أهدي هذه القصة إلى صديقي الحبيب أوجست فيلبوف الذي عاشرني بفيرنزه، وصحبني في زيارة بيت ماكيافيلي، وشهدني أكتبها، وأعانني بمحاسن خلقه وشمائله. (أكتوبر ١٩١٠).
الساعة الثانية بعد نصف الليل في فيرنزه، ساحة السنيوريا ساكنة، حولها القصور الفخمة المشادة بصخور ضخمة بارزة، وبينها القصر القديم «بالاتزو فكيو» وهو مقر السلطة البلدية، رفعت دعائمه حكومة الجمهورية، وخلفته أثرًا من آثار القرون الوسطى، مربع مهول من الحجر الأصفر، مملوءة جدرانه بالنوافذ، وبطرفه برج عظيم ذو طبقات متعددة كأنه منارة مسجد قديم، بناء جليل، وحصن منيع يرهب العدو القاصي، ويصد هجمة الخصم الداني، كأنه لشدة ما يبعث في قلب الرائي من الرهبة والإعجاب درع كبير من الصخر تقلدته تلك المدينة الجميلة لتأمن به كيد أعدائها، لا يراه الرائي دون أن يستعرض أمام ذهنه صورًا من تاريخ القرون الوسطى، فقد سالت في تلك الساحة وفي الطريق المجاورة لها دماء أشراف فلورنسا خلال ثلاثين عامًا، اثنتان وأربعون أسرة يقودها بنو نوندلمنتي حيال اثنتين وعشرين أخرى يقودها آل أوبرتي، فكانوا يحصنون المنازل، ويحاصرون القصور، ويقطعون الطرق، ويسدون السبل، وكلما تغلب فريق على إحدى الأسر المعادية أهلك أفرادها عن آخرهم، وهدم قصرها ليمحو أثرها، كل ذلك في سبيل الحرية وانتصارًا للحق الذي يدعيه كل فريق لنفسه، وصونًا للشرف الذي لا يسلم حتى يراق على جوانبه الدم.
بأعلى البرج ساعة كبرى كأنها وجه الزمان، لا تبدو عليها علامة الحركة، ولكنها تطوي الأيام والليالي، تدق كلما مضت ساعة دقًّا بطيئًا رهيبًا كأنه صوت الدهر ينذر بني الإنسان بلسان من فولاذ.
وكانت الساحة مضاءة بأضواء ضئيلة، وبأعلى البرج مصابيح تخفق شعلتها كلما هب الريح كأنها عين حارس لا ينام، وكانت معظم المنازل المحيطة بالساحة لا نور بها كأنها لجلالها وسكونها قبور، وكان بأعلى البرج حارس يرقب أبواب المدينة، ويصيح كلما مضى هزيع من الليل: «الأبواب آمنة والمدينة في سلام.»
بعد أن صاح الحارس صيحته الأخيرة دنا من الساحة شبح، كان قادمًا من شارع شيماتوري، يسير تارة مبطئًا وأخرى مسرعًا، فلما سار في الساحة أخذ سمته إلى لوجيا دلوركانيا، وهي الردهة الجميلة المزدانة بتماثيل المرمر والبرنز إزاء القصر العتيق، فدنا هذا الشبح من السلم الموصل إلى الردهة، وجلس على أعلى درجاته محاطًا من جانبيه بأسدين من المرمر قابضين على كرتين من المرمر أيضًا رمزًا للسلطة والبطش.
فلما جلس الشبح على أعلى درجات السلم سقطت على وجهه أشعة ضئيلة من ضوء المصابيح المحيطة، فإذا به رجل في نحو الخمسين من عمره، نحيل ليس بوجهه أثر للشعر كأنه من رجال الدين، وعلى رأسه قلنسوة من الصوف مطرزة بخيوط من الحرير، وعلى بدنه ثياب عتيقة مكونة من سراويل ضيقة، ومعطف من الحرير، وقباء كبير من الصوف المسجف بالمخمل، وبأكمامه وعلى موضع العنق قطع من الفرو السنجابي، وعلى سائر ثيابه أثر القِدم، ولكنها كذلك تحمل أثر عز ونعمة.
أما وجه الجالس ورأسه فهما محط النظر، الجبين عريض عالٍ، بين أعلاه وأسفله خط عميق علامة الذكاء والفطنة، والصدغان منطبقان على الجبين، يكاد يشرق فيهما كوكبان من نور الحكمة، وبأعلى العينين والحاجبين غضون كأن كلًّا منهما سطر يقرأ فيه الناظر إلى هذا الوجه العجيب آثار الآلام والأحزان التي قاساها صاحبه، والحاجبان الدقيقان المستقيمان كخطين منتظمين يستران عينين وقَّادتين رغم الكهولة، والناظر إلى العينين يرى في إنسانيهما من الحدة والمكر والدهاء ما لا يرى إلا في عيون الملوك والوزراء والمشتغلين بتدبير أمور الأمم، عينان تكادان تريان كل شيء، وتخترقان حجب النفس، وتقرآن فكر من تبصران به لأول وهلة، وتستشفان بأشعتهما ما لا يبين للناظر البسيط، والأنف طويل يكاد يكون أقنى، والفم دقيق، والشفتان كأنهما لرقتهما شفتا فتاة لا رجل عرك الدهر وسبر غور الرجال، والذقن صغيرة مستديرة يقرأ رائيها ثبات العزم وبُعد الهمة في استدارتها، ومجموع الوجه يدل على ألم شديد يئن من ثقله كاهل هذا الإنسان العجيب الذي اتخذ من صخر السلم مجلسًا محاطًا في سكون الليل بتماثيل اللوجيا دلوركانيا.
رفع الجالس بنظره إلى البرج العظيم وتنهد، ثم أخذ يحادث نفسه في سواد الليل: إيه لكِ أيتها الجمهورية، فقد قتلت نفسي في خدمتك، وقضيت أحسن أيام صباي في التغرب لأجلك، واقتحمت الملوك والأمراء لأبلغ رسائلك، وأجهدت نفسي في استنباط نظام حربيٍّ يحمي ذمارك ويذود عن حوضك، وها أنا ذا أقاسي الآلام بعيدًا عنك ومغضوبًا عليَّ من رجال سهَّلتُ لهم سبيل العمل، ووضعتُهم بجهادي حيث هم الآن، إن الفراغ يقتلني والسكون ينخر عظامي، ولولا … وإنه كذلك وإذا بيد نبهته فالتفت وراءه، فإذا بوجه يعرفه يحييه بابتسامة حلوة وقال له: عم صباحًا يا كاتم أسرار الجمهورية، لا شك أن حبك لهؤلاء السادة عظيم، فإنك تأتي في دجى الليل ترقبهم عن بعد.
فقال الجالس: كلا يا صديقي إنما أنا الآن مقيم في الخلاء، ولا أجيء إلى المدينة إلا نادرًا، وقد كنت الليلة في مجلس حافل بالأدباء وأهل الفضل، وطال الحديث بنا إلى هذه الساعة، وأنا كما ترى على طريقي إلى منزلي، ولكنني تعبت من طول المسير فالتمست الراحة هنا.
قال له صديقه: وكيف تسكن في الخلاء، وهل تركت مسكنك في المدينة؟
قال الجالس: كلا، إنني أسكن بيتًا ورثته عن أبي.
سأله: وكيف تقضي يومك في الفراغ، وقد اعتدت منذ صباك حياة العمل؟
قال الجالس: إنني أستيقظ فجرًا، وأرمي شباكي لصيد الطيور، ثم أقصد الغابة لقطع الشجر، وأقضي هناك ساعتين، ثم أقصد مكانًا به عين ماء، ومعي شعر دانتي أو شعر بترارك فأقضي بقية اليوم في المطالعة، وعند المساء أعود إلى منزلي لأقضي نصف ليلتي بالدرس، وعند باب الغرفة أتخلى عن ثياب العمل التي اتَّشَحْتُها طول يومي ثم ألبس ثيابًا أرقَّ منها، وأدخل إلى المكان المقدس الذي أشعر فيه بسعادة الحياة العقلية، حيث أجد حكماء القرون الماضية وشعراءها فأغذي نفسي بالطعام الذي خلقت له وخلق لها، ولا أخشى حينذاك من محادثة العظماء وسؤالهم عن أعمالهم فيجاوبونني بكرم ولطف، وأبقى بينهم أربع ساعات أنسى خلالها أحزاني وآلامي، فلا أعود أخشى الفقر ولا الموت؛ لأنني أصير منهم، وهؤلاء لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
ثم نهضا ووقفا في ساحة السنيوريا، وكان القمر في الربع الأخير، يبدو في الشرق كالعرجون القديم، فنظر إليه ماكيافيلي بحزن وقال: ما أشبه حياة الإنسان بحياة هذا الجرم العجيب! ثم بدت في عينه نظرة الحزن الشديد، وأشار بيده نحو الساحة قائلًا: لقد أعددت الجيوش ورتبت الجنود، وابتدعت نظام الحرب لحماية الوطن، وألفت الكتب في سياسة المُلك، وطفت ممالك الأرض رسولًا بين حكوماتها وحكومتي، ولم أعد من هذا كله بغير قبائي وقلنسوتي، ثم نظر إلى صاحبه الذي كان ينظر إليه دهشًا ولا يجرؤ على مقاطعته، وقال له: أستودعك الله يا صاحبي، إنني ذاهب إلى منزلي.
فقاله له صاحبه: دعني أصحبك. وكان قد رأى في وجه نيقولا من علامات الضعف ما كان يخشى عاقبته، فظهر في عينه بريق عجيب وانتفض وقال: كلا. أشكرك يا صاحبي، إني أفضل أن أسير في مثل تلك الليالي بمفردي، فإنه يحلو لي التأمل في الوحدة عند سكون الليل، وأحب سماع وقع أقدامي على أرض فيرنزه العزيزة، وسأخترق عمائر الأفيتشي ثم أسير ونهر الأرنو فأعبر الجسر القديم، وأواصل طريقي حتى منزلي.
فلما رأى صاحبه رغبته في الانفراد ودَّعه، وسار ماكيافيلي بمفرده ببطء مطرقًا رأسه كأنه يعد خطواته ويتسمع وقع أقدامه، فتبعه صاحبه بنظره حتى غاب شبحه في ظلام عمائر الدواوين، وكان ماكيافيلي كلما بلغ تمثالًا من التماثيل الفخمة المزدانة بها تلك العمائر، ألقى عليها نظرة حزن ونطق باسم صاحبه، وكان كثير من أماكن التماثيل لا يزال خاليًا، فلم يخطر بباله وهو في تلك الثياب التي بها آثار النعمة الزائلة أن تمثاله سيزين يومًا ما أحد تلك الأماكن.
فلما خرج إلى ضفة النهر نظر ذات اليمين وذات اليسار، فإذا الليل هادئ، وتكاد المدينة تكون كأنها مساكن الموتى، إنما في السماء بريق بعض الكواكب وقِطَع من الغمام سوداء، وفي الشرق أشعة زرقاء تؤذن بانقضاء الليل، والنهر القديم يجري كأنه ثعبان أخضر ينساب بين تلك الصخور، فدنا ماكيافيلي من إفريز النهر، وأطَلَّ على الماء، وبقي يتأمل بضع دقائق، ثم أسرع خطاه كمن فطن إلى حاجة أهملها، ثم سار تحت الأعمدة التي عليها قصر أفيتشي، ولها في الظلام هيئة الحصون تردد صدى وقع أقدامه، فلما بلغ البنتوفكيو «الجسر القديم» تجلت له قباب فيرنزه وأبراجها، وأخذ يطل من جديد على النهر وهو يكاد يشرب حسن المدينة بعينه، يبطئ في السير تارة ويسرع أخرى، وكأنه يلتذ بكل خطوة يخطوها، ويود لو يعودها كمن شعر بأن هذي آخر مرة تطوى فيها أقدامه طرق فيرنزه الجميلة، فلما بلغ منتهى الجسر من الناحية الأخرى سار في طريق يُعرف الآن بشارع جويتشارديني، وهو طريق أسود ضيق، تَحُفُّ به من الجانبين بيوتٌ بعضها كالأبراج علوًّا، وبعضها يسكنه أوساط الناس، وكأن الساكنين يعيرون المنازل هيئاتهم، فبعض المنازل في جدرانه نضارة وبعضها حقير، وما زال سائرًا حتى بلغ بيتًا على اليمين مرتفعًا ضيق النوافذ ذا ثلاث طبقات، مسودة حيطانه من انهمال الأمطار وهبوب الرياح، فأخرج ماكيافيلي من جيبه مفتاحًا وفتح بابه وولج في الظلام.
•••
الغرفة صغيرة ذات نافذة على الشارع، في ركن منها سرير من الخشب، وفي وسطها مائدة عليها كتب وأوراق شتى، وبإحدى جدرانها دولاب به زجاجات وعلباوات مختلفة الألوان والأصناف، وعلى المائدة مصباح، فلما دخل ماكيافيلي غرفته ألقى بقلنسوته على المائدة، وجلس على مقعد حيالها، وأخذ يفكر في الظلام هنيهة، ثم خطر بباله أنه اكتشف نظامًا حربيًّا جديدًا، فأضاء المصباح وتناول أوراقًا وقلمًا، وأخذ يدون أفكاره، فكتب سطرًا واحدًا، ثم شعر بألم شديد في ذراعه الأيسر، فارتجف ونهض قائمًا، وأخذ يسير في الغرفة كأنه أسد سجين في قفص، ويهز بذراعه تارة، ويفركه تارة أخرى لعل الألم يزول، ثم خارت قواه فأعياه الضعف من مواصلة السير في الغرفة فألقى بنفسه على السرير، وأخذ يتنفس بألم وضيق، وما زال كذلك في غيبوبة نحو نصف ساعة ثم خطر بباله أن لديه علاجًا كان يتناوله، وهو حبوب اكتشف تركيبها في أحد كتب الطب، فاستجمع قواه ونهض وسار بضعف يستند إلى الحوائط وإلى الأثاث حتى بلغ مكان العقاقير، فتناول حبة، وعاد إلى المقعد فلم يخف ألمه، فعاد وتناول حبتين وإذ ذاك أخذ قلبه يخفق بسرعة وقواه تخور، فعاد إلى السرير وحل أزرَّة صدريته واستلقى، ثم شعر بعرَق بارد على جبينه، فحاول النهوض من جديد فلم يستطع، فصرخ من أعماق قلبه: «اكتشفت نظامًا جديدًا لحماية الوطن!» ثم اضطرب وألقى برأسه ولم تبد منه حركة.
هكذا قضى ماكيافيلي الليلة الأخيرة من حياته.