مقدمة
(أنغمرُ في العشقِ وفي كلِ قطرةٍ منه أجعلُها بحرك)
(جلال الدين الرومي)
الزيارة الأولى
فراغًا ينتشرُ من حولي، الأرض، الجدران، السقف، السرير، والأفرشة كلها بيضا، كالوقت والساعات والأيام كلها بيضاء، وأنا تائهة فى عتمة البياض... لم يتبقَ منى سوى ظل جسد هالك لا قيمة له، أسمع صرخات روحي تستجدي التحرر والهروب من مصير هذا الجسد الفاني، لا تريد الفناء معه، ولكنها ما زالت فى الإقامة الجبرية، ما زالت أسيرة تلك البدلة الحديدية، أسيرة مقيدة داخل غرفة منسية فى مشفى قبيح مهما غلى سعر الإقامة به.
عقارب الساعة تقترب من منتصف الليل، يعبق السكون الغرفة للحد الذي أسمع به دبيب نملة، مستلقية على سريري، عيني معلقة في السقف، النور الهارب من فتحات النافذة يكاد يضيء الغرفة وأنا في جوف الليل والسكون، فجأة أسمع وقع خطى في الغرفة، وصوت نفس عميق من حولي، يدب الخوف بداخلي، وعلا مدة عندما شعرت بأن صوت الخطوات صار نحوي.
أصرخ بخوف: "من هنا.. من؟ "
توقف الصوت، لحظتها شعرت لأول مرة أنني لست وحدي، أحسست بأن أحدًا معي في الغرفة، يراني من حيث لا أراه، يكون في موضع لصيق مني.. أصخت السمع، لعلني أجد ما يؤكد شعوري، أسرعت للنوم، مخفية وجهي أسفل الغطاء.
عاد صوت الخطوات مرة أخرى، دقات قلبي تتسارع، صوت نفسي يعلو ويهبط كأمواج بحر عاتية، العرق يتصبب فوق جبيني بغزارة، أود أن أصرخ لكن لا أقدر، أتمتم بآيات قرآنية لتبعد هذا الصوت، ولكن لا تُجدى نفعًا
- "مروة.."
- "مروة.."
انتبهت إلى النداء العميق، اقشعر معه جلد ذراعي، ثم غمرتني القشعريرة، واستقر مركزُها برأسي, الصوتُ قريبٌ مني.
- "مروة.. أزيحي الغطاء."
استسلمت لطلبه، أزحتُ الغطاءَ بيداي المرتعشتان من الخوف، أفتح عيني برؤية لأرى صاحبَ الصوت.
نَظرتُ أمامي محدقة، وجدتُ رجلًا ضخم البنية، أسود الوجه، جاحظ العينين، دققتُ أكثر في ملامحه، وجدت وجهه بشعًا. كيف يكون هذا من خلق الله؟.
يُحدق بي ثم ابتسم، فكشف عن ما خبأه من قبح كبير، أسنانه سوداء كلون سواد الحطب المحترق، لا يمكن أن يكون هذا إنسان وتسلل لغرفتي، هذا أكيد شيطان أو عفريت.
قررت أن أستجمع ما تبقى عندي من قوة، بشفتاي المرتجفتين وصوتي المرتعش وأقول: من أنت؟
- "ألا تعرفيني حقًّا؟.."
الوجه المخيف صار يتكلم.. لم أعرف بأي كلام يجب أن أجاوبه.
- "أنا الألم".
قدَرت أن الجنون انتزعني من الوحدة التي غمرتني، فصرت أهذي قلت لعلني الآن نائمة، وما هذا إلا كابوس عابر.. نعم هو كابوس عابر، سرعان ما أستفيق منه، ثم يصير ذكرى سرعان ما أنساها، أغمض عيني متجاهلة إياه، أحاول النوم.
- لا تتجاهلي وجودي، يا مروة!
عاد الصوتُ من جديد، ليس بكابوس، هذا الشخص موجود فى غرفتي الآن، يعرف اسمي، ذلك ليس بجنون أو خيال ولكنه حقيقة مرعبة.
- من أنت؟
- أخبرتك.. أنا جنيُ الألم.
سباقي مع الحياة
هي الأسرع، وأنا ما زلت بطيئة كسلحفاة، لا يعجبني إلا الاختباء.
أظل برأسي لوهلة فقط، أنا المتكئة على رصيف الانتظار، الموعودة بمعجزة من السماء، الملحدة لفنون القتال.
حتى يقال أن عضلة اللسان هي أقوى العضلات ولكني ضعيفة، أفضل الورق على الكلام.
"يا كلي الذي تعب من كلي، أما آن لشمسي أن تشرق من بحري، وأن يطلع قمري ليحدث جزري ومدَي؟" " إسلام مطور"
اليوم الأول
أفتح عيني على ضوء النهار، مصطحبًا معه بعض من آشعة الشمس الساخنة، أرى أمي واقفة أمام النافذة تحجب جزءًا من الضوء، تتحدث في الهاتف بصوت أقرب إلي الهمس، لكنه حاسم وحاد، لم تلاحظ أمي استيقاظي، ولم أرد أن أقطع حديثها في الهاتف، فالتزمت السكون لحين أن تنتهي.
ظللت أطالع وجهها وتفاصيله حين تتحدث، يبدو عليه القلق والتوتر، ما الأمر؟ وما سبب قلقها؟
التفتت أمي إليّ، ثم قالت بصوت خافت: حسنًا، سنتحدث لاحقًا..
أغلقت أمي الهاتف وأقبلت نحوي بابتسامة، بصوتها الناعم الجميل قالت: كيف حال صغيرتي؟.. انتظرتك كثيرًا لتستيقظي، كنت غائبة في نوم عميق.
- مع من كنت تتحدثين؟
- مع أختك، أخبرها الطبيب أنها ستلد اليوم.
عدلت من نومتي وبلهفة
- حقًّا؟
- نعم.. أنا ذاهبة إليها الآن.
وثبت من مكاني بسرعة لا تناسب مرضي.
- " سأذهب معك."
- قالت معترضة: " لا يمكن، أنت مرهقة، لديك غدًا جلسة كيماوي، عليك أن ترتاحي اليوم".
- " أرجوك يا أمي، أريد الذهاب معك الآن وسوف أعود في المساء".
وبصوت قاطع منها لأي محاولة مني لإقناعها.
- "لا يمكن".
مالت عليّ لتُقبلني، ثم أخذت حقيبتها الملقاة بجانبي وهمَت بالانصراف.
- "سوف أعود غدًا.. من أجل أول جلسة لك".
خرجت مسرعة من أمامي، أحسستُ حينها بأنها تلوذ بالفرار من أمامي، من أمام ابنتها الهزيلة، ذات الوجه الشاحب، تَفرُ من غرفة مليئة برائحة المرض والدواء.. فلديها كل الحق، المكان أشبه بقبر حي.
لم أشعر يومًا أن أمي تأتي من أجل الاطمئنان عليّ، فى البداية كانت حزينة عليّ، أما اليوم فهي تنفر مني وتشعر نحوي بالضيق والاشمئزاز.. هي لا تفضل خروجي من المشفى والعودة للبيت، وأنا حاملة للمرض والكآبة الخاصة به، هي تأتي فقط لترضي وتشبع ما تبقى فيها من أمومة.
لم أشعر بأهمية أمي في حياتي من قبل، حتى بعد وفاة أبي وأنا صغيرة، لم أشعر يومًا بإلحاح الاحتياج لها أو لإخوتي، لم أشعر أيضًا باحتياجهم لي، لعلي كنتُ لهم مجرد رد فعل وليس فعل.
أنا الشخصُ الغريبُ بينهم، غير المألوف بين إخواتي الاثنين، رغم أني الأكثرُ سلامًا وطاعةً بينهم، لم يكن لي طلب أو أمنيةَ منها، ترتب على ذلك وحدة جعلتها هي أمي وأبي، فقط الوحدة هي من كانت تحتضني وتقبلني دون أن تعترض علىَ في شيء.
صنعتُ رفيقًا ثالثًا لنا وهو الكتاب، صرتُ معه ووحدتي، أقرأ، أحلم، أعيش مع كل بطلة في رواية جديدة، أسافر معها، أحب معها، أتزوج معها، أخون معها، حتى الموت.. أموت معها.
أشعر أن عمري قد فاق زمانه بكثير، أصبح لدى خبرة وتجارب كل بطلات الروايات فى الحُب والزواج والصداقة، حتى الجنس لا أعرف عنه شيئًا سوى ما علموني إياه.
كم تمنيتُ أن تظل حياتي رواية وأن أكون بطله على الورق، وأن تكون حياتي حبر في كتاب، تُقلب صفحاته باستمرار، أمحو منها ما أشاء وأحفظ منها ما أشاء.. أموت فى آخر صفحة، وأولد مع بداية صفحة جديدة ولكن هيهات...
انبترت أفكاري فجأة عند دخول "نرجس" (الممرضة)، بوجهها المنتفخ الذي تُلبسه كل يوم قناع الابتسامة المزيفة، المصطنعة، وهي تتمايل أمامي بجسدها المهتز كالهلام، الذي يأبى الخضوع لملابسها.
- كيف حالك اليوم يا مروة؟
- لماذا لا تبتكري سؤالًا جديدًا تكسري به رتابة كل يوم؟ - بابتسامة زادتها قبح-
- هذا ما علموني إياه!.
ابتسمت بامتعاض ثم أردفت وقالت:
- هل أُحضر لك الفطور هنا، أم في الحديقة؟
- في الحديقة.. قد مللت هذه الغرفة القبيحة.
حفيف ورق الشجر، نسمات الهواء الباردة، ينسجمان معًا لزيادة الوحشة والكآبة في هذا المكان، كل شيء بارد في الحديقة وقاسي وخالي من المشاعر، ورودها، أشجارها، سماءها، كأنهم لوحة مرسومة بفرشاة رسام باهت لا يملك الحياة بداخله لكي يعطيها.
أجلس على مقعدي المتطرف في إحدى زوايا الحديقة، وأمامي هذا الفطور المقيت، الذي لا يستحق أن يُنسب له صفة الطعام.
أطالع الوجوه المريضة، الذابلة من حولي، نفس الملامح، الكل قد صب في قالب واحد، كم أبغض هذا المكان! أنا أكره ما أجبر عليه.
- ما رأيك أن نتشارك الفطور سويًّا؟
يا إلهي، حتى شرودي لا أملكه، دائمًا يخرجوني منه بتطفلهم.
بابتسامة مزيفة تليق بهذا المكان،
- تفضلي...
أردفت المرأة قائلة: دائمًا تجلسين في هذا المكان المنعزل في الحديقة.. حقًّا لماذا؟
ما الذي يعنيك في ذلك!.. سيدة متطفلة، لكن غلبت ردي هذا
وقلت: أفضل الهدوء.
نظرت إليّ بدهشة.
- هدوء!.. أنتِ صغيرةٌ على ذلك.
لم أعقب سوى بـ ابتسامة باهتة، هذا هو رد فعلي دائمًا، أتخذ من الابتسامة مهربًا من كل سؤال غير مرغوب.
أخذت المرأةُ يدي وجذبتني نحو طاولتها دون سابق إنذار.
استقبلني كل من على الطاولة بابتسامة عريضة وترحيب مبالغ، وكأنهم كانوا في انتظاري.
قالت المرأة: ها هي فتاة الركن الهادئ.. أحضرتها لكم، التفت لها مندهشة:
- هل هذا اسمى لديكم؟
- اجلسي الآن.. وسنتعرف على اسمك لاحقًا.
كان الصوت غليظًا كوجه صاحبه، ثم بادر بتعريف نفسه.
- اسمي فاروق، مهندس مدني. ثم تابع الجميع بتعريف نفسه
- إيمان، طالبة إعلام.
- سامح عاطل.
ضحك الجميع بما فيهم سامح.
قالت المرأة :أما أنا "ماما فاطمة"، هكذا ينادوني.
ثم التفت الجميع بنظرة نحوي، مطالبًا منى أن أعرف نفسي فقلت مختصرة:
- اسمي مروة...
هكذا كان ردَي – مختصر، مثل ابتسامتي التي تقطب الحديث معهم، استمر الكلام فيما بينهم دون توقف، وأصواتهم تتداخل مع بعضها البعض، وأنا أراقب فقط، وأتظاهر بالإنصات لهم، والإيماء برأسي للتواصل، لكن منفصلة عنهم في عقلي، أنشغلُ أكثر بعادتي وهي التحليل والتعمق. أحلل هيئتهم وحركات يديهم أثناء الكلام، ونظراتهم لبعض، حتى أصواتهم، حدتها ونعومتها، هذه العادة لازمتني منذ الصغر، أُحلل كل ما أراه من أشخاص ومن طبيعة جامدة، كل ذلك يُشعرني بمتعة التميز والقدرات الخاصة، رُغم أنه يُرهقني ويجعلني أتقمص شخصية ما أحلله والعيش بداخلها، إلا إنه في نهاية الأمر يترك بداخلي لذة التحليل.
بُتر فكري وتعمقي فجأة، ما رأيت.. فتاة صغيرة في التاسعة أو العاشرة من عمرها، جالسة على كرسي متحرك، تحمل حقيبة ظهر، لم تكن هذه أول مرة أراها فيها، شيئًا ما يستفزني نحوها، التفتَ إليّ فاطمة متسائلة:
- من تكون هذه الفتاة؟.. أشارت نحوها.
- لا أعرفها...
عدت إلي عادتي مرة أخرى لكن هذه المرة ناحية الفتاة، لماذا تحمل حقيبة الظهر وهي جالسة؟، ألا يجب على من حولها حملها بدلًا عنها، لماذا هي دائمًا مبتسمة؟...
انتهى اليوم وأنا في غرفتي، وحيدة، أشعر بالملل، لا أفعل شيء سوى الانتظار، ولا أدري ماذا أنتظر؟.
فقدت لذة كبيرة عندما هجرت الكتاب وقررت ألا أقترب منه مرة أخرى، كان هو سبب خيبة أملي ومأساتي.. ثم استطردت وتذكرت أن لم تخبرني أمي هل أنجبت أختي أم لا؟ لماذا لا يعلمني أحد؟ دائمًا يشعرونني بأنى نكرة بالنسبة لهم، لا أعني الكثير لهم..لا أستطيع تحمل ذلك، فهذا ليس قدرًا أو مرضًا عليَّ مواجهته بل هو قرار منهم نحوي واختيار بإرادتهم.
ليتني أستطيع أن أواجه مشاعري بنفس القوة التي أواجه بها المرض.