأرض الواطئة وجيش العديم غير متكافئة فقد فوجئ أهل الأرض الواطئة بالأرض ترتج من تحت أرجلهم وجيوش جرارة تسد الأفق. مشعوذين بأرديتهم السوداء ولحاهم المٌنتنة التي تركوها تنمو مثل عٌشب نابت دون تشذيب أو تهذيب، عيونهم تٌشع مكرا وشرا وجند أتوا متعطشين للقتل والدماء في وقت الغروب الذي كان أهل الأرض الواطئة يستعدون فيه لإنهاء يوم شاق من العمل,
فإذا بهذا الجيش العرمرم يباغتهم ويقترب بسرعة كبيرة من أبواب بلادهم وعلى الفور تصرف أشمون وأمر جنوده بسرعة إغلاق الأبواب واتخاذ كافة الاحتياطيات فلم يستسلم جنود الملك العٌديم لهذا الأمر وضربوا حصارا مشددا علي الأسوار، لكن كبير المشعوذين أمر قائد الجيش بأن يٌعسكر أمام الأبواب ويتنحى تاركا له هذه الجولة هو ورجاله!
لاحظ الجنود المكلفون بالحراسة حركة مريبة بجوار الأسوار لكنهم لم يقدروا على اصطياد المشعوذين بالسهام بعدما بدأوا يتمتمون بكلمات غريبة وهمهمات فشعر الجنود بالخدر يسري في أجسادهم ثٌم شٌلت حركتهم حتى الجندي الذي أسرع لإبلاغ الأمير أشمون أو الملك بما يجري سقط موضعه.
اختلى كبير المشعوذين خلف أحد الأسوار وأوقد نارا ونفخ عليها حتي خرجت منها سحابة سوداء بدت صغيرة ثم تخيم على أسوار مصر فإذا بحالة من الهم والوخم تَحل علي الجميع وكأنما هناك من يقيده حركتهم دون قيد ظاهر ثم شاهد بعدها جنود الحراسة الكٌهان يخرجون حجر أسود غريب الشكل نٌقش عليه طلاسم ورسوم دفنوا جزءا منه بالأرض وتركوا بقيته ظاهرا فتحلقت الغربان تحوم من حوله وتنعق بشكل مُتلاحق.
بعدها حاول أشمون وأتريب الخروج من أبواب بلادهم لمهاجمة الجيش المٌرابط لكنهم لم يٌفلحوا في الخروج وكأن هناك ما يحول بينهم وبين جيش العٌديم دون حجاب ظاهر لكن من يقترب منه يٌحرقه في الحال!
صور الغرور لمشعوذي العٌديم أنهم كما حالوا بين أهل مصر والخروج لقتال جيشهم أنهم قادرون علي حجب القطر عنهم فيجوع أهلها ويعطشوا فيجبروهم علي الاستسلام، فملئوا أرض مصر بالضباب الذي أغشى أعين الجميع وأصابهم بمزيد من الغم ، لكنهم كلما بالغوا فى الحصار واشتدوا زادت بركة المطر النازل على هذه الأرض الطيبة فيبدد الغيوم.
تَابع الملك مصريم ما يجري من حوله في وجل وهولا يبوح بما داخله لأنه بدأ يوقن فى قرارة نفسه من أمر الهزيمة وهو يرى فرق النقابين تعمل بلا كلل أو ملل ليل نهار ، وبدأ تدريجيا يتخلى عن فكرة تولية قبطيم ولاية العهد من بعده، فما كان من إلا أن جمع أبنائه وهو كظيم يخبرهم بأن من يقدر منهم على صد عدوان جيش العديم هو من سيخلفه فى الحكم.
اشعلت كلمات الملك الحماسة في قلوب أبنائه واجتهد الجميع حتى ما أعيتهم الحيل أمام طلاسم المشعوذين فما أفلح علم قفطاريم أو قوة أتريب ولا حتى شجاعة أشمون وبات قناعتهم أن مناعة أسوارهم إن دامت اليوم فلن تصمد لغد، وبقي قبطيم الوحيد الذي ظل صامتا لا يٌعجبه ما يدور ويأمل فى التفاهم مع الأعداء ظنا منه أنه قادر على إقناعهم وتذكيرهم برابطة القرابة التي تجمعهم لكن أخوته نظروا له باستغراب وكأنما أصيب بالجنون أو أنه شديد الجٌبن وانتهز أشمون الفرصة وأخبر أباهم بما يقوله أخوه فغضب من مقالته وعد تخاذلا ولم يحاول أيهم أن يستفهم من قبطيم الذي يكره الطمع والحرب فظن أنه من الممكن أن ٌتحل المسألة ببضع كلمات طيبة لكنه أيضا كان حالما..
اغتمت نفس قبطيم مما فعله أخوه وأحس بالضيق لعتاب أبيه لكنه فى قرارة نفسه كان يشعر بالتقصير لأنه لم يكن لم يكن يوما ضعيفا أو جبانا فما عيبه إن عاش حياته مسالما وما الداعي للاقتتال لطالما أن الخير يكفى الجميع أليست هذه رسالة جدهم نوح عليه السلام؟. وما قيمة العرش دون حب الناس؟
استمر قبطيم فى تأنيب نفسه ولم يقطع عليه خلوته سوى دخول أشمون أخيه معتذرا ومقبلا يديه طالبا الصفح وذكره بالمرات التي أنقذه فيها وكم كان قويا وشجاعا لما قتل ثعبانا عظيما كاد أن يعتصره وهو صغير، ولولاه لما كان ثم انصرف عنه وغلبت قبطيم سِنًة من النوم قام منها متوجسا:
- ينظر قبطيم ليجد عملاقا مهولا فيسأله في ريبة: "من أنت وكيف دخلت إلى هنا؟"
- الرجل الغريب:" لا تٌرع يا ولدي ولا تخف"
شعر قبطيم بهدوء وطمأنينة تغمرانه لما سمع نبرته رغم القلق الذى يساوره فعاد ليسأله من جديد :"من أنت أيها الشيخ الجليل"
ابتسم له الرجل قائلا: "أنا الملك العرباق من ولد آدم وأول من عمّر وملك الأرض التي تسكنوها وقد جئت أحمل لك رسالة"
كان الملك العرباق، ملكا صالحا عادلا عظيما معروفا غني عن التعريف مَلك الأرض واستطاع أن يرد كيد إبليس.
فسكت قبطيم لبُرهة ثم رد عليه مُتعجبا: رسالة!.. وأي رسالة تلك التي أتيتني بها أيها الملك العظيم؟
الملك العرباق:" أعلم بشأن هزيمتكم وحصار العُديم لكم، فاعلم أن أخوتك اغتروا بعلمهم وقدرتهم ونسوا قوة الإيمان، وأنت وحدك بإيمانك القادر على رد العدو، إن أردت.
- فاجمع عليك إيمانك غدا واهزم أعدائك.
اٌطرق قبطيم برأسه وما كاد يرفعها ليسأله كيف السبيل لهذا، إلا فوجئ بالملك العظيم وقد اختفى فجأة، فاستيقظ من منامه وهو لا يدرى أكان حلم أم حقيقة.