hindawiorg

شارك على مواقع التواصل

في الصباح التالي، قابل فيشر سافيتش، وهو آتٍ من محطة الضَّخ ترينكهال. أومأ البارون
بتأدُّبٍ خالٍ من المشاعر، ومضىفي طريقه. وفي وقتٍ لاحق من اليوم نفسه، ناول أحد الخدم
احتوت «. يفترضالدكتور رابشويل أن هذا سيكون كافيًا » : فيشرلفافة، ومعها رسالة تقول
اللفافة على قطعتين ذهبيتين من فئة العشرين ماركًا.
سيعود إليه الأربعون ماركًا، لكن سأحصل في » : كزَّ فيشرعلى أسنانه، وتمتم في نفسه
«. المقابل علىسرِّه المحيِّر
عندئذ اكتشف فيشر أنه حتى الكونتيسة البولندية تفيد في العلاقات الاجتماعية.
كانت صديقة مائدة السيدة فيشر لطيفةً بطبعها، حين قصدها فيشر (من خلال
زوجته) بخصوص البارون سافيتش من موسكو. هل تعرف أي شيء عن البارون
سافيتش؟ بالتأكيد كانت تعرف، عنه وعن كل ذي شأن في أوروبا. هل ستتفضل بالإفصاح
عما تعرفه؟ بالتأكيدستفصح، وسيسعدها إشباع أدنى درجاتفضولصديقتها الأمريكية.
كان منعشًا — بالنسبة إلى سيدة عجوز لم يعد يبهرها شيء، ولم تعد منذ زمنٍ طويل
تكترث كثيرًا بالرجال والسيدات والأشياء والأحداث الجديدة — أن تقابل شخصًا آتيًا للتوِّ
من الأرجاء الفسيحة للعالم الجديد، مولَعًا للغاية باستطلاع أحوال عِلية القوم. أوه! نعم،

ستفصح، بترحيبٍ شديد، عن تاريخ البارون سافيتش من موسكو، إذا كان ذلك سيسرُّ
صديقتها الأمريكية العزيزة.
وفَّت الكونتيسة البولندية بوعدها بسخاء، مفصحة — علاوة على ذلك — عن مختاراتٍ
كثيرة من القيل والقال والفضائح، التي تتناول مجتمع النبلاء الروس، ولا علاقة لها
بالموضوع الأساسي. جاءت قصتها — كما لخَّصها فيشر — على النحو التالي:
لم يكن للبارون سافيتش وجودٌ سابق، وكان هناك غموضٌيحيط بأصوله، لم يُحَل
لغزه قط على نحوٍ مُرضٍفي سانت بطرسبرج، ولا في موسكو. قال بعضهم إنه لقيط من
لقطاء مؤسسة فوسبيتاتلنوي دوم.
واعتقد آخرون أنه الابن غير المعترف به لشخصية بارزة بعينها، ذات قرابة وثيقة
بآل رومانوف. وكانت النظرية الثانية أكثر ترجيحًا؛ إذ إنها تفسِّرإلى حدٍّ ما نجاحه المهني
المنقطع النظير، منذ اليوم الأول الذي تخرَّج فيه من جامعة دوربات.
كانت هذه السيرة المهنية براقة وسريعة التطور، على نحوٍ غير مسبوق. دخل السلكَ
الدبلوماسي القيصري، وكان لعدة سنوات ملتحقًا بالبعثات الدبلوماسية في فيينا ولندن
وباريس، ومُنح لقب البارون قبل أن يبلغ الخامسة والعشرين؛ لما أظهره من كفاءة عجيبة
في إدارة مفاوضات على مستوى عالٍ من الأهمية والحساسية، مع آل هابسبورج، وصار ذا
حظوة عند آل جورشاكوف، ومُنح كل الفرصلممارسة دهائه الدبلوماسي إلى حدِّ أنه قيل
في دوائر مطَّلعة في سانت بطرسبرج إن العقلية القيادية التي قادت النهج الروسي خلال
المسألة الشرقية برمَّتها، وخططت للحملة على نهر الدانوب، وأسهمت في انتصار جنود
القيصر، وفي الوقت نفسه أبقت النمسا على مسافة، وحيَّدت القوة الألمانية الهائلة، وأثارت
غضب إنجلترا، الذي لم يتطوَّر إلى تهديداتٍ خطيرة؛ تلك العقلية كانت عقلية البارون
الشاب سافيتش. كان من المؤكد أنه رافق إجناتييف في القسطنطينية حينما اندلع الصراع
للمرة الأولى، وكان مع شوفالوف في أثناء المباحثات السرية مع الدوق الأكبر نيكولاس في
أدرنه، حين وُقِّع بروتوكول لهدنةٍ عسكرية، وسيكون قريبًا في برلين في كواليس المؤتمر
الذي يُتوقَّع أن يَهزم فيه قادةَ أوروبا كلَّهم، وأن يُلاعب بسمارك ودزرائيلي، مثلما يلعب
رجلٌ قوي مع طفلين شقيين.
لكن الكونتيسة لم تشغل بالها كثيرًا بإنجازات ذلك الشاب الوسيم في مجال السياسة،
بل كانت تولي حياته الاجتماعية اهتمامًا خاصٍّا؛ إذ لم يكن نجاحه في هذا المجال أقل لفتًا
للنظر، فعلى الرغم من أن أحدًا لم يعرف على وجه اليقين اسم والده، فقد احتل بلا شك

مكانة رفيعة في الأوساط العُليا المحيطة بالبلاط الإمبراطوري، وكان من المفترضأن يكون
نفوذه لدى القيصرنفسه غير محدود. وبغضِّ النظر عن مولده، كان يُنظر إليه باعتباره
أفضل من أنجبت روسيا؛ فبفضل قوة نبوغه الهائلة، انطلق من الفقر، وأحرز لنفسه ثروةً
ضخمة، قدَّرها تقريرٌ بأربعين مليون روبل، ولم يجاوز التقرير الموثوق الحقيقة؛ إذ كان
كل مشروعٍ محفوفٍ بالمخاطر يباشره يحقق نجاحًا أكيدًا، بفضل مزايا التنظيم والتوليف
والتحكُّم نفسها، وهي الرأي السديد والمعتدل، والبصيرة البعيدة المدى، وما يبدو أنه قدرة
تتجاوز قدرات البشر، وهو الأمر الذي جعل منه ظاهرة العصرفي مجال السياسة.
ماذا عن الدكتور رابشويل؟ أجل، عرَّفتْه الكونتيسة بما سمعته عنه وبما رأته منه. لقد
كان الطبيبَ المرافق دومًا للبارون سافيتش، الذي جعله تنظيمه الذهني اليقظ ذا حساسية
عالية لهجمات المرضالمفاجئة والخطيرة. كان الدكتور رابشويل سويسريٍّا، وعمل في الأصل
صانع ساعات أو حِرَفيٍّا من نوعٍ ما، حسبما وصل إلى مسامعها. أما عن الباقي، فقد كان
رجلًا مألوفًا ضئيل الحجم كبير السن، كرَّس نفسه لمهنته وللبارون، وهو عديم الطموح
بشكلٍ واضح؛ إذ إنه أهمل تمامًا استغلال الفرصالتي أتاحها له منصبه وعلاقاته في إنماء
ثرواته الشخصية.
مسلَّحًا بهذه المعلومات، شعر فيشربأنه جاهز على نحوٍ أفضل، للاشتباك مع رابشويل
من أجل الاطلاع على السر. ظل ينتظر الطبيب السويسري لمدة خمسة أيام، وفي اليوم
السادس، سنحت الفرصة المأمولة من تلقاء نفسها، على غير المُتوقَّع.
في منتصف الطريق إلى قمة مركوريسبرج، في آخر النهار، قابل حارس البرج الخرب
كلا، البرج ليس مغلقًا؛ هناك رجل في أعلاه، يجري رصدًا للبلدة، وهو » . نازلًا إلى أسفل
لذا واصل فيشر صعوده. «. — أي الحارس — سيعود في خلال ساعة أو اثنتين
إن الجزء العلوي من البرج في حالةٍ متهالكة، ويعوِّضالنقصَفي السلالم المؤدية إلى
القمة سُلَّمٌ خشبيٌّ مؤقَّت. بالكاد عَبَر رأسُ فيشر وكتفاه الفتحة المؤدية إلى المنصة قبل أن
يكتشف أن الرجل الذي كان هناك بالفعل هو الرجل الذي كان يبحث عنه. كان الدكتور
رابشويل يدرس طوبوغرافية الغابة السوداء باستخدام منظار مُقرِّب.
أعلن فيشر عن مَقْدمه بتعثرٍ مُواتٍ، ومحاولة لاستعادة توازنه أحدثت جلبة، وفي
الوقت نفسه، كان يسدد ركلةً مختلسة إلى الدرجة الأخيرة من السلَّم، ويتشبث — بثقة —
بحافة الفتحة. سقط السلم مسافة ثلاثين أو أربعين قدمًا، محدِثًا ضجيجًا؛ نتيجة
لاصطدامه بجدران البرج واحتكاكه بها.

أدرك الدكتور رابشويل الموقف على الفور؛ فالتفت بسرعة، وعلَّق بنبرة ساخرة، قائلًا:
ثم عبس وكشر عن أسنانه، لمَّا تبيَّن له أنه فيشر. «. المسيو أحرج نفسه بلا داعٍ »
إنه لأمر مؤسف إلى حدٍّ » : قال الرجل القادم من نيويورك برباطة جأش لا تتزعزع
ما، سوف نظل محتجزَيْن هنا لبضع ساعات على الأقل، لكن دعنا نهنئ نفسَينا بامتلاك
«. كلٍّ منا رفيقًا نجيبًا، فضلًا عن المناظر الساحرة التي يمكننا تأمُّلها
أومأ السويسري ببرود، واستأنف دراساته الطوبوغرافية، بينما أشعل فيشرسيجارًا.
أرغب كذلك في أن أغتنم » : تابع فيشر وهو ينفث سحب الدخان باتجاه تويفلمفيل
«. هذه الفرصة؛ لأعيد ماركاتك الأربعين، التي وصلت إليَّ عن طريق الخطأ على ما أظن
إذا كان المسيو الطبيب الأمريكي غير راضٍ عن أجره، » : أجاب رابشويل بنبرةٍ لاذعة
«. فيمكنه بلا شك إعادة تسوية الأمر، من خلال تقديم طلب إلى خادم البارون
لم يُعر فيشرهجومه اهتمامًا، لكنه وضع القطعتين الذهبيتين على الدَّرابزين بهدوء،
أمام ناظري السويسري مباشرة.
لم أستطع مجرد التفكير في قبول أي أجر؛ فقد كوفئت » : قال بنبرة توكيد متعمَّدة
«. بسخاء على خدماتي البسيطة، بفرادة الحالة وأهميتها
دقَّق السويسري بعينيه الرماديتين الصغيرتين الحادَّتين في ملامح الأمريكي مليٍّا
وبثبات، وأخيرًا قال بلا مبالاة:
«؟ هل المسيو رجل علم »
وقد أبطن تحفُّظًا على كل العلوم، ما عدا ذلك العلم الذي يشرح «. أجل » : أجاب فيشر
لعبتنا الوطنية، البوكر، ويحتفي بها.
إذن فلربما يقر المسيو بأنه كان يندر أن يعاين حالة من » : تابع الدكتور رابشويل
«. حالات ثقب الجمجمة، أجمل أو أكبر من هذه
رفع فيشر حاجبيه قليلًا.
والمسيو سيفهم أيضًا، كونه طبيبًا، الوضع الحساس » : وأكمل الدكتور رابشويل
للبارون نفسه ولأصدقائه، بهذا الصدد؛ ولذا سيغفر لي ما بدا أنه وقاحة، إبَّان اكتشافه
«. الأمر
إنه أذكى مما ظننتُ، إنه يمسك بجميع أوراق اللعبة، في حين » : قال فيشر في نفسه
لا أملك أنا أي شيء؛ لا شيء سوى القدرة على ضبط النفس، حينما يتعلق الأمر بلعبة من
«. ألعاب الخداع

إنني أشعر بالأسف العميق حيال تلك الحساسية، على الرغم من أنه » : وتابع جهرًا
خطر لي أنَّ نشر تقريرٍ دقيق حول ما رأيته، في إحدى الدوريات العلمية في إنجلترا أو
«. أمريكا سيلفت أنظار العالم، وسيُستقبَل باهتمام في أوروبا
ما رأيتَه! إنه زائف. أنت لم ترَ شيئًا؛ فحينما دخلتُ لم تكن » : صرخ السويسري بحدَّة
«… حتى قد أزلت ال
وهنا توقَّف هنيهة ودمدم في نفسه، كما لو أنه يلعن تهوُّره، أما فيشرفاحتفل بتفوقه،
بإطفاء سيجاره نصف المُدخَّن، وإشعال واحدٍ جديد.
أما وإنك تضطرني إلى أن أكون » : أكمل الدكتور رابشويل بعصبيةٍ متنامية بوضوح
صريحًا، فسأعلمك بأن البارون أكَّد أنك لم ترَ شيئًا، فلقد قاطعتك في أثناء قيامك بإزالة
«. القلنسوة الفضية
سأكونصريحًا » : ردَّ فيشر، في محاولةٍ أخيرة، راسمًا على وجهه تعبيرات أكثرصرامة
بالقدر نفسه، فبخصوص هذه النقطة، ليس البارون شاهدًا يُعتدُّ به؛ لقد كان في حالة
«… إغماء لبعضالوقت قبل أن تدخل، فربما كنتُ أزيل القلنسوة الفضية حين قاطعتني
شحب لون الدكتور رابشويل.
«. ولربما كنتُ أعيدها إلى مكانها » : ثم قال فيشر ببرود
بدا أن طرح هذه الاحتمالية وقَع على رابشويل وَقْع الصاعقة المفاجئة من بين الغيوم.
وهنَتْ ركبتاه، وكاد يتهاوى على الأرض، ووارى عينيه بيديه، وأخذ يبكي مثل الأطفال، أو
بالأحرى، مثل شيخٍ منكسر.
سينشره! سينشره ليقرأه الصفوة وليقرأه العالم! وعند » : صاح بطريقة هستيرية
«… وقوع هذه الأزمة
ثم، وفي محاولة يائسة، بدا أن السويسري استعاد ضبطه لنفسه إلى حدٍّ ما. هرول في
محيط المنصة لعدة دقائق، ورأسه منحنٍ وذراعاه معقودتان على صدره. قال ملتفتًا مرة
أخرى إلى مرافقه:
«… لو أن أي ثمن تطلبه فسوف »
قاطع فيشر العرضضاحكًا.
«… إذن، لو؛ لو جثوتُ بباب عطفك » : قال رابشويل
«؟ ماذا إذن » : سأله فيشر
«؟ وسألتك أن تعدني، بشرفك، بالتزام الصمت التام بشأن ما رأيته »

«؟ الصمت حتى ذلك الوقت الذي لن يعود فيه للبارون سافيتش وجودٌ مثلًا »
سَيَفِي ذلك بالغرض؛ إذ إنه حين لا يعود له وجود، سأهلك. وما » : قال رابشويل
«؟ شروطك
«. أريد القصة الكاملة، هنا والآن، ودون إخفاءشيء منها »
إنه لثمن باهظ هذا الذي تطلبه مني، لكن ثمة مصالح أكبر من » : قال رابشويل
«. كبريائي على المحك. سألقي على مسامعك القصة
لقد درجتُ على كوني صانع ساعات، في كانتون زيورخ، » : وتابع بعدما توقَّف مليٍّا
ولا أكون مغرورًا حين أقول إنني وصلت إلى درجة مدهشة من الحرفية في هذه الصنعة،
ولقد طوَّرتُ قدرة على الابتكار قادتني إلى سلسلة من التجارب المتعلقة بإمكانات التراكيب
الميكانيكية المجردة، لقد درستُ الآلات الذاتية الحركة الأفضل على الإطلاق التي صنعتها
براعة الإنسان، ورقَّيتُها، واستحوذ على اهتمامي بشكلٍ خاصآلة بابيج الحاسبة؛ إذ رأيتُ
في فكرة بابيج النواة لشيءٍ يحمل للعالم نفعًا أكبر بلا حدود.
بعد ذلك، تخليتُ عن عملي، وذهبتُ إلى باريس لدراسة علم وظائف الأعضاء. قضيتُ
ثلاثة أعوام في جامعة السوربون، وحققتُ الإجادة في هذا الفرع من فروع المعرفة، وفي تلك
الأثناء، امتدت مساعيَّ إلى ما وراء العلوم الطبيعية البحتة. انهمكتُ في علم النفس لفترة
من الزمن، وبعد ذلك عرَّجت على مجال علم الاجتماع، الذي يُعدُّ — حال استيعابه على نحوٍ
كافٍ — خلاصة كل المعارف ومُنتَجها النهائي.
وبعد سنوات من الإعداد، ونتيجةً لمجموع دراساتي، بدأتْ فكرة عمري العظمى
«. — التي راودتني على نحوٍ غامضمنذ أيام زيورخ — تتخذ شكلًا مكتملًا ومحدَّدًا
تحوَّل أسلوب الدكتور رابشويل من الممانعة غير الواثقة إلى التحمُّس الصريح. بدا أن
الرجل نفسه قد تحوَّل. أصغى فيشر بانتباه، ودون أن يقاطع الحكاية، ولم يجد بُدٍّا من
أن يتخيل أن الحاجة المُلحَّة إلى البوح بالسرالذي صانه الطبيب بحذرٍ شديد ولزمنٍ طويل
لم تكن كريهة للغاية بالنسبة إلى ذلك الرجل المتحمِّس.
والآن أصغِ جيدًا يا مسيو إلى عدد من المسائل المنفصلة، » : أكمل الدكتور رابشويل
التي قد لا يبدو في البداية أن لإحداها علاقة بالأخرى:
تكللت جهودي في مجال الآلات الميكانيكية، بصنع آلة ذهبت في قوتها الحسابية إلى ما
هو أبعد من آلة بابيج، فبالاستناد إلى البيانات، كانت الإمكانيات في هذا الاتجاه بلا حدود.
لقد تمكَّنتْ لوغاريتمات بابيج المحسوبة بالعجلات والتروس من حساب إحدى ظواهر

الكسوف. تمت تغذية الآلة بالأرقام، وأخرجتْ نتائجها بالأرقام أيضًا، والآن، فإن العلاقات
بين الأسباب والنتائج ثابتة وراسخة رسوخ قوانين علم الحساب، إن المنطق علم مثله مثل
علم الرياضيات، أو يجب أن يكون كذلك؛ لذا غُذِّيت آلتي الجديدة بالحقائق، وتوصَّلت إلى
نتائج. باختصار، أجريتُ عملية مَنطَقة، ونتائج منطَقتها كانت صحيحة دائمًا، في حين
غالبًا ما تكون نتائج التفكير المنطقي البشري خاطئة، إن لم يكن ذلك دائمًا. يتمثل مصدر
نحَّت آلتي المعادلة .« المعادلة الشخصية » الخطأ في المنطق البشري، فيما يسميه الفلاسفة
الشخصية؛ انطلقت من السبب إلى النتيجة، من الفرضية إلى الاستنتاج، بدقةٍ بالغة؛ إن
الذكاء البشري غير معصوم، أما آلتي فكانت وما زالت معصومة من الخطأ في عملياتها.
مرة أخرى، تعلمتُ من علمَي التشريح ووظائف الأعضاء، خطأ الخرافة الطبية القائلة
بأن المادة الرمادية في المخ وجوهر الحياة لا ينفصمان؛ لقد رأيتُ أناسًا يعيشون بأعيرة
نارية داخل النخاع المستطيل، ورأيتُ المخيخ والفصوصالدماغية تُزال من جماجم الطيور
والحيوانات الصغيرة، وبرغم ذلك لم تمت. أعتقد أنه حتى لو أزُيل المخ من الجمجمة
البشرية، فلن يموت الشخص، على الرغم من أنه سيُحرم بالتأكيد من الذكاء الذي كان
يتحكم في كلشيء، ما عدا أفعال جسمه اللاإرادية.
مرة أخرى: إن دراسة متعمِّقة للتاريخ من وجهة نظر اجتماعية، لا وفقًا لخبرة
تطبيقية لا يُعتدُّ بها بالطبيعة البشرية، جعلتني على يقين من أن أعظم العباقرة في التاريخ
كانوا على مستوًى لا يعلو كثيرًا فوق مستوى الذكاء المتوسط، والقمم العُليا في بلدي الأصلي،
تلك التي يعرفها العالم كله بالاسم، لا ترتفع إلا لبضع مئات من الأقدام، فوق القمم غير
المسماة غير المحصورة العدد التي تحيط بها. لم يتفوق نابليون بونابرت على الرجل الأبرع
فيمن حوله، إلا بالقليل. ولكن ذلك القليل كان كل شيء، وساد نابليون أوروبا. ومثلما
تفوق نابليون على مورات في القدرات العقلية التي تترجم الأفكار إلى حقائق، فإن رجلًا
يتفوق على نابليون، يمكنه أن يجعل من نفسه سيدًا للعالم بأسره.
والآن، لنجمع هذه المسائل الثلاث في واحدة: لنفترضأنني أخذتُ رجلًا، وبإزالة مخه
الذي يكرسكل أخطاء وزلات أسلافه، لأعود به إلى أصل العرق، فإنني أزيل جميع مصادر
الضعف في مسيرة حياته المستقبلية. لنفترضأنه بدلًا من الذكاء غير المعصوم الذي أزلتُه،
منحتُه ذكاءً اصطناعيٍّا يعمل وفقًا ليقينية القوانين الكونية، ولنفترض أنني وضعتُ هذا
الكائن الفائق، الذي يفكر تفكيرًا منطقيٍّا سليمًا، في جسدٍ أقوى بنيةً وأقل شأنًا، لا يفكر
تفكيرًا منطقيٍّا سليمًا، وانتظرتُ النتيجة المحتومة بهدوء فيلسوف.

ها قد حصلتَ علىسري يا مسيو، فهذا هو بالضبط ما فعلتُه. في موسكو، حيث يتولى
صديقي الدكتور دوتشات مسئولية معهد سانت فاسيلي الجديد للحمقى الميئوس منهم،
وجدتُ صبيٍّا في الحادية عشرة من عمره، كانوا يدعونه ستيبان بوروفيتش. منذ وُلد، لم
يرَ ولم يسمع ولم يتكلم ولم يفكر، منحته الطبيعة، كما كان يُعتقد، بعضًا من حاسة
الشم، وربما بعضًا من حاسة الذوق، لكن حتى ذلك لم يكن هناك ما يؤكده. حاصرَت
الطبيعة روحه بأكبر قدر من الفاعلية. كانت تجليات طاقته تنحصرفي الهمهمات المتفرقة
غير المفهومة، والتشبيك والفرك الدائمين للأصابع. في الأيام المشمسة، كانوا يضعونه في
كرسي هزازٍ صغير، في بقعة تسقط عليها أشعة الشمس الدافئة، وكان يهتز جيئة وذهابًا
لساعات، محرِّكًا أصابعه النحيلة، ومدمدمًا تعبيرًا عن سعادته بالدفء، في لازمةٍ حزينة
ورتيبة من البلاهة. هكذا كانت حالة الفتى حين رأيتُه للمرة الأولى.
رجوتُ صديقي العزيز الدكتور دوتشات أن يعطيني ستيبان بوروفيتش. لو لم يكن
ذلك الرجل الرائع قد مات منذ زمن طويل، لكان حريٍّا به أن يشاركني نجاحي. أخذتُ
ستيبان إلى بيتي وأعملتُ المنشار والسكين، استطعتُ العمل على ذلك الخطأ البشري المسكين
اليائسالعديم النفع والعديم القيمة، بتهوُّر وبلا خوف، كما لو كنتُ أعمل على كلب اشْتُري
أو التُقط لغرض التشريح حيٍّا. كان ذلك قبل بضع وعشرين سنة، واليوم يحوز ستيبان
بوروفيتش من القوة أكثر مما يحوزه أي رجل آخر على وجه الأرض، وفي غضون عشر
سنوات، سيصبح الحاكم المطلق لأوروبا، وسيد العالم؛ إنه لا يخطئ أبدًا؛ لأن الآلة التي
«. تفكِّر تحت جمجمته الفضية لا ترتكب الأخطاء على الإطلاق
أشار فيشرباتجاه الأسفل إلى حارس البرج العجوز، الذي شُوهد يكافح لتسلُّق التل.
لطالما فكَّر الحالمون في احتمالية أن نجد بين أطلال » : تابع الدكتور رابشويل
الحضارات القديمة بعضالنقوشالمقتضبة، التي تغير الأساسات التي بُنيت عليها المعرفة
البشرية. هزأ العقلانيون بالحلم، وسخروا من فكرة الكابالا العلمية. العقلانيون حمقى.
لو أن أرسطو قد اكتَشف على لوحٍ مغطٍّى بنقوشٍ مسمارية في نينوى بضع كلمات هي
لكانت الفلسفة ستكسب ألفين ومائتي عام. سأعطيك — بالعدد نفسه ،« البقاء للأصلح »
من الكلمات تقريبًا — حقيقةً لها الثقل نفسه. إن غاية تطور المخلوق هي أن يتحوَّل إلى
خالق، ربما سيستغرق الأمر نحو ألفين ومائتي عام قبل أن تجد هذه الحقيقة القبول
العام، لكن ذلك لا يقلل منها. إن البارون سافيتشهوصنيعتي وأنا صانعه؛صانع الرجل
الأكثر براعة في أوروبا، الرجل الأكثر براعة في العالم.
«. ها هو سلمنا يا مسيو. لقد وفيتُ بنصيبي في الاتفاق. تذكر نصيبك
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.