بِقَلَم: السَّيِّد شِلِيل
إهداء
***
إلى عم حمدان الرجل الطيب
الذي روى خيالي وحركه ، فكتبت تلك النوادر.
مقدمة مهمة
*********
من النوادر التي لا يمكن نسيانهم أبدًا، رواها أصدقاء عم حمدان المقربون ، وعايشنا بعضًا منها ونحن صغار، منذ أن ترك عمله، في مضرب الأرز، وفتح محلًا أسفل بيته لحلاقة الشعر، وتعليق المحاليل للمرضى، والتغيير على الجروح للمصابين، وغيرها من الأعمال التي جعلته محبوبًا من الجميع.
النادرة الأولى
خروف عم حمدان
**************************
قال الرواة وكانوا ثلاثة، من الرجال البالغين العاقلين، أن عم حمدان مثل كل الناس القادرين، اشترى خروفًا كأضحية ، قبل العيد بشهر تقريبًا، وربطه بجوار بيته وكلفني برعايته ، ووضع الطعام والماء له، وكنت أجد متعة في عمل ذلك، إلا أن بعض الزبائن، الذين كانوا يجدون المحل مغلقًا، يقفون أمام البيت وينادون- بأعلى صوت- إذا كانوا كبارًا في السن يقولون: حمداااااان فيخرج عليهم، وقد غلبه سلطان النوم، أو وهو يريهم يديه ؛ حتى يدركوا أنه لم ينته بعد من تناول طعامه، فينتظرونه حتى يتنزل إليهم، ويباشر عمله، وإذا كانوا في نفس عمري، أو أصغر ينادونه: بعم حمدااان ولا يكفون عن النداء، إلا إذا طل عليهم من نافذة بيته، واستمع لطلباتهم، وذهب معهم إلى منازلهم. حتى جاء اليوم الموعود، واقترب الثلاثة رجال، دفعة واحدة من المحل، وكان اليوم الاثنين، وأصروا على النداء، رغم علمهم التام، بأنه يوم عطلة رسمية ، نادوا في صوت واحد حمدااااان، يا حمدااان يا حمدااااان، ولم يفتح باب النافذة كالمعتاد، ولم يطل عليهم بوجهه البشوش وشعره الأبيض الناعم، ولكننا علمنا بعد ذلك، أن سر فرارهم وعدم اقترابهم من المحل مرة أخرى، إلا بعد عيد الأضحى، عندما سمعوا الخروف ينادي مثلهم، حمداااااان حمدااان حمداااان!
النادرة الثانية
رنات عم حمدان
***************
ذات يوم أشار أحد أصدقاء عم حمدان ناصحًا: يا رجل اشتري هاتفًا محمولًا، حتى تتخلص من مضايقة الزبائن وزنهم المستمر!
من يريدك يتصل عليك، تذهب معه لتقضي حاجته، وإذا كنت مشغولًا ؛ اعتذرت أو انتظرك، حتى تنتهي من أشغالك ، لم يكذب عم حمدان خبرًا، واشترى هاتفًا جديدًا أسود، وعلقه على خصره في جراب من الجلد، وطلب مني أن أكتب، بخط كبير واضح ورقة، أذكر فيها رقمه تحت الاسم ، وقام بلصق الورقة، على باب محله من الخارج ؛ حتى إذا أُغلق رأه الزبائن واتصلوا عليه، ومن يومها لم ير عم حمدان النوم!
ولم يهدأ هذا الهاتف الممسوس من الرن، حتى أن كل سكان الشارع والشوارع الأخرى، اتصلوا عليه من يريده ومن لا يعرفه أصلا، وقبل أن يقرر التخلص منه نهائيًا ، وتمزيق الورقة ، فكر في الذهاب إلى أكثر أصحاب الأرقام اتصالًا!
كان الرقم للأستاذ رجب بائع الهواتف نفسه، فكرنا قليلًا، ما الذي يمكن أن يحتاجه ،حتى يكرر الرن كل هذه المرات!
تذكرنا والده الحاج سمعان، الذي يسكن في نفس البيت، ربما كان يحتاج إلى ضرب إبرة في العضل أو الوريد أو حلاقة شعره!
جهز عم حمدان حقيبته الصغيرة، وتأكد من وجود القطن والسبيرتو وبعض الأدوات الطبية والمقص ، وذهب إلى بيت عم سمعان ، الذي كان مريضًا بالفعل ويحتاج لتركيب محلول!
بعد أن قام بتركيب الكانيولا في ذراعه، وثبت عليها اللاصق الطبي، انبعث صوت قوي انتفض الأستاذ رجب، وبدأ يبحث في كل مكان، عن مصدر الصوت وعم حمدان يتقن الأداء، ويقسم بالله أنه سينصرف من البيت فورًا، إذا ظل الصوت يلاحقه، دون أن يهتدوا لمكانه !
هرول الأستاذ وفتح الباب ، وبدأ يبحث على السلم ، حتى تعارك مع أهل بيته قائلًا: تتركون البيت هكذا تنتشر فيه القطط حرام والله!
قفز عم حمدان وهو يداعب و يشرح لعم سمعان، مدى خوفه من هذا المواء المستمر!
كان الصوت يتردد في كل مكان، وهكذا نجحت خطتي التي نفذها بإتقان عم حمدان ، في كل بيت كان يدخله ، من أصحاب المقالب والرنات المتكررة!
بعد أن نوعنا في أصوات الحيوانات ، التي وضعناها على هاتفه المحمول الذي لم يرن إلا قليلًا.
النادرة الثالثة
حمار وحلاوة
************
عن نفسي استغربت جدًا ؛ عندما شاهدت سعدًا داخل محل عم حمدان، وقررت النزول لأتأكد مما رأيته!
كان فعلًا يجلس على الكرسي الجلد الدوار، ولكنه كان نائما، والمروحة المثبتة على حاملها، أمام وجهه تمامًا، والمذياع مغلق على غير العادة، وكلما اقترب زبون من المحل، أشار له عم حمدان بيده ؛ فيبتعد فورًا حتى أنا، لكني تابعت كل شيء، داخل المحل من شرفة منزلنا. وعندما بدأت ماكينة الحلاقة الكهربائية، في تجريف رأس سعد كتمت ضحكاتي بيدي، وعم حمدان يسرع حتى أتم المهمة!
وأشار لي ؛ فنزلت وجمعت رجال وأطفال شارعنا، وصرخ عم حمدان في أذن سعد قائلًا: حمار وحلاوة!
انتفض سعد والتفت حوله، وأمام ضحكات الجميع، لمح ما حدث في المرآة، وملس بأطراف أصابعه المرتعشة، على رأسه الملساء وصرخ في الجميع ؛ فسكتنا إلا عم حمدان الذي أمسكه من ملابسه، وهزه بقوة قائلًا: هذا أفضل ما عندي أنا أيضا حمار وحلاوة!
وذكره عندما طلب منه بطيخة، فالتقط له واحدة وضرب عليها عدة ضربات بيده، وقال له: كل وادعو لي ، أخذتها ووضعتها في المحل، حتى انتهيت من آخر زبون، وصعدت إلى البيت، وعندما شرعت في تقطيعها ضحك كل من في البيت حتى أم الأولاد يرضيك!
وألقينا بها فوق السطح طعامًا للبط.
وثاني يوم وجدتك بجوار المقهى، اقتربت منك وعاتبتك ؛ فألقيت باللوم علي ؛ لأنني تركت البطيخة في المحل لمدة ساعة، حتى تبدل لونها وطعمها، وعندما استغربت وأشرت إلى ما لديك من بطيخ على العربة قلت: طالما لم يبرح العربة ؛ فلن يتغير لونه ولا طعمه، وسحبت واحدة وقلت لي: لو أردت لقطعتها أمامك الآن، ولكن جلبابك الأبيض الشاهق، لن يظل نظيفا كما هو، وحتما أم الأولاد سوف تتعارك معك أعطيتك ثمن البطيخة الجديدة وانصرفت تتذكر! وفي البيت كان مصيرها نفس مصير ما قبلها للبط ، جلس سعد على ركبتيه ولملم شعر رأسه وأخذه وجرى من المحل، وعم حمدان ينظر ناحيتي ويضحك، والجميع يرددون خلفه حمار وحلاوة.
النادرة الرابعة
حمام عم حمدان
**************
أمسك عم حمدان بالحمامة البيضاء، بين أصابعه- كمتهمة تنتظر العقاب- ووقف في منتصف محله، في الدائرة التي صنعها الزبائن، والجيران ردًا على غضب أحدهم وهو ينظف كتفه!
وقال: منذ كنت صبيًا في العاشرة من عمري، أحببت تربية الحمام، وعرفت أنواعه وأسماؤه، وحرصت على متابعة كل جديد، بزيارتي لسوق الجمعة، الموجود في نهاية المدينة. جمعنا بقايا الأخشاب أنا واخوتي، ونضعها فوق سطح بيتنا القديم، حتى أصبحت أكداسا ؛ صنعنا منها أكبر داير في المحافظة كلها، وأغلبكم يعلمون ذلك الصغير قبل الكبير. وعندما كبرنا ومرت بنا الأيام والسنون، لم يستطع أحدًا منا التخلص من تلك الغية، حتى بعد أن من الله علي بهذا البيت الجديد، وفتحت فيه محلًا للحلاقة، اكتفيت بزوج من الحمام فقط ؛ ليؤنسا وحدتي ويعوضاني غيتي، التي اقتلعتها رياح عاتية، هاجمتنا ذات شتاء قارص، وأطاحت بالداير الكبير على الأرض. وليعلم الجميع بأن للحمام فضل كبير، فيما وصلنا إليه واقترب من كتف الزبون، وأشار إلى البقعة قائلًا: ستكون سببًا في سعادتك وسترى!
اندهشنا لهذا الكلام، ضحك البعض منا، وانصرف ولكنه افلت الحمامة من بين أصابعه، لتعود وترفرف وتستقر أعلى الصندوق الخشبي، المثبت في الحائط أما الحمامة السوداء كانت مستكينة في مكانها داخل الصندوق. انصرف الجميع، والبعض منهم متأثرًا، بكلام وذكريات عم حمدان، والبعض الآخر متشكك في ذلك وأنا من بينهم. اقتربت من عم حمدان، وجدته يحدق في الحمامتين، ويحدثهما ويشير إلى الأرض ، بدا وجهه البشوش حزينًا، وعقله الراجح حائرًا، بعد أن أقسم الجميع على عدم المجيئ، إلى محله مرة أخرى. فجأة ابتسم وطلب مني أنا أكتب له، بخط جميل واضح رسالة سيمليها علي.
في الصباح استيقظنا، على نداءات متكررة لعم حمدان وبعد عدة محاولات خرج عليهم، وهو يقسم بأنه لن يفتح المحل ولن يباشر عمله ؛ حتى يعتذروا للحمامة البيضاء، كما هو مكتوب في الورقة، المثبتة على باب المحل! والغريب أن من ضمن الحضور، زبون الأمس والذي روى للجمع، الذي التف من حوله، بأنه رأى جزء من الخير بالأمس، بعد أن تركهم وجد حمامتين، في قفص من الجريد أمام باب بيته!
وسبب مجيئه اليوم معهم ؛ لينال بركة الحمامة البيضاء من جديد!
خرج عم حمدان من باب بيته، واقترب من محله، والجميع يهللون والنساء تزغردن، والأطفال فرحون، ولكنه وقف محذرًا من غضب الحمام، لو لم يقبل اعتذارهم تهافت الجميع يسألون: ولو حدث ذلك كيف نصالحهم؟
بدا جادا وهو يخبرهم بضرورة مساعدته، في لم الأخشاب من كل مكان، وصناعة داير أكبر ؛ حتى تتجمع فيه حمائم كثيرة وأنواع مختلفة اتفق الجميع على اقتراح عم حمدان، وعندما دخلوا المحل، لم يجدوا للحمام أثرا!
تفرق الجميع في الحال، يشرعون في جمع الأخشاب ؛ لصناعة الداير الجديد وعم حمدان ينظر ناحية شرفتي، ويضحك بعد أن نجحت الفكرة التي اتفقنا عليها.
الكاتب في سطور
ـ الاسم : السيد شكري شليل .( السيد شليل )
ـ مواليد : 26/1/1973 . ـ جمهورية مصر العربية ، محافظة دمياط .
ـ قاص وروائي وكاتب قصص للأطفال .
ـ عضو بقصر ثقافة دمياط منذ عام 1988 - عضو اتحاد كتاب مصر فرع أدب الطفل
1-صدر له عدة كتب ومجموعات قصصية من أهمها ( الرائحة - طبنجة ميري - ما حدث في بستان العم سعفان - سُبل السعادة - خطوط متعرجة - الصياد والطائر - قوس قزح - بدون ألوان -أقدام من ذهب ....) وغيرها
ـ نشر له في العديد من النشرات الأدبية منها : الأهرام - الجمهورية - المساء - الخبر الجديد - الدستور- الأهرام-الزمان-الرأي - القاهرة - وغيرها ....
و في مجال قصص الأطفال ( النشر الورقي ) :مجلة قطر الندى - فارس - الهلال الصغير. العربي الصغير وغيرها
***تم تكريم الكاتب من قبل الشباب والرياضة ، وقناة مصر الحياة الفضائية / وزارة التربية والتعليم وغيرها
فاز كتابه (خطوط متعرجة) في مسابقة دار الماهر بالجزائر
فوز كتابه (قوس قزح بدون ألوان) في المسابقة الدولية لمؤسسة هبة بنداري