بدا الرجل منهمكًا تمامًا فى مراجعة بعض البيانات أمامه على شاشة الحاسوب حينما دخلت إلى مكتبه تلك الفتاة الحسناء وهي تحمل بعض الملفات بين يديها لتقترب من مكتبه.
وقد ابتسمت قائلة بنعومة:
-ألا تنوي مغادرة مكتبك بعدُ يا “حسام” بك؟
قال لها بجفاء دون أن يرفع عينيه عن الجهاز أمامه:
-أتمانعين في ذلك؟
مالت على مكتبه لتضع الملفات فوقه قائلة:
- لقد انقضى وقت طويل منذ جلوسك هنا أمام
هذا الجهاز.. هل تعرف كم ساعة وأنت جالس على هذا الوضع؟
قال دون أن يرفع عينيه إليها:
-أتريدين أن تحددي لي عدد الساعات التي يتعين عليّ أن أقضيها في مكتبي؟
قالت بنعومة:
-أنا فقط أخشى عليك من كل هذا المجهود الذي يمكن أن يضر بصحتك.
- أنا أدرى بصحتي.. وهي لا تدخل ضمن اختصاصاتك، فعملك هنا يتضمن أمورًا أخرى لا أظن أنها تشمل الاهتمام بحالتي الصحية.
تجاهلت جفاءه في تعامله معها، وعادت لترسم الابتسامة على شفتيها قائلة:
- لكنك تعرف أن اهتمامي بك لا يتعلق بالعمل فقط، لكن.....
قاطعها وقد تحول بعينيه عن شاشه الحاسوب
ليحدجها بنظرة صارمة قائلًا:
- دعك من هذا الأسلوب الأنثوي الماكر، فقد قلت لك من قبل إنه لن يجدي معي، فلست من رجال الأعمال الذين يمكن أن تتلاعب بهم سكرتيراتهم مهما بلغن من جمال وأنوثة، فلا يمكن أن أسلم قيادي لامرأة مهما كانت. نبهتك لذلك أكثر من مرة، لكن يبدو أنك لا تريدين الفهم أو الاستسلام.
قالت وقد بدا عليها الحرج:
- لم أقصد شيئًا مما تقوله، أنا أهتم بصحتك فقط.
- من الآن عليكِ أن تهتمي بعملك فقط وتنفيذ ما أطلبه منك لأنك تأخذين أجرًا على ذلك.
- حاضر يا فندم.
- دعينى أواصل عملي الآن دون إزعاج، وأحضري لي الملف الذي طلبته منك.
سارعت بإحضار الملف، في حين عاد ليشخص
ببصره إلى شاشة الحاسوب وهو يقول لها بجفاء:
- يمكنك الانصراف الآن فلن أحتاجك بقية اليوم.
أومأت برأسها قائلة:
- حاضر يا فندم.
وقبل أن تبلغ الباب عاد ليقول لها وهو مازال ينظر لشاشة الحاسوب:
اتصلي بفريد بك وأخبريه أننا لا ننوي تقديم موعد عملية الفيوم كما وعدته، وأنها ستنفذ في الموعد المتفق عليه من قبل، وأن بإمكانه استرداد المبلغ الذي دفعه لك كعمولة منذ أسبوع لو أراد.
ارتبكت الفتاة وهي تتلعثم قائلة:
-عمولة؟ أية عمولة؟.أنا ....
عاد ليرفع بصره عن الشاشة وهو ينظر إليها مقاطعًا:
-إياكِ أن تكذبي، أو تتمادي في ظنك أنني لا أدري شيئًا عن كل ما يدور حولي هنا. وأعرف أنك أخذتِ عمولة من الرجل مقابل السعي لتقديم موعد ملف العملية الخاص به عن بقية ملفات العملاء الآخرين. بالطبع أنتِ تعرفين أن كلمة "عمولة" تلك هي كلمة أكثر تهذيبًا من كلمة "رشوة" والتي تدل على المعنى الحقيقي لتصرفك هذا.
حاولت الاحتجاج قائلة:
- “حسام” بك.. أتتهمني بأنني مرتشية؟
قال لها مؤكدًا:
- بالطبع أنتِ كذلك.. وهو تصرف يستحق العقاب، عقاب يمكن أن يصل إلى فصلك من العمل. لكني سأتغاضى عن فعلتك هذه تقديرًا لكفاءتك في العمل، وباعتبار أنه خطؤك الأول منذ عملك معي هنا. لكن هذا لا يعني أنني سأدع ما حدث يمر مرور الكرام، فقد طلبت تشكيل لجنة لجرد الأوراق والملفات التي بحوذتك وكل العمليات التي كلفتك بها فى الآونة الأخيرة. فإن ثبت أن الملفات التي بعهدتك سليمة سأدع عملية الرشوة تمر دون مساءلة هذه المرة، أما إذا ثبت وجود أية مخالفات أخرى أو تلاعب في الأوراق التي تحوذينها فسوف يكون لي معك تصرف آخر، وتأكدي أنني لن أرحمك.
وقبل أن تعقب بشيء استطرد قائلًا بحزم:
- والأن عودي إلى مكتبك وأعدي أوراقك وملفاتك ليطلع عليها أعضاء اللجنة خلال اليومين القادمين.
وما إن أغلقت الباب خلفها حتى غمغمت قائلة:
- يالها من كارثة.
وأسرعت إلى الهاتف لتتصل قائلة:
- سعيد.. يجب أن نلتقي اليوم ضروري.
قال محدثها:
- ماذا حدث؟
- لا يمكننى أن أشرح لك الأمر فى الهاتف.. لابد أن نتقابل ونتحدث.
- لكني اليوم مرتبط بـ ....
قاطعته قائلة:
-ألغِ أي ارتباطات لك اليوم، فالأمر أخطر مما تتخيل، ولابد أن نتصرف سريعًا قبل أن نتعرض لكارثة.
- إلى هذا الحد؟!
- عندما نلتقي ستعرف.
- حسنًا.. سألتقي بكِ في المكان المعتاد بعد ساعة من الآن.
- اجعلها ساعتين حتى أكون قد انتهيت من عملي هنا.
- فليكن.
وأغلقت الهاتف وهي مازالت مضطربة، حتى أنها لم تنتبه لدخول ذلك الشخص الذي دخل إلى مكتبها وهو يحدثها قائلًا:
- هالة.. ألا تسمعينني؟
تطلعت إليه وهي تبدو شاردة لتقول له:
- أستاذ فتحي.. أهلا أستاذ فتحي.
نظر إليها باستغراب قائلا:
-ترى ما الذي يشغل تفكيرك هكذا؟
- لا أبدًا.. لا شيء.. “حسام” بك كان يسأل عنك.
-هل هو بالداخل؟
- أجل.. تفضل بالدخول .
نقر فتحي على الباب قبل أن يدلف إلى حجرته.
وما إن رآه حتى تخلى عن اهتمامه بالحاسوب متحولًا إليه وهو يقول له بغضب:
- لِما تأخرت كل هذا الوقت؟
-أنت تعرف أني كنت منشغلا بالإشراف على التوريدات المطلوبة لعملية المنتجع السياحي في الساحل الشمالي.
قال له بعصبية:
-كان من المتعين أن تنتهي من ذلك بالأمس، لكن تكاسلك أدى إلى التأخر عن البدء في التنفيذ أسبوعًا كاملًا حتى الآن.
- يا “حسام” بك.. أنا لم أقصر في شيء، لكن الشركة المسئولة عن الأثاث هي التي أخرتنا.
-لا أريد التحدث في التفاصيل ... المهم هل أنهيت اتفاقك معهم؟
-أجل.. والتنفيذ سيبدأ من الغد.
- أتمنى أن يعوضنا هذا عن التأخير. أريدك أن تجهز لي كل الأوراق المتعلقة بعملية الاسماعيلية.
- اطمئن.. الأوراق كلها جاهزة.
- أريدك أن تراجعها بنفسك ورقة ورقة وبمنتهى الدقه، قبل أن أحمل الملف معي إلى المسئولين.
- حاضر، لكن ألن أسافر معك إلى الاسماعيلية؟
- كلا، لا أريدك معي هذه المرة، ستبقى مكاني
لتدير العمل هنا، لحين عودتي من هناك.
-لكنك تعرف أن بعض الأمور لا يمكننى أن أبت فيها أو أتخذ قرارت بمفردي دون وجودك.
- تصرف يا فتحي.. الأشياء الهامة والتى يتعين عليّ مراجعتها دعها تنتظر إلى ما بعد عودتي من الاسماعيلية.
خفف “حسام” من حدة لهجته قائلا:
- معذرة يا فتحي، لقد انفعلت قليلا.. فحالتي المزاجية ليست على ما يرام اليوم.
- هل يوجد ما يضايقك؟
-هذا الشخص المدعو خالد.. هل تصدق أنه اقتحم عليّ مكتبي ليهددني بالقتل اليوم؟
نظر إليه بدهشة قائلًا:
- خالد الفرماوي؟!
- أجل، لقد وصلت به الجرأة والوقاحة إلى
حد اقتحام مكتبي ليوبخني على طردي له وتهديدي.
- ولماذا لم تطلب له الشرطة؟
-لقد اكتفيت بجعل رجال الأمن يتكفلون بتأديبه وتلقينه درسًا قاسيًا.
ونهض من أمام مكتبه مستطردًا:
- سأعود إلى المنزل؛ فأنا بحاجة لقدر من الراحة.
نهض فتحي بدوره قائلا:
-سآتي لمرافقتك.
-لا داعي لذلك. ابقَ أنت هنا لمراجعة بقية الملفات الخاصة بالمنتجع السياحي.
- كما تريد.
غادر مكتبه ليتخذ طريقه إلى الخارج وقد التفت إلى سكرتيرته قائلا:
- أنا سأذهب إلى المنزل، لا تحولي لي أية
مكالمات أو اتصالات إلا للضرورة، وبعد الساعة العاشرة مساءً... غير ذلك دعي الأستاذ فتحي هو الذي يتولى التعامل مع أية مكالمات ترد إليك.
أومأت برأسها قائلة:
- حاضر يا فندم.
وراقبته وهو يغادر المكان بنظرة تمتليء بالحقد والكراهية.
أسرع السائق بفتح باب السيارة لدى مغادرة “حسام” للمبنى، لكنه اتجه إلى عجلة القيادة قائلا له:
-عُد أنت إلى المنزل يا سعيد، وخذ بقية اليوم راحة، سأقود بنفسي اليوم.
وقاد سيارته مبتعدًا عن مؤسسته، لكن بدلا من أن يذهب إلى منزله توقف بالقرب من أحد المباني ليغادرها وهو يتلفت حوله بحذر متجهًا إلى المبنى.
وما لبث أن استقل المصعد الذي صعد به إلى الطابق الرابع، متخذًا طريقه إلى عيادة الدكتور فخري استشاري الأمراض النفسية والعصبية، والذي كان يعالج لديه منذ شهرين في سرية تامة.
*****
ظل “حسام” يتقلب في فراشه محاولا النوم دون جدوى، حينما سمع طرقات على باب حجرته أتبعه دخول زوجته وهي بثياب النوم لتحدثه قائلة:
-”حسام”.. أمازلت مستيقظًا؟
- أتأهب لذلك.. هل تريدين شيئًا؟
بدت “سارة” جميلة في شكلها ومظهرها، تتمتع بقوام ممشوق وشعر أسود ناعم ينسدل على كتفيها، ووجه فاتن الملامح.
سألته قائلة:
-هل نويت السفر غدًا؟
قال دون أن يلتفت إليها:
- من الذي أخبرك بذلك؟
- شعبان أخبرنى أنك طلبت منه تجهيز حقيبتك لأنك مسافر غدًا.
غمغم قائلا:
- أجل.
- إلى أين تنوي السفر؟
استدار في فراشه متطلعًا إليها، قائلا لها بجفاء:
- ومتى كنتِ تهتمين بسفرياتي؟
هزت كتفيها وهي تأتي لتجلس على حافة فراشه قائلة:
- هذا لأنك لا تمنحني حتى الفرصة لاظهار ذلك الاهتمام.
عاد ليدير لها ظهره وهو يقول:
- من الأفضل لك أن تهتمي بشئونك الخاصة.
- لا تنسَ أني زوجتك.
قال لها متهكمًا:
- حقا؟ لم أكن أظن ذلك.
- كفاك تهكمًا وسخرية، فمعاملتك القاسية معي واستخفافك بكل ما أقوله وأحاول التواصل به معك هو الذي أوصلنا إلى ما أصبحنا عليه الآن.
قال لها بضيق:
- دعينا لا نعود إلى هذا الحديث الذي لا طائل منه. أنتِ زوجتي أمام الجميع والكل يرانا على هذا النحو. أما فيما بيننا فأظن أننا حسمنا أمر هذا الزواج الزائف. وعلى أية حال إذا أردتِ أن تعرفي الجهة التي أنوي السفر إليها، فأنا سأسافر إلى الاسماعيليه لإنهاء بعض أعمالي هناك، وسأقضي هناك
حوالي أربعة أيام. ها أنا قد أرضيت فضولك فاتركيني أعود إلى النوم.
- هل يمكننى الذهاب لزيارة خالتي والمبيت لديها لحين عودتك من السفر؟.
قال لها بحزم:
- لا.
- لماذا؟
- أنتِ تعرفين أنني لا أستريح لمسأله غيابك خارج المنزل هذه ولا أوافق عليها.
- إذن سأدعوها لزيارتي والبقاء معي طول فترة غيابك.. أشعر أنها أوحشتني كثيرا.
تدثر بالغطاء وهو يعود ليدير لها ظهره قائلا:
- فليكن.. لا تنسي أن تطفئي النور قبل مغادرتك للغرفة.
راقبته لبرهة قبل أن تهمس له قائلة:
- تصبح على خير.
وأطفأت نور الغرفة مغلقة الباب خلفها.
وفي اليوم التالى لم تصبح فيلا "حسام العدوي" على ما كانت عليه من قبل.
فقد تحول المكان إلى ساحة من الصخب والضجيج بعد أن وُجد الرجل مقتولا في حجرة مكتبه برصاصة أصابت صدره وحولته إلى جثة هامدة.
*****