إشكاليات الخطاب الأيدولوجي في الوسط الفكري العربي الحديث والمعاصر

            يقولون بأَنَّ التفكير المجرد وإعمال العقل نشاطٌ محض إنساني؛ إذ ينفرد به صديقُنا الإنسان عن سائر الكائنات الحية الأخرى. وعلى الرغم من  عدم موثوقيتي من هذا الزعم الذي يتطلب دليلًا موضوعيًّا يبرهن به المدعي على اقتحام العوالم الإدراكية للكائنات الأخرى، فإِنَّني أقرُ حتمية التفكير وأهمية المفكرين في حياة الإنسانية. وكل إنسان، لا شك، مفكر يمتلك قدرًا معينا من إعمال العقل، لكنني أعني بالمفكر هنا ذلك الإنسان الذي يمتلك رؤية وتصورًا كاملًا أو ناقصًا للتفاعل مع مشكلات مجتمعه؛ إذ ينبغي بهذا التعريف على المفكر أَلَّا يكونَ جزءًا من قطيع المجتمع أو المجموعة النفسية له، بل يحاول النظر الموضوعي إلى بيئته وما تئن به من معضلات وأزمات. في هذا الصدد، عادة ما نكونُ أمام أناس مغتربين عن مجتمعهم فكريًّا؛ بحيثُ إِنَّكَ تجدُ الواحد منهم يرى المجتمع من خارجه، غير منكمش وسجين في كوب فكره وسلوكيات أهله، لا ينثني كما ينثنون، ولا يعلو كما يعلون، ولا يفكر داخل كأس فكرية مماثلة لهم. لذا، هذا الخروج على العقل الجمعي هو بالضرورة مكلف على الصعيد العقلي والنفسي لأهله؛ لأَنَّ عادة ما يُواجَهُ آلُ التفكير بالرفض من قِبَل المجموعة النفسية لمجتمعهم، وبذلك يتعرض تُراثُهم الفكري، بما في ذلك سلوكياتهم، إلى التشويه والنبذ والمعارضة الغليظة. في هذا المقال سأسلط الضوء على أهم ما وقع فيه بعض المفكرين العرب من أخطاء نجم عنها تشويه لمعنى المفكر ودوره في حياة أهله، كما أَنَّها لم تثمر بثمرات اجتماعية وددتُ لو طُرِحَتْ بطريقة مناسبة لحال المجتمع، بدءًا من التعبير الأيدولوجي للمفكر، مرورًا بالخطاب الفكري النخبوي المكثف، وانتهاءً بإشكالية التعارض بين عقل المجتمع الجمعي وعقل المفكر الفردي وما بينهما من تغيير منشود للتلاقي.

            لقدْ أصرَّ عدد ضخم من آل التفكير على أن يبسطوا أيديهم، مخاطبين المجتمع بطريقة أيدولوجية صارمة واضحة، سواءً ذلك في كتبهم المنشورة أو إبان محاوراتهم ونقاشاتهم الإعلامية والصحفية. وأعني ب"الخطاب الأيدولوجي" الخطاب الذي يعبر عن انتماء الإنسان من حيثُ المواقف الوجودية الكلية تُجاه الأسئلة الكبرى المقلقة في حياة الإنسان، كأن يكتب أحدٌ كتابًا كاملًا أو سلسلة من الكتب؛ فقط للدفاع عن أو التهكم على دين من الأديان. ويتمثل الخطر، في هذا الصدد، في الدعوة إلى أفكار منهجية معينة؛ ما يساهم في عزوف المفكر عن الموضوعية الفكرية، فليسَ من دور المفكر عندي حل إشكاليات الوجود الإنساني على الإطلاق في صورة اجتماعية. وهذه الأخطاء المنهجية نجدها واضحة، على سبيل المثال،  عند شخصيتيْنِ فكريتيْنِ متضادتيْن في المنهج الوجودي، أعني الدكتور والفيلسوف الكبير عبد الرحمن بدوي والدكتور سيد القمني، وذلك عند كتب د. عبد الرحمن بدوي كتابيه "دفاعي عن محمد، صلى الله عليه وسلم، ضد المنتقصين من قدره" و"دفاع عن القرآن ضد منتقديه"، إلى جانب كتاب "رب الزمان" وكتاب "الحزب الهاشمي" لسيد القمني. إِنَّ المشكلة الكبرى، في تقديري الشخصي، في هذه الكتب أَنَّها كتب تحمل في طياتها انحيازات فكرية؛ فلم يؤلفها الأستاذان إِلَّا ليضعا آراءهم المحض يقينية وشخصية، أحدهما في الدفاع والتوقير، والآخر في النقد والنبذ لموضوع واحد، ألا وهو الإسلام. ولو استطاع الكاتبان تبني الوقوف على الحياد والموضوعية في عرض مناهجهما الفكرية، لكان ذلك أوقع لدور المفكر في حياة العلم والمجتمع على حد سواء. في هذا الصدد، أؤكد وأكرر: حرامٌ على الادعاءات الشخصية للمفكر، سواء بالإيجاب أو بالسلب تجاه الدين، أن تظهر في كتبه وأعماله؛ لأَنَّ ذلك من الذي يجعله منتميًّا إلى فئة معينة من البشر، وهذا أقرب إلى الهدم منه إلى البناء.

            والناظرُ في أمور الفكر والثقافة، والمتفحص في أحوالها، يجدُ أَنَّ المكتبة العربية تزخر بعدد لا بأس به من المشروعات الفكرية الجادة. ففي إصلاح التعليم يتصدر الأستاذ الدكتور طه حسين مشهدًا لامعًا في بناء رؤيته في كتابه الصادر في أواخر الثلاثينيات "مستقبل الثقافة في مصر"، والمتأمل أحوال فحص العقل العربي وإصلاحه يجد الدكتور زكي نجيب محمود والدكتور طارق حجي والدكتور محمد عابد الجابري ثلاثية رائعة في تحليل العقل العربي. لكن كتبهم وما بها بعيد كل البعد عن المجتمع من حيث الاطلاع عليها وفهمها، فضلًا عن تنفيذها على أرض واقعنا المعاش. والسبب المباشر في هذا عجز المجتمع عن التلاقي مع أعمال هؤلاء المفكرين، بالإضافة إلى عزوف المفكرين أنفسهم عن التلاقي مع المجتمع في صورة مباشرة واضحة؛ ما يجعلهم يكتبون وينشدون التغيير في الكتب، بالإضافة إلى الندوات الثقافية الخاصة. وقد يكون السبب المباشر في ذلك عدم استجابة العقل الجمعي للمفكرين وأطروحاتهم، مثل سائر المجتمعات الإنسانية، لما عرضناه آنفا من انفرادهم بالطرح.

            وجملة القول إِنَّ الثقافة العربية تحتاج أول ما تحتاج إلى العناية بالمفكرين، وإدراك أثرهم في حياتهم، وأن  بالفعل تفوق عقولهم عقلهم الجمعي. وإن قلتُ بأَنني أقتنعُ بأَنَّ تطبيق هذا أمر يسير، لكنتُ من المثاليين الذين لا يعرفون عن واقع مجتمعهم شيءًا. لكن حسبي التذكير ولفت الانتباه إلى هذا؛ عسى ينصلح الحال فكريًّا من ناحية  عرض أطروحات المفكرين أنفسهم، ثم استجابة مجتمعاتهم لها، أو التوقف عن محاربتها، على أدنى تقدير.



مشاركة:
فيسبوك تويتر بنترست واتساب لينكدان

0 تعليقات

اكتب تعليق

مقالات متعلقة

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.