كانت لليلة ماطرة والسماء مظلمة لا نجوم ولا قمر والرعد يقصف وكأنه اسد جريح يزئر في قوة وغضب والبرد قارص وقطرات المطر كبيرة وقوية كأن السماء غاضبة تمطر الأرض بالحصي وقبع الناس كلا في مكانه و تجمدت الحياة تحت وقع البرد والظلام الدامس ولكن هناك من هو مضطرب وداخله نار تستعر تحرق قلبه ولا يطفئ هذه النار إلا الدم سنوات من الذل والمعايرة وضيق الصدر قبل ضيق الحال واليتم والأحزان حيث قتل ابيه ظُلم علي يد سالم الاحمر ذلك الطاغية الشرير الذي يعيش علي اذي الناس وسفك دماء الأبرياء كقاتل مأجور ادواته التربص والغدر حيث تسير الضحية في امان ثم يكمن لها وبمجرد أن يعطي الهدف ظهره يطلق عليه الرصاص اما في الرأس أو القلب طلقات مميتة مثل عقرب سام في عتمة الليالي المشؤومة تموت الضحية ولا تعلم من أين اتي الموت هكذا قُتل سعيد الشامي حيث كان دائما يفعل الخير ويحب الناس ولكن هيهات ربما مميزاتك تكون سبب في ظُلمك هكذا هي الدنيا تذكر سيد ابيه سعيد أيام الأعياد وكم كان يحبه ويحنو عليه ويحاول اسعاده بكل الطرق بإعطائه عيدية كبيرة ويشتري له أفخر أنواع الثياب وتذكر ابتسامته الجميلة ووجهة المشرق وكم كان أنيق في ثيابه كعادة أعيان هذا الزمان وكيف كان يجلس ويلتف الناس من حوله طالبين منه المساعدة او التوسط لهم او قضاء حوائجهم وكيف كان يجلس بين ابناء عمومته وأصدقائه جلسة الملوك وسط القادة والفرسان . وكيف غدرت به الايام وبعد العز والسعادة والغني اصبح يتيم فقير حزين وكل لليلة له ١٠٠ دمعة يبكيها والف جمدها الاسي واقسم منذ ١٥ عام علي أن يشرب من دماء قاتل ابيه حتي يرتوي وكم يتذكر كيف قتل ابيه بطلقة غدر في رأسة من الخلف ثقبت جمجمتة قبل أن تثقب شال عمامته وخرجت الطلقة من الخلف الي الامام دمرت هذا الوجه البشوش وخربت تلك الملامح التي كانت تفيض جمالا حتي عندما كشف عن وجهة مغسل الموتي فزع منه وكأنه رأي شيطان طلقة الحقد والظلم احالت الجنة الي جحيم وجه الاب وقلب الابن أصبحا حطام مشتعلة من أجل الحكم والسلطة والعمدية التي ما كانت تليق علي احد غير سعيد وكأنها خلقت له رغم انه لم يتجاوز الخامسة والاربعين إلا أن حكمته وهيبتة كانتا لشيخ في ال٦٠ ولكن كما قال الشاعر لكل شئ اذا ما تم نقصان كان يوم الجنازة نهاية كل شئ يوم الانهيار والحزن والانكسار وشماتة الأعداء وعلي النقيض في الجانب الآخر من القرية غرب البلد فرحه وشماتة ( عائلة الصوالح) في موت ابن منافسهم العنيد عبدالجليل الشامي العمدة القديم الذي انتزع العمدية منهم منذ ٣٠ عام لتدخل بيت الشامي مستحقة بالعدل والإحسان والعمل الصالح رغم قلة أراضيهم إلا أن عبدالجليل وولده سعيد كنا رجال في الحق تهابهم الاسود إلا أن عبدالجليل كبر سنه وداهمه المرض واعتلت صحته وخارت قواة فتولي ابنه من بعده عمدة لمدة سنة حتي هذه الليلة المشؤومة التي اغتيل فيها العمدة سعيد الشامي تنهد سيد تنهيده كادت تشق صدره ثم تحرك في هدوء واستخراج بندقية ابيه التي يتدرب عليها منذ ١٥ عام حتي انسجما وكأنها عضو من جسده وأصبح لا يباري في دقة التصويب من عدة أوضاع مختلفة وبينما يستخرج حقيبة الذخيرة(الخريطة) اذا بصوت أقدام سامح في فناء البيت وطرق طرقته المعروفه تك تك تك تك تك تك بصوت خافت وكأنها شفرة بينهم كان سامح هو ابن العمدة عبدالجليل الثاني ولكنه من ام اخري وكان يصغر عن أخية سعيد بخمس وعشرون عام ورغم ذلك كان سعيد يعامله معامله الكبار ويقف له اذا اقبل عليه ويجلسه بجواره ويأخذ رأيه ويمازحة وكأنهما أصدقاء في نفس السن وكان سعيد يبتسم لأخيه سامح كلما يراه ويبصر عيني ابيه وملامحه في وجه اخيه الصغير و الملامح المشتركة بينهم الموروثه من ابيهم رغم اختلاف امهاتهم ولكنهم اخوة .. كان سامح رجل صغير وكأنه ولد رجلا شجاع جلود وقور رغم صغر سنه فهكذا يكون أبناء الكبار نظر سيد الي عمه سامح الذي يكبره بثلاث سنوات
وقال له كنت لسة جايلك دلوقت فقال له القلوب عند بعضها يابن الفقرية ^^فابتسم سيد رغم حزنه فسامح هو الشخص الوحيد الذي يستطيع أن يجعله يبتسم رغم ما به من احزان ويعلم أن لدي سامح اضعافها ...ولكنها طباع ..!
وتذكر بعد مقتل ابيه بشهر كيف شل جده ومات من الحسرة وكيف كان يضع يد سيد في يد عمه سامح :ويقول لهما انتم اخوات متسيبوش بعض وخدوا تارنا انا كمان هموت... وكيف كان ينظر سامح الي ابيه نظرة عتاب وكأنه يقول انت التاني هتسيبنا وكنت انظر الي جدي وأبكي اقول له متسبنيش يا جدي انت ابوي واقبل يده وأبكي ولا أجد إلا عمي سامح يربت علي كتفي ويحتضني وكانت جدتي تخرجنا من غرفة جدي لتجلس تبكي بجواره عليه دمعة وعلي ابي دمووووع قطع حبل الذكريات سامح عندما
قال سيد سيد روحت فين ....؟
قلت والدموع تملء عيني معاك يا عمي ...
قال صحصح وفوق الليلادي نطفي النار ساعة وهنطلع نعمل رباط ( كمين) شوف حاجه جلد عشان نطلع والمطرة شغالة عشان محدش يشوفنا والناس كلها قافلة البيبان والشبابيك قلت ماشى انا جاهز دخلت اجيب البلطو الجلد بصيت من الشباك اشوف المطرة وافتكرت ارضنا اللي خدوها اعمام ابوي بعد ما زوروا الحجج وحلفوا كدب وخدوا عشرين فدان بتاعة جدي عبدالجليل وبقي عندنا ٦ فدادين انا وعمي راح ابوي وجدي وراحت الكرامة والمال: والله لأخد تاري واحاسبهم الزمان حمل علينا وهما داسوا بآخر ما عندهم جبت البلطوا ولقيت السكينة الكبيرة اللي سنيتها من سنة وحلفت لأقطع بيه الايد اللي قتلت ابوي وادفنها تحت عتبة مندرتنا عشان كل ضيف يدخل بيته يدوس علي الايد اللي ضربتة لبسنا البلاطي فوق الجلاليب وخدنا البنادق والخرايط وطلعنا من الباب الخلفي والمطرة كل ما تروح تزيد وتشتد ودخلنا الجناين قال سامح احنا هنروح بلد سالم لحمر قلت انا عايزه يكون في مكان مقطوع عشان اخد عدلي فيه انا حالف لأشرب من دمه رد سامح بطل عبط في حاجات احسن من كدا نملكه في الاول وبعدين تفرج قلت اااااه لو نملكه قال ابوك وجدك واحنا اتظلمنا باذن الله هناخد حقنا ولو مش الليلة دي يبقي الليلة الجاية ولا الشهر الجاي ولا بعد سنة حتي طلعوا من الجناين ودخلوا في الغيطان يمشوا شوية ويزحفوا شوية لحد ما بقيوا قَبَال البلد وقعدوا في الديس (حشائش مرتفعة تكون علي الترع)بتاع الترعة قبال الطريق الوحيدة بتاعة البلد كان المطر بداء بالهدوء وكمنوا قرابة الساعتين لا تطرف لهم عين وكأنهم سباع جائعة تنتظر الفريسة وكانوا يتكلموا بالإشارة لان الصوت يسري في الخلا ويسمع من مسافات بعيدة اخذ كل منهم وضع الاستعداد واعتصموا بالصبر حبسوا انفاسهم وخيم الصمت لا يقطعة الا اصوات الضفادع والحشرات شرد ذهن سامح ففاضت من عينه دمعة عندما تذكر تلك الليلة قبل موت ابيه بإسبوع التي رأي في منامه أخية سعيد خارج من البلد ويتبعه ابيه وهو ينادي عليهم : اخوي ابوي رايحين فين ويبكي بحرقة ومرارة وكان هناك مجموعة من اهل البلد يجلسوا علي جانب الطريق ومن بينهم عبدالباقي صالح العمدة الجديد يشاهدوا ما يحدث ويضحكون فامسكت الأحجار من الأرض واخذت اضربهم بها حتي تفرقوا تنهد ومسح دمعته وانتبه قاربت الساعة علي الثانية بعد منتصف الليل ولم يظهر حتي الان سالم وأخذ اليأس يتسرب اليهم ربما لم يخرج من منزله الليلة ربما يبيت في بلد آخر ربما..؟ وربما....؟
.. وسحقت رؤوسهم الظنون وبقوا علي امل ضعيف حتي ظهرت عمامة بيضاء من بعيد كأنها نقطة بيضاء في ثوب الليل البهيم وعاودتهم الظنون أ هو ام لا حتي قطع صوت الركب القادم حبل الظنون عندما سمعوا الشاب يقول أهل البت رفضوا لما عرفوا انك ابوي قالوا ابوه قتال قتلة بياخد كراوي والله لأخطفها واكسر نفسهم قال يا ابن الكلب امال تفرح لما يقولوا ابوك عنزة انا هبعتلهم وهجوزهالك بالعافية انت محمد سالم لحمر ابن قباض الأرواح ولم يكمل الكلمة واذ بطلقتان يثقبا رأسة وأخرتان في ساق وزراع ولده وسقطا فوق بعضهما وخرج سيد وسامح مثل الأسود الضارية قطع سيد زراع سالم الايمن و أخذوا بندقيته
ومحفظته ومتعلقاته وأطلق سامح طلقة اخري علي ساق محمد ابن سالم ليظل عاجز بقية حياتة وأخذ بندقيته والخريطة (حقيبة الذخيرة) ونظروا حولهم بعدما تأكدوا كل التأكيد أن سالم هلك وخرجت روحه مروعة مفزوعة تلعنها اروح الأبرياء الذين قتلهم وقالوا:_ لولده دا تار بيت الشامي وحقك عند ابوك وان عشت امشي من البلد دي عشان كل اللي ليه تار هياخده واشتد المطر مره اخري وعاد سيد وعمه سامح الي بلدهم يشعروا بالسعادة والنصر ويمر شريط ذكريات تلك السنوات امام أعينهم التي اخذت في اللمعان بعدما كانت اطفأتها الأحزان والدموع دخلوا سور البيت الكبير واخذوا بالحفر قرابة متر ونصف تحت عتبة المندرة ثم شاط سامح بقدمة زراع سالم المقطوعة التي ضربت سعيد الشامي وداس عليها سيد بغل السنين حتي غاصت في الطين وومضت في رأسة ذكري مثل البرق الخاطف عندما ذهب مع امه عند بيت جده لأول مره بعد مقتل ابيه وكانت هناك سيدتان تجلسان في الطريق نظرا اليه هو وامه وهمست احدهما للآخري يا عيني الواد دا ابن القتيل..... ثم ابتسم لتلك الذكري ابتسامة المنتصر للمهزوم ودفنوها ودخلوا المنزل احتضنوا بعض قرابة ربع ساعة بكاء اختلطت فيه دموع الحزن بالفرح ما قطع تلك المشاعر الا صوت خادمهم الامين يحتضنهم ويقول الله يرحمك يا سيدي العمدة خلف سبوعه دلوقت اقول اللي خلف مامتش وبكي وعانقهم كانهم أبنائه
قال سامح/ يا عم راضي اجمع الشامية كلهم دلوقت وخليهم كل راجل يجي بسلاحه وبعد كدا لف علي الجوامع قبل الفجر وخليهم ينادوا توفي الي رحمة الله تعالي من ١٥ سنة العمدة سعيد الشامي والعزاء النهاردة ولمدة ثلاث ايام أمام دوار العمدة القديم واللي خلف رجالة ممتش وانا لله وانا اليه راجعون بينما كان يتجمع ال الشامي في فناء الدوار كان راضي انتهي من المرور علي المساجد وتبليغ النعي وسط فرحة ودهشة واستنكار بعض المأذنين ولم تشرق شمس ذلك اليوم حتي
اجتمع العمدة عبدالباقي صالح واخيه حسن صالح في دهشة وذهول دخل حسن ليجد أخية العمدة مضطرب وزائغ البصر
فقال انت سمعت يا عمدة نعي سعيد الشامي دول كدا قتلوا وخدوا التار
قال عبدالباقي بصوت ضعيف ومنخفض ايوووه شكل الكتاكيت كلت الغراب
رد حسن يا واد ابوي قلت لك قتل لا يوم ما بعت لي علي فلوس تكمل تمن كروة سالم لحمر وانت اللي اصريت
قال يعني ايه يا حسن ...؟
انت مدفعتش تمن زمان ولا هتدفع تمن دلوقت يعني...؟
قال اطمن يا عمدة شكلها كلنا هندفع
قال عبدالباقي اكلم المركز وابلغ عنهم
رد حسن اوعي تبلغ البلد غرقانه مايه ومفيش حكومة هتقدر تخش البلد ولو بعد اسبوع وكدا كدا سالم الحكومة مصدقوا ارتاحوا منه
قال عبد الباقي في قلق وحيرة امال هنعمل ايه
رد حسن اثبت يا عمدة لازم نروح نعزي ونبارك لهم ونعمل كننا ملناش صالح بالقصة دي ولو ظهر منهم حاجه يبقي نشوف هنتصرف ازي
قال عبدالباقي طيب هنعزي ميتي البلد كلها مايه وطين
قال حسن لازم نروح لو هنخوض في الطين انت عمدة البلد
المشكلة عندنا دلوقت ..ان شرق البلد عالي واحنا واطين والمايه بتتجمع عندنا وشوارعنا بتبقي برك
قال عبدالباقي وهو يبتلع ريقة في غصة وندم يلا هي كدا كدا اطينت
قال حسن في تحسر شديد منا حذرتك يا اخوي وقلت لك
اللي يزرع سو يحصد ندامة
قصة ليالي الخوف
بقلم أبوبكر عباس المحامي