batolali

شارك على مواقع التواصل

-"أنا معجب بكِ وأريد أن أرتبط بكِ بشكل رسمي".

ظلت تلك الكلمات التي ألقاها ذلك الرجل "مؤمن" على مسامعها في يوم الحفلة تتردد في أذنيها ... تمتمت بحيرة وهي تعبث في هاتفها حتى تقضي على الملل الذي تشعر به:

-"ومن تكون أيها الغريب؟ هل أنت عدو يريد إيذائي أم صديق يريد وصالي؟ لا أفهم لماذا كنت تلاحقني باستمرار أينما ذهبت وكأنك تخشى أن تفقدني ثم اختفيت فجأة وكأنك مللت صحبتي؟!"

أسئلة كثيرة ترددت في ذهنها طوال الأسبوع الماضي بعدما ذهبت إلى الحفلة ورأت مؤمن الذي صارحها بحبه الشديد لها وأخبرها أنه يعرفها منذ زمن بعيد.

على الرغم من ابتعادها عنه في ذلك اليوم إلا أنها أصبحت تراه في كل مكان تذهب إليه ، النادي ، والمولات التجارية بل ووصل به الأمر إلى ملاحقتها في مدينة الملاهي.

قطع خلوتها صوت طرقات على الباب فاعتدلت في جلستها وقالت:

-"ادخل".

دلف الساعي ووضع فنجان القهوة على المكتب لتشكره "مي" بلطف وهي تبتسم:

-"سلمت يداك يا عم رشيد".

أمسكت الفنجان وارتشفت القليل منه ثم استكملت:

-"لا يمكن لأي أحد أن يقاوم رائحة قهوتك الرائعة".

نظر لها رشيد هذا العجوز ذو الوجه البشوش وبادلها ابتسامتها:

-"صحة وعافية".

غادر رشيد وترك مي ترتشف قهوتها وهي تفكر في أمر مؤمن الذي اختفى فجأة منذ يومين ولم يعد يظهر في كل مكان تذهب إليه كما كان يفعل في الأيام الماضية.

أعلن هاتفها عن وصول رسالة ففتحتها وكانت الصدمة عندما رأت صورة تقرير الطبيب الشرعي الذي يؤكد أن أيمن مات مقتولا.

اتسعت عينيها بخوف وابتلعت ريقها بصعوبة قبل أن تفتح الرسالة الأخرى التي وردتها من الرقم نفسه.

(سأرسل لكِ عنوان المكان الذي سوف نتقابل به في رسالة أخرى ستصلك خلال ثلاث ساعات ... من الأفضل أن تأتي إلى العنوان حتى لا ينكشف سرك ويظل محفوظا)

أمسكت قارورة المياه وارتشفت ما بداخلها وأحاطت وجهها بكفيها ... تعالت أصوات أنفاسها وانحدرت دموعها وهي تتساءل:

-"من يكون هذا المبتز وماذا يريد منِّي؟"

أنهت عملها وذهبت إلى العنوان الذي أرسله لها ذلك المبتز وانتظرت ساعة كاملة قبل أن يجلس أمامها رجل يبدو من هيئته أنه في منتصف الثلاثينيات من عمره ولكنه يبدو مريبا جدا رغم أن ملامح وجهه ليست سيئة ولكنه نظرة الشر في عينيه تجعلك تجزم بأن هذا الشخص من المغضوب عليهم.

-"أظنك تعلمين جيدا ماذا سيحدث لكِ إذا وصلت هذه الأوراق إلى النيابة".

قالها بتهكم واستهزاء لتبتلع مي ريقها بصعوبة هامسة بخوف:

-"ماذا تريد مني بالضبط؟"

ابتسم بمكر وهو يجيبها:

-"سأخبرك بكل شيء أريده".

عادت مي إلى منزلها وهي تشعر بأن الدنيا ضاقت من حولها ... اقتربت منها والدتها وشعرت بالقلق عندما رأت شحوب وجه ابنتها ... ملست على وجنتها وهتفت بتساؤل:

-"هل أنتِ بخير يا حبيبتي؟ ماذا حدث لكِ؟"

تنهدت مي بألم ورسمت على وجهها ابتسامة مصطنعة حتى تطمئن والدتها:

-"لا شيء ... مجرد إرهاق بسيط وسيزول عندما أنام وأرتاح قليلاً".

ابتسمت والدتها وقالت بلطف:

-"لا بأس يا صغيرتي ... اذهبي إلى غرفتك وبدلي ملابسك حتى أنتهي من إعداد الغداء".

توجهت مي إلى غرفتها وألقت حقيبتها بإهمال وجلست على السرير وهي تفكر في حل يخرجها من تلك الورطة الجديدة التي وقعت بها.

إسرائيلي ... أجل هذا الشاب ليس سوى إسرائيلي حقير ... استطاعت الآن أن تفهم لماذا شعرت بالرهبة عندما وقعت عيناها عليه فهو ممن وصفهم الله  تعالى في كتابه العزيز بالمغضوب عليهم.

ووقعت أسيرة الابتزاز ... سخرت بداخلها من الحالة التي وصلت إليها فبعد أن كانت مثالا يحتذى به في الأمانة والنزاهة أصبحت وجبة شهية في أفواه أعداء الوطن.

صحيح أن هذا الشاب لم يخبرها أنه عميل للموساد ولا بأنه إسرائيلي فهو تحدث معها بلهجة مصرية سليمة لا تشوبها شائبة ولكنها استنتجت ذلك بعدما طلب منها أن تعطيه معلومات خطيرة خاصة بالمشاريع التي يقومون بها في الهيئة وتلك المعلومات لا يهتم بمعرفتها سوى أعداء الوطن وعلى رأسهم الصهاينة الأوغاد.

استغرقت "مي" دقائق في التفكير وهي تحاول ربط جميع الخيوط ببعضها واتضح أمامها أنها بالفعل وقعت بين براثن الموساد الإسرائيلي فكما هو معروف عن هذا الجهاز اللعين أنهم يجندون العملاء بعدة طرق مختلفة ومن بينهم الابتزاز ويعد ذلك من الطرق السهلة جدا لهم لأنهم يعتمدون على خوف العميل من أن يفتضح السر الذي يخشى أن يعرفه أحد ، كما أنهم وفي كثير من الأحيان لا يخبرون العميل أنهم إسرائيليون بل يوهمونه بأنهم ينتمون إلى إحدى المنظمات التي لا تشكل تهديدا لوطنه حتى يمرر لهم ما يريدونه من معلومات ولا يكشفون حقيقتهم للعميل إلا عندما تنزلق قدمه في بئر الخيانة فحينها لن يستطيع معارضتهم وسيستمر في تمرير المعلومات لهم حتى لا يكشفوا أمره أمام جهاز المخابرات الخاص بوطنه ولأنه لا أحد يعلم بتلك المعلومات الحساسة سوى القليل من أفراد الهيئة وهي من ضمنهم وذلك لأنها تشغل منصبا حساسا وخطيرا قرر الموساد تجنيدها بطريقة غير مباشرة للعمل معهم وإعطائهم جميع المعلومات التي يريدون الحصول عليها.

توصلت مي إلى كل تلك الاستنتاجات بفضل ذكائها وقدراتها  فهي لم تحصل على درجتي الماجستير والدكتوراه في وقت قياسي من عبث ولكنه بسبب عبقريتها ولعل هذا هو السبب الذي جعل رجال الموساد لا يصارحونها بحقيقتهم لأنهم يعلمون أنها سترفض التعامل معهم ففضلوا أن يأخذوا منها جميع المعلومات دون أن تعلم هوية الأشخاص الذين تتعامل معهم.

استمعت إلى نداء والدتها فخرجت من الغرفة وجلست على المائدة وتناولت الطعام وهي تفكر في طريقة تتعامل بها مع هؤلاء الأوغاد الذين لا يوجد لهم عهد ولا ميثاق فعلى الرغم من معاهدة السلام التي توجد بين الدولتين إلا أنهم يسعون دائما لتدمير مصر وشعبها.

سخرت بداخلها وهي تتمتم بتهكم:

-"دولة!! وهل يوجد دولة تدعى إسرائيل؟!"

منذ متى وهي تعترف بأن إسرائيل دولة؟!

هؤلاء الصهاينة الملاعين ليسوا سوى مجموعة من العصابات قاموا باحتلال الأراضي الفلسطينية عام 1948 وذلك بعدما استغلوا مدة الهدنة المتفق عليها وشحذوا أسلحتهم وطلبوا الدعم من بعض الدول الغربية التي ساندتهم حتى ربحوا الحرب ضد العرب.

كورت يدها بغيظ من وضاعة هؤلاء السفلة فهي لم تر في حياتها من هم أكثر تبجحا منهم فمن يراهم وهم يدافعون عن دولتهم المزعومة ويرى محاولاتهم المستميتة في أن يجعلوا جميع الدول تعترف بأن القدس عاصمتهم يظن أنهم أصحاب حق في أراضي فلسطين بل وزادت وقاحتهم عندما ضموا مؤخرا هضبة الجولان السورية المحتلة إلى الخريطة الإسرائيلية الجديدة على الرغم من إقرار جميع الدول عدا الولايات المتحدة الأمريكية بأن هضبة الجولان عربية وسورية وهذا ما كانوا يريدون فعله في طابا ولكن أوقفهم حينها قرار المحكمة الذي أكد بأن طابا تابعة لمصر ولا يوجد حق لإسرائيل بها.

فلسطين ليست أرضهم ولن تكون لهم أبدا وسيأتي اليوم الذي ستتحرر به بعدما يتلقوا هزيمة نكراء كتلك التي تلقوها في حرب أكتوبر على يد الجيش المصري وستكون تلك الهزيمة أشد وأقوى من التي سبقتها لأنه حينها ستنتهي دولة الصهاينة إلى الأبد.

أنهت "مي" طعامها وعادت إلى غرفتها وتمددت على سريرها وأغلقت جفنيها وقررت أن تؤجل التفكير في الأمر حتى حلول الصباح.

ذهبت "مي" في اليوم التالي إلى النادي برفقة إيمان وكادت تخبرها بما حدث معها ولكنها تراجعت وقررت أن تحل مشكلتها بمفردها تلك المرة.

في أثناء حديثها مع شقيقتها لمحت مؤمن بالقرب منها بعدما ظنت أنه سيختفي من حياتها وينسى أمرها ... وعاد أخيرا هذا الرجل الغامض الذي شغل جزءا كبيرا من تفكيرها وهي لم تعرف عنه أي شيء سوى اسمه فقط.

-"سأتوجه إلى المرحاض".

قالتها "مي" باقتضاب حتى تبتعد وتهرب من تلك النظرات المريبة التي تراها في عينيه والتي جعلتها تستغرب ففي كل مرة ترى بعينيه نظرات عشق وهيام أما اليوم فنظراته مليئة بالشكوك والتساؤلات.

ابتعدت قليلا عن المكان حتى تنفرد بنفسها ولكنها تفاجأت به يقف أمامها ويسألها بحدة:

-"من هذا الرجل الذي كنتِ تجلسين برفقته بالأمس في المطعم؟"

فغرت فمها بدهشة وذهول فهو يعتقد أنها مرتبطة بهذا الوغد الإسرائيلي الذي تفضل أن تلقي بنفسها في جهنم ولا تتعامل معه ... رمقته بنزق وهي تهتف بحدة:

-"هذا ليس من شأنك ... ابتعد عن طريقي".

عادت إلى الطاولة حيث تجلس شقيقتها وأخبرتها أنها سترحل لأنها لم تعد تطيق الجلوس في المكان.

استفاقت "مي" من دوامة ذكرياتها وهزت كتفيها بإحباط عندما قال القاضي:

-"تؤجل الجلسة إلى التاسع عشر من الشهر الجاري ... رفعت الجلسة".

انحدرت دموعها فهي ستعود إلى السجن مرة أخرى دون أن تعلم شيئا عن المصير الذي ينتظرها ... هل ستنال البراءة أم سينتهي بها المطاف جثة هامدة معلقة على حبل المشنقة؟

هذا السؤال سيظل يتردد في ذهنها طوال الأيام القادمة حتى يحين موعد جلستها النهائية.

اقتربت إيمان من القفص وهتفت بحزن وهي تحاول كبح دموعها فهي تشعر بغصة مريرة تعتصر قلبها بسبب الأزمة التي تمر بها شقيقتها:

-"لا تقلقي حبيبتي ... ستنالين البراءة في الجلسة القادمة إن شاء الله".

أومأت "مي" رأسها إيجابا وهتفت بهدوء وهي تحاول أن تتظاهر بالثبات عكس الانهيار الذي تشعر به داخلها:

-"كيف حال أمي الآن؟"

أجفلت إيمان من سؤال شقيقتها فحالة والدتهما الصحية سيئة للغاية ولكنها تماسكت وأجابت بعد دقيقة من الصمت:

-"الحمد لله ... حالتها تحسنت كثيرا وهي بخير الآن".

سألتها مي بغصة وهي على وشك البكاء:

-"أين مؤمن؟ هل تخلى عني كما فعل الجميع؟"

وكانت الإجابة هي صوت مؤمن الذي هتف وهو يقف أمام القفص بجوار إيمان:

-"لن أتخلى عنكِ أبدا وسأفعل المستحيل حتى تخرجي سالمة من تلك القضية ... أنتِ لست مذنبة ولا يوجد لكِ يد فيما حدث".

ابتسمت "مي" من بين دموعها قبل أن يخرجها الضباط من القفص ويأخذوها إلى سيارة الترحيلات حتى تعود إلى السجن مرة أخرى.

#توقعاتكم
#batol

2 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.