بعد جولة دامت لمدة شهرين في سويسرا والبحيرات الإيطالية، وجد آل فيشر أنفسهم في
فندق سبلينديد بباريس، محاطين بأناس من الولايات المتحدة، فكان في ذلك ترويحًا عن
فيشربعد تجربته المذهِلة في بادن، التي تلاها قدر كبير من القمم الثلجية الرائعة والشبحية،
ليكون مرة أخرى بين من ميَّزوا بين الأوراق المتتالية المتشابهة، والأوراق المتتالية الملتوية،
ومن اهتزت قلوبهم استجابة لاهتزاز قلبه لدى رؤية العَلم الأمريكي. كان من المحبب جدًا
إليه، أن يجد في فندق سبلينديد في حفلة للشرقيين الذين أتوا لرؤية العرض، الآنسة بيللا
وارْد، من بورتلاند، وهي فتاة جميلة وذكية، مخطوبة لأعز أصدقائه في نيويورك.
بقدرٍ أقل بكثير من السرور، علم فيشر أن البارون سافيتش كان في باريس، قادمًا
للتو من مؤتمر برلين، وأنه كان أسد الساعة، مع القلة المختارة الذين كانوا يقرءون ما بين
سطور السياسة، ويعرفون الفرق بين دُمى الدبلوماسية ولاعبيها الحقيقيين، في اللعبات
الكبرى. لم يكن الدكتور رابشويل مصاحبًا للبارون؛ فقد كان مضطرٍّا للبقاء في سويسرا،
إلى جانب فراش أمه العجوز المُحتضرة.
كانت هذه المعلومة الأخيرة موضع ترحيب عند فيشر، وكلما تفكر أكثر في الحوار
الذي جرى على جبل مركوريسبرج، انتابه شعور أقوى بأن من واجبه الفكري إقناع نفسه
بأن الأمر برمته كان وهميٍّا، وليس حقيقيٍّا. كان سيكون مسرورًا — حتى مع التضحية
بثقته في ذكائه الشخصي— بتصديق أن الدكتور السويسري كان يلهو مفترضًا سذاجته.
لكن ذكرى المشهد في غرفة البارون في باديشرهوف كانت نابضة بالحياة على نحو لا يدع
لهذه النظرية أدنى أساستقوم عليه. كان مضطرٍّا إلى الابتهاج بفكرة أن المحيط الأطلنطي
الواسع سيَحول قريبًا — ولا بد — بينه وبين كائن غريب للغاية، وخطير للغاية، وبغيض
بقدر مخيف، مثل البارون سافيتش.
بالكاد مر أسبوع قبل أن يجد نفسه وقد ألُْقِيَ به مرة أخرى في صحبة ذلك الشخص
البغيض.
قابلت سيدات المجموعة الأمريكية البارون الروسي، في حفلة راقصة في فندق ذا نيو
كونتيننتال. كنَّ مسحورات بوسامة وجهه، ودماثة خُلقه، وذكائه، وظُرفه. وقابلنه مرة
أخرى عند المفوَّض الأمريكي، ومما أثار ذعر فيشر بطريقة لا تُوصف أن المعرفة التي
نشأت بهذه الطريقة بدأت تتطورسريعًا باتجاه الحميمية، وصار البارون سافيتش زائرًا
دائمًا لفندق سبلينديد.
لم يكن فيشريحب أن يطيل التفكير في تلك الفترة. وعلى مدى شهر، حل محل سلامه
النفسي شعورٌ بالخوف والاشمئزاز؛ إنه مجبر على الاعتراف بأن تعامل البارون معه كان
لطيفًا إلى أبعد حد، مع أنه لم يكن هناك إلماح من أيٍّ من الجانبين إلى ما حدث في بادن، لكن
علمه بأنه لا نفع يُرجى لأصدقائه من تلك العلاقة مع مخلوقٍ لا شك أن المبادئ الأخلاقية
لديه قد حل محلها نظام من التروس المسننة أبقاه باستمرار في حالة من الارتباك. كان
سيُسرُّبأن يشرح لأصدقائه الأمريكيين الشخصية الحقيقية للروسي، من أنه رجل لا يتمتع
بهيئةٍ عقلية صحية، بل هو مجرد أعجوبة من الإبداع الميكانيكي، القائم على هدم مبادئ
المجتمع كله بشكلها الحالي؛ فهو باختصار وحشٌ لا بد أن يثير مجرد وجوده غضب ذوي
العقول، الذين يملكون أدمغة من الرمادي والأبيض الحقيقيين. لكن الميثاق المبرم بينه
وبين الدكتور رابشويل ألجم لسانه.
غير أن حادثةً عارضة نبَّهته فجأة إلى جانبٍ خطير من جوانب المسألة، وملأت فؤاده
برعبٍ جديد.
ذات مساء، قبل أيام قليلة من الموعد المحدد لمغادرة المجموعة الأمريكية من هافر إلى
الوطن، حدث أن دخل فيشر إلى الغرفة الخاصة التي اتفقت مجموعته على أن تكون مقرٍّا
لها، فظن في البداية أن الغرفة فارغة، لكنه سرعان ما ميَّز في تجويف إحدى الشرفات،
خيال البارون سافيتش والآنسة وارْد من بورتلاند، يحجبه جزئيٍّا قماش الستارة. لم
يلاحظا دخوله. كانت يد الآنسة وارْد في يد البارون، وكانت معلقة ناظريها بوجهه الوسيم،
بطريقة لم يكن لفيشر أن يخطئ تفسيرها.
سعل فيشر، وبذهابه إلى نافذة أخرى، تظاهر بالاهتمام بأمور تحدث في الشارع
الرئيسي. خرج الاثنان من تجويف النافذة. كان وجه الآنسة وارْد متورِّدًا من أثر الارتباك،
وانصرفت على الفور، في حين لم تظهر أي من أمارات الحرج على وجه البارون، وحيَّا فيشر
برباطة جأش مثالية، وبدأ يتحدث عن البالون العظيم في ساحة بلاس دو كاروزيل.
انتاب فيشر شعورٌ بالأسى، لكنه لم يستطع أن يلوم السيدة الشابة؛ كان يعتقد أنها
ما زالت مخلصة من صميم قلبها لخطيبها في نيويورك. كان يعلم أن إخلاصها لا يمكن أن
يتزعزع أمام الإغراءات التي يقدمها أي رجل على وجه الأرض؛ لذا أدرك حقيقة أنها كانت
واقعة تحت تأثير قوةٍ فوق بشرية، لكن ماذا عساها تكون النتيجة؟ لم يستطع إخبارها
بأي شيء؛ فميثاقه ألجمه، وكان من غير المجدي استعطاف البارون؛ إذ لا تحكم مقاصدَه
المرنة عواطفُ بشرية. هل يجب أن يمر الأمر مرور الكرام ويقف هو مكتوف اليدين؟
هل يجب التضحية بهذه الفتاة الساحرة والبريئة، من أجل نزوة عابرة لإنسانٍ آلي؟
وبافتراضأن نوايا البارون كانت من أشرف ما يكون، فهل يجعل ذلك الوضعَ أقل ترويعًا
بأي صورة من الصور؟ الزواج من آلة! إن ولاءه الشخصيلصديقه في نيويورك، وتقديره
للآنسة وارْد، على حدٍّ سواء، دفعاه بقوة إلى التصرف على وجه السرعة.
وبعيدًا عن كل المصالح الشخصية، ألم يكن عليه واجبٌ مجرد نحو المجتمع، ونحو
حريات العالم؟ هل يُفترض أن يُسمح لسافيتش بمواصلة مسيرته التي هيأها له صانعه
الدكتور رابشويل؟ كان فيشر الرجل الوحيد في العالم الذي بإمكانه الوقوف في وجه
البرنامج الطموح. هل حدث على الإطلاق أن كان ثمة حاجةٌ أكبر لتدخُّل بروتُس؟
بين الشكوك والمخاوف، كانت الأيام الأخيرة التي قضاها فيشر في باريس تعيسة إلى
حدٍّ لا يُوصف. وفي صبيحة يوم مغادرة القطار البخاري، كان قد عزم تقريبًا على التدخُّل.
غادر القطار المتجه إلى هافر عند الظهيرة، وفي تمام الساعة الحادية عشرة، ظهر
البارون سافيتش في فندق سبلينديد ليودِّع أصدقاءه الأمريكيين. راقب فيشر الآنسة وارْد
عن قرب، فوجد تحفُّظًا في سلوكها طمأنه. قال البارون بصورة عرضية إن من واجبه
ومن دواعيسروره أن يزور أمريكا، خلال الشهور القليلة القادمة، وتمنى أن يعيد حينئذ
العلاقات التي قُطِعت الآن. وبينما كان سافيتشيتحدث، لاحظ فيشرأن عينيه الْتقَتا بعيني
الآنسة وارْد، وقد لوَّن خديها قدر من الحمرة؛ فعلم فيشر أن الوضع كان ميئوسًا منه،
وتطلَّب إصلاحًا على نحو مُلِح.
انضم الآن إلى سيدات المجموعة في حثِّ البارون على الانضمام إليهم في الغداء السريع
الذي كان مقرَّرًا أن يسبق استقلال العربات إلى المحطة. قَبل سافيتشالدعوة الودية بسرور،
ورفضتناول النبيذ بتأدُّب وبصرامة، متحجِّجًا بأنه ممنوع منه تمامًا بأمر طبيبه. غادر
فيشر الغرفة للحظات، وعاد ومعه الزجاجة السوداء التي لعبت دورًا في واقعة بادن.
لقد أعرب البارون بالفعل عن قبوله لأفخم منتجاتنا الأمريكية، وهو يعلم أن » : قال
وبقوله ذلك، سكب ما تبقى من محتويات زجاجة «. هذا الشراب يحظى بتأييدٍ طبيٍّ طيب
كنتاكي في كأس، وقدمها إلى الروسي.
تردد سافيتش؛ فخبرته السابقة مع هذا الشراب، كانت مغرية ومنذرة في الوقت نفسه،
لكنه لم يُرد أن يبدو قليل الذوق، وأتى تعليق عابر من الآنسة وارْد ليجعله يحسم أمره.
البارون لن يرفض بالطبع أن يتمنى لنا رحلة سعيدة على الطريقة » : قالت باسمة
«. الأمريكية
أفرغ سافيتشالكأسفي جوفه، وتحوَّل مسار الحديث إلى أمور أخرى. كانت العربات
قد حضرت في الأسفل بالفعل، وكان الناس يتبادلون تحايا الوداع، حينما ضغط سافيتش
فجأة بيديه على جبهته، وتشبَّث بظهر كرسي. تجمَّعت السيدات حوله في فزع.
«. لاشيء، إنه دُوار عارض » : قال بصوت واهن
لا وقت نضيعه، فالقطار سيغادر في خلال عشرين دقيقة. » : قال فيشرشاقٍّا الصفوف
«. استعدوا في الحال، ريثما أهتم أنا بصديقنا
وقاد فيشر البارون إلى غرفة نومه على عجل. تهاوى سافيتش على السرير، وتكررت
أعراضبادن، وفي غضون دقيقتين فقَدَ الروسيوعيه.
نظر فيشر في ساعته، وكان لا يزال لديه ثلاث دقائق متبقية. أدار المفتاح في قفل
الباب، وضغط زر الجرس الكهربائي.
وبعد أن استطاع فيشرالسيطرة على أعصابه، ببذل جهد كبير للتحكم في النفس، نزع
اغفر لي يا إلهي إن » : عن رأسالبارون الباروكة المخادعة والقلنسوة السوداء. قال في نفسه
وفكَّ القبة الفضية «. كنت أرتكب خطأً جسيمًا! لكني أعتقد أن هذا هو الأفضل لنا وللعالم
بسرعة، لكن بيدٍ ثابتة. كانت الآلة تقبع مكشوفة أمام ناظريه. أطلق البارون أنينًا، لكن
فيشر دمَّر الآلة العجيبة بلا رحمة. لم يكن لديه وقت ليفحصها، ولا رغبة في ذلك. التقط
صحيفة ولَفَّ بها الآلة على عجل، ودفع بهذه الحزمة في حقيبة سفره المفتوحة، ثم ركَّب
الغطاء الفضيعلى رأس البارون بإحكام، وأعاد القلنسوة والباروكة.
إن البارون » : فعل كل ذلك قبل أن يجيب الخادمُ الجرس، وقال له فيشر حينما أتى
سافيتش مريض، لا داعي للقلق، أرسل في الحال إلى فندق دو لاتيني لاستدعاء خادمه
وفي خلال عشرين ثانية، كان فيشر يستقل سيارة أجرة، مسرعًا نحو محطة «. أوجست
سان لازار.
حينما شرعت السفينة البخارية بيرير تمخر عباب البحر، وصارت جزيرة يوشانت
تبعد عنها خمسمائة ميل، وتموج تحت عارضتها قامات لا تُعد ولا تُحصى من المياه،
أخذ فيشر حزمة من الصحف من حقيبة سفره. كانت أسنانه منطبقة بصرامة، وشفاهه
متصلبة. حمل الحزمة الثقيلة إلى حافة السفينة، وألقاها في مياه الأطلنطي. صنعت دوَّامة
صغيرة في المياه الهادئة، وغاصت مبتعدة عن الأنظار. تخيَّل فيشر أنه سمع صيحة عنيفة
يائسة، ووضع يديه على أذنيه لإسكات الصوت. أتى نورسيحوم فوق الباخرة؛ ربما كانت
الصيحة صيحة النورس.
شعر فيشر بلمسة خفيفة على ذراعه، فالتفت بسرعة. كانت الآنسة وارْد تقف إلى
جانبه، بالقرب من السياج.
«؟ يا إلهي، يا لشحوبك! ماذا كنت تفعل بالله عليك » : قالت
«. كنت أحمي الحريات في قارتين، وربما أنقذتُ سلامك الشخصي » : رد فيشر بتؤدة
«؟ حقٍّا! وكيف فعلت ذلك » : قالت
فعلتُها عن طريق إلقاء البارون سافيتش عن ظهر » : كان جواب فيشر القاصم
«. السفينة
أحيانًا تكون مضحكًا جدٍّا يا سيد » : انفجرت الآنسة وارْد في ضحكةٍ مجلجلة، وقالت
«! في