"إذا لم تسع إلى ايقاظ روحك أولاً، فلا جدوى من ايقاظ جسدك"
- السعيد الناصري
*****
الهمة العالية نصف النجاح..
الهمة العالية من صفات أصحاب الأرواح المتيقظة، وهي التي تدفعهم إلى بذل الغالي والنفيس من أجل تحقيق أهدافهم، وإلى التضحية بكل شيء من أجل الوصول إلى معالي الأمور.. أورد ابن الجوزي في صيد الخاطر بأن الهمة هي: "خروج النفس إلى غاية كمالها الممكن لها في العلم والعمل"، أي لنيل أقصى درجات السمو والكمال الممكن الوصول إليها في شخصيتك يجب أن تتبرأ من كل نقيصة يمكنك دفعها عن نفسك، وأن تجتهد في بلوغ قمم العلم والعمل التي تخدم رسالتك الكونية..
تحدد الأغلبية قيمة الشخص فيما يحسن، بينما يرى العظماء قيمة الشخص في همته وأهدافه وأحلامه.. علو الهمة هي علامة نجاح الشخص، ودناءة همته هي سبيل سفالته وحرمانه.. فالهمة العالية هي التي ستدفعك إلى الأمام لتحقيق أحلامك العظيمة وأهدافك الكبيرة عندما تبدو فرص نجاحك ضعيفة أو منعدمة.. وهي التي تحسن أخلاقك ومثلك العليا عبر منحك القوة اللازمة للوفاء بعهودك لنفسك وللآخرين رغم صعوبة الظروف..
وزبدة القول، الهمة العالية مهارة يمكنك اكتسابها وتربيتها إذا كنت تروم حياة فريدة مليئة بالشجاعة والحماس والقدرات والسلام.. وكان لعبيد الله بن زياد بن ظبيان خال يوصيه: "يا عبيد هِمَّ، فإن الهمة نصف المروءة".
أصل الهمة:
حسب عالم النفس التربوي 'جيرمان ديكلو' فإن العديد من الدراسات والأبحاث تؤكد بأن التقدير الذاتي ينتج عن علاقة انتساب، أي أن الإنسان يولد صفراً من كل تقدير ذاتي، وإنما يكتسبه من خلال الحب الذي يمنحه له الأشخاص المحيطين به، لكن المتأمل في كلام رب العالمين وأحكم الحاكمين سوف يدرك بأن الإنسان صناعة ربانية بالغة في الدقة والإتقان، فطره الله تعالى على معالي الأمور وأشرف الغايات، ولكن استسلامه لوساوس الشيطان وشهوات النفس الدنيئة هو ما ينزله إلى أخس المنازل وأحقر النهايات، قال الله تعالى:
ﱡ ﭐ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱠ التين: ٤ - ٦
وقال ابن الجوزي رحمه الله تعالى كلاما بديعاً في هذا الموضوع: "ما تقف الهمة إلا لخساستها، وإلا فمتى علت الهمة فلا تقنع بالدون، وقد عُرف بالدليل أن الهمة مولودة مع الآدمي، وإنما تقصر بعض الهمم في بعض الأوقات، فإذا حُثَّتْ سارت، ومتى رأيت من نفسك عجزاً فسل المنعم، أو كسلاً فسل الموفق، فلن تنال خيراً إلا بطاعته"..
الهمة العالية والحكمة الغالية..
تحقيق النجاح والسعادة يتم بشرطين أساسيين وهما: قوة الإرادة، والحكمة وسطر ابن القيم كلمات قيمة جمع فيها جل دروس ونظريات علم النفس (التنموي) : "كمال كل إنسان إنما يتم بهاذين النوعين: همة ترقيه، وعلم يبصره ويهديه؛ فإن مراتب السعادة والفلاح إنما تفوت العبد من هاتين الجهتين، أو من إحداهما: إما أن لا يكون له علم بها فلا يتحرك لطلبها، أو يكون عالماً بها ولا تنهض همته إليها فلا يزال في حضيض طبعه محبوساً، وقلبه عن كماله الذي خلق له مصدوداً منكوساً، قد أسام نفسه مع الأنعام راعياً مع الهمل، واستطاب لقيعات الراحة والبطالة، واستلان فراش العجز والكسل، لا كمن رفع له علم فشمر إليه، وبورك له في تفرده في طريق طلبه فلزمه واستقام عليه..."..
الحكمة أو المعرفة الحقيقية التي تنور البصيرة ومدى العمل بها والالتزام بتطبيقها هو السر الذي يصنع الفارق الحاسم بين فريق الفائزين السعداء وبين فريق المحرومين التعساء.. يتصف الفريق الأول بقوة الادراك وصفاء الوعي، وبقوة العمل والتنفيذ الحازم.. بينما يميل الفريق الخاسر - وهم أغلبية البشر مع الأسف - إلى ضبابية الإدراك وتشتيت الوعي، وضعف في العمل وترهل في التنفيذ، وسقم في القلوب والأرواح يظهر على شكل لهاث وراء التفاهات وسعي خلف اشباع الشهوات وكثرة المشتريات.. وهذا الصنف خير لك ألا ترافقهم في سفر أو في حضر لأنهم سيمطرون عقلك بوابل من الترهات والشكايات...
الحكمة والانضباط الذاتي جناحاك نحو قمم المجد، وهذان الجناحان متصلان مباشرة بقلبك، فمتى كان قلبك حياً قوياً كانت إرادتك وشغفك أنشط وأقوى، والعكس صحيح فضعف الهمة من ضعف القلب وخمول حياته..
الهمة العالية هي التي تسمح لك بالاستيقاظ المبكر لتغذية روحك ولتنمية عقلك، وهي التي ستمكنك من المحافظة على صحتك، ومن زيادة طاقتك، ومن استقطاب كل ما هو إيجابي وجيد في حياتك.. وذلك عبر التحكم في أفكارك والتخلص من آفات القلق والخوف والشك التي تدعوك إلى التركيز الممرض على السلبيات..
كيف تحيي قلبك؟
الهمة العالية تحتاج إلى قلب حي، ولكي تحيي قلبك وتقويه يجب أن تربي نفسك وتدربها على ركوب الصعاب وتجاوز العقبات؛ لأن عظائم الأمور ومكارمها مرهونة بمجاهدة النفس وتجاوز راحتها، فمن السنن الكونية المجربة أن الأشياء الجميلة والهبات الخيرة تتواجد بعد تجاوز حواجز الخوف و المشقة والتعب، و "بقدر ما تتعنى تنال ما تتمنى"، ولن تتمكن من احياء قلبك ما لم تبادر باستئصال ورم ضعف الإرادة من نفسك، وذلك عبر تكريس الوقت والجهد للتحكم في أفكارك بدلاً من تركها تتحكم فيك.. من خلال التحكم القوي في ارادتك، ابدأ فوراً في رفض الأفكار السلبية وبالتركيز فقط على الأفكار الإيجابية، وبفضل هذه المجاهدة ستبدأ الأفكار السوداوية في مغادرة عقلك تاركة لك الفرصة الذهبية للسيادة على قرارك ومصيرك ولقيادة عقلك و حياتك نحو المجد، قال ابن القيم:
"وقد أجمع عقلاء كل أمة أن النعيم لا يدرك بالنعيم، وأن من آثر الراحة فاتته الراحة، وأن بحسب ركوب الأهوال واحتمال المشاق تكون الفرحة واللذة، فلا فرحة لمن لا هم له ولا لذة لمن لا صبر له، ولا نعيم لمن لا شقاء له، ولا راحة لمن لا تعب له، بل إذا تعب العبد قليلا استراح طويلا، وإذا تحمل مشقة الصبر ساعة قاده لحياة الأبد، وكل ما فيه أهل النعيم المقيم فهو صبر ساعة، والله المستعان ولا قوة إلا بالله. وكلما كانت النفوس أشرف والهمة أعلى، كان تعب البدن أوفر وحظه من الراحة أقل، كما قال المتنبي:
وإذا النفوس كن كبـــــاراً *** تعبت في مرادها الأجســـــــــــــام
وقال ابن الرومي:
قلب يظل على أفكاره ويدٌ *** تُمضي الأمور ونفس لهوها التعبُ".
سمات عالي الهمة
صاحب الهمة العالية شخص متفرد في كل صفاته، فهو يتحرى فضائل الأمور ومصالح الناس، ورغم ذلك فهو غريب وطريقه مهجور لأنه كلما عظم الهدف قل المرافق.. وحتى في الحسرات هناك فرق شاسع، فإذا كان صاحب الهمة الدنيئة يندم لفوات شهواته، فإن عالي الهمة يتحسر لأنه مرت عليه لحظات لم يستغلها في انجاز مفيد أو عمل صالح، فهو لا يرضى بسفاسف الأمور وتفاهة الأشياء بل هو دائماً يضع نصب عينيه قمم الأخلاق وشيم الأبطال، قال الشاعر:
إذا ما كنتَ في أمر مروم *** فلا تقنع بما دون النجــــــــوم
فطعم الموت في أمر حقير *** كطعم الموت في أمر عظيــم
ويقول ونستون تشرشل: "إنني متأكد من أنه في اليوم الذي أتحكم فيه بمصيري، لن يقف شيء في سبيل تحقيق المهام المنوطة بي، ولن تكون آلام الحياة وعذاباتها أبشع من أن أتحملها. وطالما أن لدينا إيماناً وإرادة لا تقهر للفوز، فإننا سننتصر لا محالة".
أصحاب الهمم العالية لا يكتفون بالعيش على هامش الحياة، بل يعملون ويستغلون كل وقتهم وطاقتهم في تطوير قدراتهم وخدمة مجتمعهم، قال علي بن محمد الكاتب:
إذا ما مضى يوم ولم أصطنع يداً *** ولم أقتبس علـماً فما هو من عمري
صاحب الهمة العالية لا يعرف المستحيل له نفس تواقة للترقي والصعود، وطموحات تتجاوز التحديات والصعاب، قال عمر بن عبد العزيز: "إن لي نفساً تواقة، لم تزل تتوق إلى الإمارة، فلما نلتها تاقت إلى الخلافة، فلما نلتها تاقت إلى الجنة"، وعن مثله قال الشاعر:
لــــه همــــم لا منتهـــى لكبارهـــا *** وهمتــــه الصغرى أجل من الدهر
صاحب الهمة العالية يقوده عقله الراجح وفكره الثاقب وذهنه الصافي نحو تحسين مواهبه وتوجيه قدراته نحو أسمى الأهداف وأجل الغايات، قال ابن الجوزي:
"من أعمل فكره الصافي دله على طلب أشرف المقامات، ونهاه عن الرضى بالنقص في كل حال، وقد قال أبو الطيب المتنبي:
ولـــم أر في عيــوب الناس عيبـــاً *** كنقص القادرين على التمام
فينبغي للعاقل أن ينتهي إلى غاية ما يمكنه: فلو كان يتصور للآدمي صعود السموات، لرأيت من أقبح النقائص رضاه بالأرض، ولو كانت النبوة تحصل بالاجتهاد، رأيت المقصر في تحصيلها في حضيض.
غير أنه إذا لم يمكنه ذلك، فينبغي أن يطلب الممكن، والسيرة الجميلة عند الحكماء: خروج النفس إلى غاية كمالها الممكن لها في العلم والعمل (...) وينبغي له أن يجتهد في التجارة والكسب ليفضل غيره، ولا يفضل غيره عليه، وليبلغ من ذلك غاية لا تمنعه عن العلم... واعلم أنك في ميدان سباق، والأوقات تنتهب ولا تخلد إلى كسل فما فات من فات إلا بالكسل، ولا نال من نال إلا بالجد والعزم. وإن الهمة لتغلي في القلوب غليان ما في القدور".
خلاصة قول ابن الجوزي إذا فاتك ادراك المستحيل فلا تفرط في نيل قمم الممكن...
صاحب الهمة العالية يمتلك شخصية قوية تعطيه السلطة لتفعيل أقواله في الوقت المحدد، لذا فهو ينعم بحياة مفيدة ومنتجة، ويسهل تمييزه بين الخلق لشدة تفوقه ولكثرة عطائه وبذله، صاحب الهمة العالية لا تخيفه الأهوال لأنه متحكم في قدراته الداخلية ومطلق لعنان إرادته القوية مما يمنح لعقله الثبات ورباطة الجأش عند حضور المدلهمات ووقوع الخطوب التي تزلزل ضعاف النفوس..
ويصدق فيه قول القائل:
يعـــد بألف من رجال زمانـــه *** لكنه فــي الألمعيــة واحــــد
خطوات لاكتساب الهمة العالية
كل معرفة تخلو من الأدوات اللازمة لتطبيقها وتنزيلها على الواقع فهي محض هراء وهي بعيدة كل البعد عن الحكمة، من هذا المنطلق ينبغي التذكير ببعض الخطوات العملية التي إذا قمت بتفعيلها وواظبت عليها حزت قسطاً وافراً من الهمة:
1- لتقوية عضلات الإرادة المترهلة لديك، قم بفعل الأشياء التي لا تحب القيام بها عادة، فعندما تفعل ذلك فلن تعود عبداً لنزواتك وستحظى بقسط وافر من الحرية...
2- التزم الصمت في معظم يومك إلا في قول الخير والنصيحة.. وحاول ألا تتكلم إلا إذا وجه لك الكلام مباشرة..
3- التزم بالاستيقاظ المبكر ساعة قبل موعدك المعتاد واستغلها فيما ينفع، وعملك هذا سيعزز من ثقتك بنفسك.
4- ممارسة الرياضة والتأمل..
5- استعمل وسائل الاتصال والتكنولوجيا في حدود الحاجة الملحة فقط..
6- اترك التدخل في ما لا يعنيك، وابتعد عن الخوض في سفاسف الأفعال والأقوال..
7- ابتعد عن الغضب وسيء الأخلاق، وأحب للناس ما تحب لنفسك، واعط بدون مقابل أو شرط...