إنه يشعر بالنعاس، لا يقوى على مغادرة الفراش، لكنه يشعر بالعطش، وهو متكاسل على القيام من على السرير ليشرب الماء، فالأرض باردة، والرياح القارصة في الخارج تزمجر، والغرفة دافئة جداً.
قام آدم متوجهاً إلى المطبخ، وكان يرتجف متجمداً من شدة البرد، ويكز على أسنانه محاولاً ألا يشعر ببرودة الجو. يصل أخيراً إلى المطبخ، وهو يشعر وكأنه انتقل من بلد إلى بلد، أو أنه تسلق جبلاً شاهقاً. يشرب الماء رويداً رويداً، فينتفض مرتجفاً، ويشعر وكأن الماء يتجمد في باطنه، ويقع كوب الماء من يده لينكسر، ويسرع متوجهاً إلى أحد غرف المنزل، ويضرب عمه، صارخاً في وجهه:
- "لا تضربها، لا تضربها".
فتبكي أمه لينا وتطلب منه الخروج، فيشعر بحرقة تغني كيانه وتفقده الإحساس بالصعيق الذي كان يراوده. يضربه عمه ويحاول طرده من الغرفة، لكنه لم يستطع، فهو منطفئ العقل، ثمل، وجسده كطرف عباءة مسدل على الأرض، خائر القوة، فقد عاد للتو من الحانة. يخرج من الغرفة فجأة، وهو يشتمهم ويترنح ويكاد يصطدم بالجدران والأبواب. تشعر الأم بالنشوة والارتياح لخروجه، فتتنهد وهي تغمض عينيها في قيلولة قصيرة من أجواء المشاكل التي لا تنتهي، فينظر إليها آدم نظرة شديدة الحدة، وبوجه بانت عليه الصدمة والتحسر على الحال، وشفتان دانيتان أسفاً، ويلتف بسرعة ويتوجه إلى غرفته فوراً، بخطوات أشعرت الأرض بأجيج غضب صاحبها، فقد أرهقه هذا الأمر.
"إلى متى؟ أصبحت رجلاً وما زالت أمي تُضرب أمامي وأنا لا أجرؤ على فعل شيء، واه أسفاه، يا حيف!"
تسيل دموعه على خدوده، كأنها قطرات خارجة من جهنم، أو من أعماق الأرض، مع صهارة بركان هائج، وقد أعطته تلك القطرات جرعة من الدفئ، التي أشعرته بالوهن، فغفل وغط في نوم عميق.
كانت حياة العائلة في السابق سعيدة، بشكل قد يدعو البعض إلى أن يحسدوهم على حياتهم الفارهة -وقد يكون هذا سبب تعاستهم الآن-. لقد كان أبوه تاجراً ذي صيت رفيع المستوى، وكانوا يعيشون في بيت كبير، إلى أن تدخل اللئيم الحقير (عمه جان) في حياتهم بعد ممات والده (هادي) بسبب مرضه العضال الشديد. وبعد سبعة أشهر، تزوج عمه من أمه، وكان في البداية طيباً معهم، وكان يدير أعمال التجارة الخاصة بوالده بأمانة ويعطي أمه المرابح الهائلة شهرياً، إلا أنها وثقت به بشدة، فكانت تعطيه المبالغ بأكملها ليتاجر بها، لكنه عندما استطاع إقناع أمه بفكرة أن تكتب له ممتلكاتها بأكملها باسمه، تجردت حقيقته المزرية، فأصبح بشكل تدريجي يسيء لهم في المعاملة، فبدأ يضربهم، ويستنفد مالهم في القمار والسكر وعلى النساء، فأصبح يرش المال رشاً، إلى أن نفد كله.
بعد مرور سنة وثلاثة أشهر، بعد أن صرف كل ما كان بين يديه، لم يعد لديه شيء ليصرفه، فأجبرها بالقوة على بيع البيت الذي لم تكتبه له فيما سبق، واشتروا بيتاً صغيراً مهترءاً ليقطنوا فيه ويُسترون بين جدرانه من الهوان. وأصبح يعتمد في مصروف شراء المشروبات الكحولية على أن يشغل أبناء أخيه في التسول.
كانت إلسا (أخت آدم)، تحتفظ بجزء صغير جداً من المال وتجمعه تحت وسادتها، وعندما علم جان بذلك، انهال عليها ضرباً بشكلٍ وحشي، فحاول أخويها إلياس وآدم مقاومته والدفاع عن أختهم، فضربهم كلهم، بل وقد ربطهم بالعامود الذي يتوسط المنزل لثلاثة أيام، ولم يطعمهم خلالها إلا في اليوم الأخير، عندما اصفرت وجوههم، وابيضت شفاههم، فخاف من أن يتسبب في قتلهم وأن يُزج به في أحد المساجن، وفي تلك الأثناء حاولت أمهم تخليصهم من هذا العقاب، إلا أنها لم يكون لديها حول ولا قوة، فكان قلبها يدمع، وعيناها تنزف عندما تراهم مرتبطين بعامود قاسٍ على ظهورهم التي ما زالت كالوساد المحشو بريش النعام الناعم، بينما من في عمرهم يلعبون ويستحسون معنى الطفولة. ولكن مهما قسا العامود الحجري، لن يكون أقسى من قلب من خان طمعاً، وربطهم هكذا وهم أبناء أخيه، وفي مثابة أبناءه، الذي خان عشرته ببغاضة وجشع، وزاد من يُتم أبناءه يتماً.
كان آدم يقوم بالعديد من محاولات التمرد، وكان أجرء إخوته على ذلك، وكان دائماً ينال قسطاً قاسياً من العقاب والضرب.
بعد مضي حوالي سبع سنين على موت الأب هادي، كبروا الإخوة الثلاثة، وقد اشتد عودهم وقوى، فاستطاعوا التغلب على تسلطه ولم يعودوا يذهبوا للتسول، وتزوجت إلسا من شاب يكبرها بسنة، وعاشت معه برفاه، إلا أنها كانت تغص لوالدتها وأخوتها، وكانت تبكي محروقة القلب على والدتها. قام جان بالتوقف عن تناول المشروبات الكحولية، فقد كان يحب الحياة كثيراً، وعندما أمره الطبيب بذلك وحذره من خطر الوفاة توقف عن ذلك بشكل نهائي، ومن شدة تعلقه بالحياة كانت أكثر الأقوال التي تغيظه وتجعله يستشيط غضباً هو "أتمنى أن أراك ميتاً"، فيصبح يتصرف كالأبله، بل كالمجنون عندما يقال له ذلك، ويا لكثرة اللكمات التي وجهها لأولئك الأطفال وهم يبكون متألمين من قسوة يده عندما يقولها له أحدهم، وكان عندما يرى جنازة يكاد يتبول على نفسه من شدة خوفه من ذلك اليوم الذي يحمل فيه داخل صندوق يسمى تابوت!
كان في هذه الفترة يعتمد على مصروفه من تأجير البيت الذي يملكه ولم يبيعه لطمعه، ومع هذا، فقد كانت يده مقبضة بشدة، وكانت أسنانه شديدة الرص على النحاس. كان لا يشتري من الطعام سوى ما يكفي أربع قطط، لذا كان إلياس وآدم يعملون في أي عمل يجدونه من أجل الصرف على البيت، فعملوا في العتالة، وفي الخَبز، وفي التنظيف، وفي النجارة، وغيرها من الأمور الشاقة الكاسرة للظهر. وكان جان من دناءته يقاسمهم فيما يحضرون للمنزل، لكن لم يتعرض له أحد بأي اعتراض، بالرغم من استيائهم منه.
ظل طوال هذه السنين بنفس العادات والطباع، وكان دائماً ما يضرب لينا، وعندما يدافع عنها أي أحد فإنه يوبخه، وقد عاد لعادة السكر من جديد بعد فترة، بل وأصبح في بعض الأحيان يحضر أصدقاءه السكارى إلى المنزل!
لم يعد آدم يستطيع تحمل الآلام والعُذوب التي يتسبب بها عمه له، ولكن - للأسف - ما باليد حيلة. في اليوم التالي، هم بالقيام إلى معمل النسيج الذي يعمل فيه، فخرج و واجه العجوز الأرعن الذي عبس وعقد حاجبيه الأبيضين بطريقة جعلت من وجهه مضحكاً، رغم عدم وجود من يضحك في هذا الموقف المشين، فقد كان شديد التصنع في غضبه وحزنه وفرحه وكل حالاته، لدرجة تجعل منه في بعض الأحيان أبلهاً.
لم يرد آدم أن يدور أي حوار بينه وبين عمه، لذا أظهر له أنه في عجلة من أمره، وقال له "صباح الخير"، و توجه مسرعاً إلى الباب دون حتى أن ينتظر سماع الجواب الذي لم يقال لشح اللسان عن القول الكريم حتى.
نزل الدرج وتنهد، ولقي بائع كعك، وعندما تذكر أنه لم يفطر، اشترى منه كعكة، وتناولها على الطريق، كانت هذه الكعكة طازجة ومخبوزة جيداً، ومتجانسة القوام، فداوت له فؤاده قليلاً، وأنعشت صباحه الذي بدأ بوجه تعيس. ولكن عندما وصل إلى المعمل، استُقبل استقبالاً جعله ينهار حزناً وبؤساً، فقد توجه إليه صاحب المصنع، ووجه له لكمة على وجهه أوقعته أرضاً، وأهانه أمام كل الحاضرون، فأصبح منظره مثير للشفقة، و للشماتة أيضاً، وفي نهاية الأمر، وبلا أي مناسبة أو ذنب اقترفه، طرد من المعمل، وقد علم سبب طرده عندما قال له زميلٌ له في المصنع:
- "سمعته يقول أنك تحرشت بابنته عندما أرسلك لتعطي النساء في المنزل غرضاً ما، ويقول أن ابنته رأتك وأنت تسرق من صندوق الغلة".
صمت عندما سمع هذا الكلام، وسكن قلبه عن النبض لوهلة، فقد تذكر ما حدث خلف الكواليس، وكان صمته صمتٌ حكيم وذو فلسفة عميقة وخانقة، فقد أحس وكأنه وقع ضحية كيد ومكر امرأة تريد أن تهرب نفسها من تهمة قد تنسب لها ذات يوم فاستخدمت أسلوب معاكس، على نفس منوال مبدأ إطفاء النار بالماء، أو إبطال السم بالترياق، ونطقت بكذبة لعينة. وحدث نفسه قائلاً:
- "كلٌ يريد مصالحه، واتباع شهواته فقط، وفي النهاية قد ينتصر الظلم، إن القصص التي كانت أمي ترويها لي عندما كنت صغيراً ساهمت في هدم شخصيتي، فكلها كان مغزاها أن الحق ينتصر في النهاية، لكن هذا تفكير غير منطقي وسخيف وجاهل بحقيقة الكون وأحمق، فليس الحق هو الذي ينتصر، بل الأقوى. فأين الحق فيما يحدث في المنزل؟! وأين الحق فيما حدث؟! وما نسمعه عما يحدث في مختلف الأرجاء؟! لقد أخطأتي يا أمي في تربيتي، كان يجب أن تعلميني كيف أكون قوي، وليس فقط كيف أكون على حق، فلو نفد الطعام، فلسوف ترين البشر يأكلون بعضهم بعضاً!"
يا له من مسكين، فلو علم صاحب المعمل ما خلف الكواليس، لكان قد أعطاه مكافأة، وكان ذهب لمعاقبة ابنته، وربما قتلها! ولكنها دنيا!
قبل حوالي أسبوع من هذا اليوم، توجهت ابنة صاحب المصنع روز إلى المصنع، لتأخذ قليلاً من المال من أبيها لتكمل جولتها في السوق، وعندما رأت آدم، بشعره الذهبي، والحجر الكريم البراق الأزرق الذي يتوسط عينيه، أحبته، ولم تستطع تمالك نفسها، فاقتربت منه وحاولت خلق حديث معه، إلا أنه كانت ردوده رسمية مجافية وباردة جداً، ولم يعجبها هذا، وأشعرها بالاستياء، ولكنها أرادت تحقيق ما في بالها، فحضنته، تعجب آدم واحمرت خدوده، لم يعرف كيف يتصرف، وبعد برهة من الصدمة، أبعدها عنه، فدفعها بقوة، فصدمت الأخرى، ولكنها استمرت في التصرف بنفس الطريقة. بل أرادت أيضاً تقبيله، ولكنه ابتعد عنها، وقد خاف من جرؤتها التي غدت وقاحة، وهددها بإخبار أبيها في حال عدم توقفها، فارتدعت وخافت، ولكنها استشاطت غصباً؛ فكيف لهذا "الهمجي الفظ" أن يرفضها وهي بكامل الجمال؟!
قامت بتأليف هذه القصة، وتلتها على مسمع أبيها، وحدث ما حدث...
سار آدم في أرجاء المدينة لساعات، ثم قرر في النهاية التوجه إلى الهضبة التي في القرية المجاورة، فهناك يمكنه البعد عن كل البشر بكل ما يسببوه من مشاكل وهموم، ويختلي بالطبيعة النقية، التي تريح نفسه وتعطيه لحظات هادئة، والتي لا وجود لضغائن البشر فيها، ويمكنه التفكير بما يشاء دون مضايقة أحد. لقد اعتاد الذهاب إلى تلك الهضبة كلما شعر بالإحباط مما يراه من كرب الدنيا الساخطة...
بعد أن وصل إلى قمة الهضبة، بدأ يرى المكان أخضر، دون أن يستطيع تحديد ملامح المكان، وبدا المنظر أمامه مموج، فقد حدث معه هذا الأمر من شدة أنين الروح، ولانجراح فؤاده، فقد سال من عينيه، اللتان هامت بهما فتاة، فتسببت له بكارثة، نهر مالح جعل الرؤية ضبابية ومشوشة، وبدأ يجهش ويرتجف كلما فكر فيما يحدث معه. كان يفكر في كل ما يحدث معه، فكان أول شخص فكر فيه هو عمه اللعين، ثم صاحب المعمل، وهذه أول مرة يفكر فيها بأنانية، ففي العادة كان يتذكر أمه ويتألم ويتحسر عليها، إلا أنه في هذه المرة لامها؛ لأنها أخضعتهم لتسلط عمه، ولام أيضاً أخوته، والقدر، ولام أبوه أيضاً لموته!
"لولا عمي اللعين، لما كان ما حدث اليوم قد حدث!"
بكى، وبكى، إلى أن احمرت عيناه، وقد أراحه بكاؤه، وأبعد عنه حيرته، وفكر، وظل يفكر، ولكن عندما اقتربت الشمس من المغيب، قام ليرجع إلى بيته.
تذكر قول أمه له "لست جميلاً عندما تبكي، كف عن البكاء"، فمنذ أن كان صغيراً، كلما رأته يبكي تقول له ذلك ليتوقف عن البكاء، مع أنها تعلم أنه يكون شديد الجمال عندما تتجمع العبرات في عينيه، ولكنها كانت تعتبر كلامها "كذبة بيضاء"، في سبيل عدم رؤيته على ذلك الحال فتحزن لفطرة الأم التي تكمن في داخلها.
"يا للأسف، سوف أقابله الآن، بل سأقابلهم كلهم..."
رغم أنها قطرات صغيرة، إلا أنها تفرج أحزاناً عميقة، وتبوح بأشياء كبيرة مخبأة في العمق السحيق، فتخرج من العين الدموع، كما يخرج من الماء من البئر، فالإنسان خلق ليُعبر، وقد يختلف أسلوب التعبير هذا وسببه، فتارةً نراه دموعاً، وتارةً نراه صحوناً متكسرةً، وتارةً أخرى صوت ضاني مزلزل، وربما يشتد الضعف فيكون انتحاراً، ولكن لولا إيمان آدم بربه، الذي حرم عليه ذلك، ولولا معتقده بأن الانتحار هو شذوذ عن فطرة البقاء والتنافس الغريزية، لفعلها.
انتصب واقفاً، وراح يسترجع كل ما فكر فيه أثناء تواجده أعلى الهضبة، وكأنه يراجع درساً بعد إنهاءه، فحس بقهر مكبوت في داخله، فأراد التفريج عن هذا الإحساس، ولما تماهت الروح مع البوح، تماهى الألم مع التجريد عنه بعنف مكبوت، فصرخ صرخةً مذبذبة سمعها أفراد القرية بأكملهم، فثبتوا مكانهم محدقين في أوجه بعضهم البعض عجباً، وسمع صوت أنفاسه المتسارعة، فأشفق على نفسه، ومشى عائداً إلى بيته. وبعد مغادرته للمكان، صعد سكان القرية إلى أعلى الهضبة، وفتشوا المكان جيداً، ولكن لم يجدوا أحداً، فرأوا في ذلك لغزاً غامضاً، وحدث جدلاً كبيراً حول ما جرى. حتى بدأت سيدات القرية تنسجن شائعاتهن، وشاعت إشاعة جني التلة في كل مجالس الأوساط النسائية، اللاتي يؤمنّ كثيراً بالخزعبلات.
كان منظره وهو يصرخ مع مشهد الغروب، منظراً مهيباً وحابساً للأنفاس، يعبر عن كل الآلام التي سكنت قلوب البشر، ولكن - للأسف - هذا لا يقدم ولا يؤخر من أمره شيئاً، سوى التفريج قليلاً من كربة قلبه، فلا رحيم به سوى ربه.
في أثناء مضيه نحو مدينته، لاحظ تبدل النهار والليل، فرأى في النهار ضجيج المدينة، وصوت الطيور تزقزق في القرية، وأصوات الفلاحين وهم يعملون في الأرض، وأجواء لا تخلو من الأصوات التي أحياناً تشعره بعدم الارتياح وعدم الأمان، ورأى في عتمة الليل التي يتخللها ضوء القمر والنجوم، وسكونه الذي يتخلله صوت صرصار الليل، والذي صوته ليس بمزعج بالنسبة له، بل يراه أحياناً ونيساً وقد يُنعس من ينصت إليه، فأوحى إليه هذا له بفكرة أتت على حين غرة، تشير لضرورة وأهمية تبدل حاله، ومن هنا بدأ يفكر بطريقة للخلاص. أوحى له صوت الصرصار الذي يقاطع الصمت بحكمة استخلصها بفطنته وهوسه بقراءة إشارات هذا العالم الواسع ذي الأطراف المتناثرة المليئة بالغرائب وروعات الحياة، فقد حدث نفسه قائلاً:
"حتى ولو استطعت الخلاص من أسلوب الحياة هذا، وحتى إن عشت بقية عمري بهناء وسعادة، فإن هذا لا يعني السعادة المثالية، أو انتهاء المشاكل بشكل قاطع، فلا أحد لا يحمل هموماً. ليس من المهم خلو الحياة من الهموم والمشاكل، فهذا مراد يستحيل تحقيقه، ولكن المهم هو الكيفية التي يتعامل بها الآدمي مع هذه المشاكل والهموم، مهما بلغ كبرها أو صغرها، وأن يفكر في طريقة لحلها، وألا يجعل لها سبيل لتعكير حياته، فحتى ساعات الليل وأجوائه الهادئة تماماً، قد لا تصفو من الأصوات، وحتى إن كان مصدرها أصغر الأشياء، الصراصير!"
كان هذا التفكير عقلانياً جداً، فليس من طبعه أن يجامل نفسه في سبيل إسعاد ذاته متجاهلاً سخافة وقمع منطقية الواقع المريرة، فهو إنساناً قنوعاً، وكما يقال، القناعة كنزاً لا يفنى.
قبض يده بشدة، فقد أشعره ذلك بالعزم والهمة والإرادة للسير نحو هذا الأمر الذي أسماه "الخلاص".
كان رجلاً حكيماً، وقوياً، وذكياً، ومسالماً، وشاعرياً، وشجاعاً، وحقاً يا لحظها تلك التي ستحظى به زوجاً، لكن الأيام قهرته، ومجتمعه أهمله وظلمه، وحرمه من حقوقه، وعلى رأسها حق الميراث والطفولة، ولكنه الآن أراد استعادة حقه، والانتقام، وعدم الاستسلام للأمر الواقع. إنه لا يفكر سوى بالانتقام...
قدم إلى المنزل منهكاً، فوجد أمه تضع على ساقها جبيرة. لم يعرف ما تلك السخونة التي شعر بها في رأسه، هل هي بسبب صعود الدم إلى رأسه غضباً؟ أم ترى شعر بها لوهنه وتعبه؟ خاف على أمه، وسألها عما حدث وهو يتأمل أن تجيب بأي جواب، مع أنه يدري أن سؤاله ليس له سوى الجواب الذي في رأسه. تجمعت العبرات في عينيه، ولكنه لم يتلقى منها أي إجابة، فقط نظرات حائرة، وملامح آسفة، فمشى خطواتٍ قليلةٍ مقترباً من الجدار، وأمال رأسه على الجدار، فمسه بطرف جبينه الحار وهو يتنهد مروحاً عن نفسه. علم أنه قد ضربها مجدداً، ولكن هذه المرة بقوة أكبر، كما هي العادة، ولكن أن تصل إلى هنا، لقد طفح الكيل...
توجه إليه، واصطدم معه، فتضاربا وبدأت الشتائم تنهال، وانتهت تلك المواجهة عندما تدخل إلياس، وطلب منهما التوقف كرامةً لأمه التي هي بحاجة للراحة.
كان يوماً كئيباً جداً، ولكنه حرك شيئاً في داخل آدم قد يكون نقطة تحول كبيرة في حياة العائلة مستقبلاً. فأحياناً تكون أعكر الأوقات وأشقى الأمور هي المحفز ومصدر الإلهام، فتولد القسوة من رحم الظلم. ظل يفكر ويفكر، على سريره الذي أشعره دفئه في وسط الشتاء القارص بكئابة الشتاء، فهدوء هذا الفصل وبروده يشعر المرء بأنه خالٍ من أية محافل، فلا يذكر منه الشخص إلا ما أحزن قلبه. كان الدفء جهنمياً في مثل تلك الظروف؛ ففي ليالي الشتاء الباردة، عندما يحزن أو ينقهر المرء، ويشعر بالدفء بعدما يندثر تحت لحافه، ويغني كيانه بالدفء بشدة تجعله يشعر بالتيه، بعد يوم توالت عليه الأحداث فيه وكأنه تخبط بجدران محيطة به من كافة الجهات، يكون هذا الدفء جهنمياً. تذكر عدة أمور افتقدها منذ زمناً، فأين المدفئة التي اعتادها صغيراً؟ وأين الحب الذي ألفه؟ وأين كل شيء؟ وبعد الكثير من التأملات البائسة، زادت دموعه من جهنمية السرير، وأدرك أنه عليه أن يوقف وجع الذكريات، بالتوقف عن تذكر الماضي السحيق الجميل، والأيام القاسية، وجروح القدر. ولكن إلى متى؟ إلى متى ستبقى ليالي هذا الشاب مرطبة بعبراته؟ وإلى متى سيبقى الجفن في حالة ظلمة كئيبة؟ وإلى متى سيظل هذا السرطان ينتهشهم؟
فتح عينيه ببطؤ، وبدا وكأنه لا يريد ذلك لنعاسه، ليكون وجه إلياس الذي بدا وكأنه استيقظ الآن هو أول ما يراه، وقال له إلياس:
- "ألا تريد الذهاب اليوم إلى المعمل؟".
فابتسم ابتسامة سمجة ورد عليه:
- "اتركني، نتحدث فيما بعد، فقد طُردت من العمل".
- "ماذا؟! لماذا؟! ما الذي حدث؟".
- "عندما أستيقظ سنتحدث، دعني وشأني الآن، نعسان".
لم يرد إلياس ازعاج أخيه، فقد أنبأ وجهه عن وهن شديد، وكأنه البارحة عارك جبال الأرض، فقد بدا شاحب الوجه وتكاثرت على جبينه قطيرات العرق، فصمت وغادر المكان بصمت مطبق، وقد بلغ فضوله مراحله القصوى؛ فقد تمنى لو أن آدم أخبره عن سبب طرده.
"دق دق دق"، قام آدم ليفتح الباب، وهو يشتم الشخص الذي يدق الباب لائماً إياه على إيقاظه، دون أن يعرف من يكون، ولم يهمه الأمر كثيراً، فقد كان غارقاً في النوم. وقد كانت إلسا هي من طرقت الباب، فندم آدم لما قاله عنها قبل أن يفتح الباب، وقد باغتت وجهه المتعب ضحكة خفيفة حاول كتمها، وبدت عيناه تحدق عجباً في وجهها، فلاحظت غرابة تصرفاته، ولكنها لم تعلق وتجاهلت الموقف، وألقت عليه السلام وهي تتجاوز عتبة باب المنزل تهم بالدخول، وولته كشخها متجاهلةً تغطيته لشاربه وشفتاه بيده مخفياً ضحكاته، واقتحمت المنزل باختيال كردة فعل لكل هذا. وفجأة، لمحت من شق الباب أن قدم أمها معلقة بحبل أبيض، ومغطاة أيضاً بشيء أبيض يشبه الجبيرة، فظنت في البداية أنها تتوهم، ولكنها تراجعت خطوتين للوراء لتتأكد مما رأته، ودققت النظر، ثم صدر عنها شهقة ملأت رئتيها بالهواء البارد، وتصاعدت أنفاسها، وظل قلبها يتخبط في صدرها، وارتعش جسدها وجمدت في مكانها، ثم جرت صوب أمها، فوجدتها نائمة، وخافت إيقاظها، فخرجت مبتعدة بهدوء، وصرخت في وجه أخيها قائلةً:
- "يا إلهي! ما الذي قد حدث لأمي؟!".
ومسكته من قبة قميصه وصرخت فيه طالبةً منه تفسير ما يحدث، فحكى لها عما حدث. وبعد أن انتهى، بكت، ونظرت بعيون محمرة إلى عينيه هامسةً له بصوت لا يشبه صوتها:
- "إلى متى سيبقى هكذا الوضع؟ متى سيموت هذا الهمجي ونستريح منه؟ أو متى لا نعود نراه؟ كل يوم يحرق لنا قلوبنا أكثر من اليوم السابق".
ولما لم تلقى أي جواب منه، فقد دنا رأسه للأرض مطرقاً بحزن، عادت لتعاين والدتها. سمع آدم هذا الكلام منها دون أن يدري ما يقوله لها، فقد ضاق صدره من هذه الأمور التافهة التي تترك أثراً عميقاً في نفوس الجميع التي يسببها عمه. قال لنفسه:
- "برداً وسلاماً يا عزيزتي، ولكن حقاً إلى متى سيبقى يحرق أيامنا ويحطم قلوبنا ولا أحد يوقفه عند حده؟".
كادت عينيه أن تحمر غضباً، وفجأة، خطرت له فكرة جهنمية، وقد شعر أنه يجب عليه حقاً تنفيذها، فهي "الخلاص" الذي كان يفكر فيه بالأمس، فبدأ يفكر ويخطط وفجأة نهض وخرج من المنزل، فتعجبت إلسا من ذلك، إلا أنها لم تعره أي اهتمام، فقامت لتنظف المنزل منتظرةً أمها أن تستيقظ، وقد جلت الأواني بالماء و بدموعها سويةً.
ذهب آدم إلى الهضبة ذاتها. فقد أراد التفكير بالأمر الذي طرأ على مخيلته، ووضع خطة متكاملة لا يمكن أن تبوء بالفشل، فقد كانت الفكرة بباله، ولكنها تحتاج لأن يكمل تفاصيلها، لذا أراد أن يفكر بصفاء.
انصدم عندما رأى ثلاثة الرجال هناك، فسألهم عن سبب تواجدهم فوق الهضبة، فقال له أحدهم:
- "سمعنا في الأمس صرخة مدوية ومرعبة، فأمرنا كبير القرية أن نصعد إلى هنا وأن نراقب المكان، فقد أرعبت هذه الصرخة كل سكان القرية!".
خجل آدم منهم عندما تذكر أنه هو الصارخ، لكنه ابتلع لسانه ولم يتحدث عن أي شيء بذلك الخصوص، وأخبرهم أنه أتى إلى هنا باحثاً عن الماء، فقدموا إليه جرة الماء الخاصة بهم مرحبين به بحفاوة.
أراد الجلوس وحيداً ليفكر بالخطة التي خطرت على باله، ولكنه عندما رأى الوضع هكذا، عاد إلى المدينة، وجلس في إحدى المقاهي، وبعد التمحص والتفكير والتخطيط، دفع ثمن كوب الشاي الذي شربه، ودفع الطاولة التي أمامه بقوة أظهرت حماس منتقم ثائر، وخرج من المقهى ليقوم بأول خطوة في الخطة...