أول عهدي بنيقولا ماكيافيلي وآثاره النادرة المثال أنني كنت أحادث رجلًا يشغل منصبًا سياسيًّا دوليًّا بمصر، فقال لي: إن منح الخير للأمم ينبغي أن يكون رذاذًا لا انهمالًا، فيكون التقدير أكبر والعرفان بالجميل أكثر، وهذا رأي ماكيافيلي، فقلت له بعد مناقشته: ومن هو ماكيافيلي؟ أجاب: إنه كاتم أسرار جمهورية فيرنزه في أوائل القرن السادس عشر، وإنه مؤلف كتاب الأمير البرنشبة «بالإيطالية» ولم يزد على ذلك.
ولكنه كان في محادثات أخرى يذكر حكمًا ونبذًا تدهشني بإيجازها وإعجازها، وينسبها إلى كاتم أسرار جمهورية فيرنزه، وكان ذلك منذ سبع سنين؛ أي في آخريات ليالي ١٩٠٥، فسألته يومًا عن كتاب الأمير الذي ذكره، فقال: إنه قرأه بالإيطالية، ولا يدري إن كانت له ترجمة إنكليزية، ولكنه يعرف أنه منقول إلى الفرنسية والألمانية، ففتشت المكاتب الأجنبية بالعاصمة، باحثًا ومنقبًا سائلا وملحًّا عن كتاب ماكيافيلي، فلم أجد له أصلًا ولا تعريبًا، وكان شوقي إلى استطلاع أفكار هذا الاسم الساحر الذي يجذب النفس بمجرد سماعه، ولكنني لا أهتدي، فلجأت إلى صاحبي أسأله في الأمر فقال لي: إن الكتاب مضنون به، وأنه لا بدَّ أن يقع لي في الوقت المناسب، فلم يشفِ هذا الجواب غليلي، فالتمست الوقوف على بعض المعلوم عن ماكيافيلي في بطون الموسوعات ودوائر المعارف، وكل ما قرأته عنه فيها كان يزيد شوقي إلى كتابه لإجماع المؤرخين على تمجيد كتاب الأمير والثناء على واضعه، وإن هذا السفر على إيجازه كان مصدر العلم السياسي الحديث، حتى إن أبطال التاريخ الحديث أمثال ريشليو فردريك الكبير، ونابليون بونابرت، ومترنيخ كانوا يستقون من نبعه.
على أن المؤرخين أجمعوا أو كادوا على أن الاسم ماكيافيلي أصبح علمًا على كل سياسي شديد قوي العقل والقلب، لا يقف به الشرف أو العفة أو هيبة الله دون اقتراف أفظع الآثام لبلوغ الغاية لا سيما إذا كان الأمير يسعى بذلك في مصلحة الحكومة التي يدير دفتها، وقد أصبح لفظ ماكيافيلزم وصفًا لكل عمل قائم على الخبث والدهاء المقرونين بالأثرة وتقديم الغاية على حسن الواسطة.
وقد قضيت أشهرًا ذا شغف بماكيافيلي وكتابه، ألتمسه في كل مكان، وأسأل عنه كل إنسان، إلى أن حدث ما لم يكن في الحسبان، كنت أسير في يوم من أيام ربيع ١٩٠٦ فلمحت رجلًا ناشرًا كتبًا حقيرة على إفريز أسوار حديقة الأزبكية، فنظرت فيها، فإذا هي خليط من القصص اليونانية والإيطالية والفرنسوية، ولم أكن أعرف لسانًا منها، ولكن لشد ما كان فرحي ودهشتي وانتصاري عندما وقعت عيني على كلمة Il Principe على كتيب زري الهيأة مطبوع على ورق دون الوسط، ثم وقع نظري في أعلا الصحيفة على اسم نيقولا ماكيافيلي، فلم يعد لدي شك في أنني أمام أمنيتي، فخطفت الكتاب خطفًا، وسألت البائع عن الثمن فقال: قرشًا صاغًا. ولست أدري كم دفعت، وأخذت الكتاب بين يدي وسرت لا ألوي على شيء، بيد أنني لم أسر ميلًا محمولًا على كاهل الحمية والتحمس، حتى أدركت خطئي، وأنني حصلت على ما لا أستطيع إدراكه؛ لأن الكتاب بالإيطالية، فخطر ببالي لساعتي ألف مشروع للخروج من تلك الورطة، كأن أستعين بإيطالي على تَفَهُّمِ عبارته، وكأن أبدأ في تعلم اللغة الإيطالية لبلوغ مأربي منه، ولكن حيرتي لم يطل أمدها إذ هداني الحظ الحسن إلى نسخة إنجليزية في إحدى مكاتب الإسكندرية فقرأت الكتاب في أقرب وقت يمكن فيه إنجازه، ولكن القراءة الأولى تركتني في حيرة لصعوبة إدراك معاني الكتاب ومغزاه، واضطررت لإعادة الكرة المرة بعد المرة، واكتفيت في نهاية الأمر باستيعابه وإدراك فحواه، فكنت بعد قراءة كل فصل كمن يظفر باستطلاع سر غرفة مخيفة في قصر مسحور، وكنت أقف بعد قراءة كل جملة وقفة الدهش والحيرة، بل كنت في بعض الأحيان أقلب عيني في سطوره بذعر ورهبة، وأسائل نفسي: أصدقًا يقول هذا الرجل العجيب؟! فأرجع ببصري إلى الصحف فألقى أعلامًا معلومة، وأسماء مشهورة وحوادث معروفة، وأماكن معينة، عرفت الأشخاص من قبل بالاسم، وزرت بعض الأماكن التي يتكلم عنها، ولكن كتاب الأمير مثَّل لي هؤلاء الأبطال في ميدان الحياة الإنسانية وهم عبارة عن إرادات قوية شتى، اندفعت في ميدان الحياة بقوى مختلفة، وكل إرادة تسعى إلى غرض خاص بها، وهي تارة مسيَّرة بقوة خفية، وطورًا مخيرة في طريق الجهاد الذي تختط خطته لذاتها، وهي فيما بين الحالين ترتفع وتنخفض، تعلو وتسقط، تسعد وتشقى، ترجو وتيأس، كأن الرجال الذين ورد ذكرهم في كتاب الأمير نوع آخر من البشر، مجموعة منافع ومصالح خاصة وعامة قام بينها نزاع أزلي أبدي على السلطة والنفوذ والمجد، فتجردت من العواطف الضعيفة الحقيرة، ونظرت إلى الأمور نظر العاقل المستفيد الذي يقدِّر الأشياء قدرها تبعًا لقيمتها المادية العملية.
وبينما ترى تلك الرءوس الكبيرة تدبر الأمور بغير قلوب رحيمة ترى أممًا وممالك ومدنًا هي ميادين تلك الأعمال الكبيرة، تعز حينًا وتذل آخر، فكأنك في معرض عجيب، أقامته آمال الرجال في ميدان الحياة الفانية؛ لأنك وأنت تقتفي أثر بطل مقدام يكون ملكًا أو يدبر دولة وهو آمن مطمئن، يشيد مجده كأنه يعيش أبدًا، إذا بحادث غير منتظر يأتي كالسيل الجارف فيكسح في طريقه ذلك البطل، ويهدم صروح آماله بل يهدم ما شاده من الحصون الحقيقية، ويفني ما حشده من الجنود المحاربة، فإن لم يكن ذلك الحادث المهول، فالموت هو المهلك المفني، فيا لك يا ماكيافيلي من مراقب ذكي الفؤاد! ترقب عن بعد وعن قرب بعين جامدة، وقلب جاف، ونفس نضب بها منبع الدموع لعبة الشطرنج الأبدية التي رقعتها الليالي والأيام، وقطعها أبطال التاريخ القديم والحديث، وبيادقها جيوش ألمانيا وإسبانيا وفرنسا وإيطاليا، وقلاعها قلاع رومة وحصون بيزة وفيرنزه، وفيلتها أساطيل جنوة والبندقية، وشاهها قيصر بورجيا!
لما قرأت كتاب الأمير شغفت به، وكنت أحمله بجانب رباعيات الخيام، أقرأ الخيام لدى حزن النفس وانقباض الصدر لأثمل بخمره المقدسة المطهرة، وأقرأ الأمير لأفيق من خمرة الخيال؛ ولأعود إلى ميدان الحقائق المؤلمة التي تصطدم فيه جيوش القوى والرغائب، وتشتبك به سيوف الحوادث ورماح الكوارث.
ثم رحلت لأول مرة إلى الأقطار الشمالية أتنسم ريح الغرض الأسمى في هياكل الرومان، وألتمس آية الجمال في التماثيل العجيبة والتصاوير المطربة، وإنني في عصر يوم أطوف في قاعات متحف الفنون القديمة والحديثة برومة، وإذا بي وجهًا لوجه بصورة رجل جالس أمام منضدة مغطاة بسجادة مزركشة، وعليها كتب وأوراق مبعثرة، وهو ناظر إليَّ بعينين ملؤهما الذكاء والمكر والحزن، وحينئذ حدثت حادثة من حوادث المصادفات العجيبة، فقلت ماكيافيلي وأرباب رومة، وأسرعت إلى برنامج المتحف ونظرت إلى رقم الصورة فإذا به هو نيقولا ماكيافيلي، وكانت هذه أول مرة يقع فيها نظري على صورته، فوقفت أمامها باهتًا متسائلًا كأني أحاول كسر تلك الجمجمة لأرى ما تحويه من أفكار واضحة وآمال مبهمة، ثم ذكرت أن هذا الوجه ليس إلا صورة منقوشة بالزيت، وتركت المتحف ولكن بقيت سحنة ماكيافيلي في ذهني.
كل هذا ولم تحدثني نفسي بنقل كتاب الأمير إلى العربية، إلى أن كان ربيع ١٩١٠، إذ ألقت بي الأسفار في مدينة تارار من أعمال فرنسا، دعيت ولفيف من الأساتذة الفرنسويين على رأسهم العلامة إدوار لامبير لحضور احتفال علمي، وإلقاء محاضرة عن مصر، وكانت اللجنة العلمية التي أعدت هذا الاحتفال مؤلفة من رئيس، وكاتم أسرار، وأمين صندوق، وأعضاء، أُعلِمت من كان كاتم أسرارها — ولا يزال كذلك إلى يومنا هذا — أنه حفيد حفيد ماكيافيلي، وهو لا يزال إلى الآن يحمل اسم أسرته، فلما سمعت اسمه طرت إليه، وحاولت كتم عواطفي وأخذت أسأله بلطف عن أعماله وأحواله وعن غرابة اسمه، فقال لي: إن اسمي إيطاليًّا، ولا شك أنك يا سيدي تعرف اسم نيقولا ماكيافيلي الشهير؟ قلت: قرأت عنه في بعض الكتب. قال: إنه جدي. فقلت في نفسي: يا لك من شقي! بل يا لأسرتك من أسرة سيئة الحظ إذ أحفاد مديتشي وسفورزا وفيسكونتي وجوريتشارديني يمرحون اليوم في نعيم الثروة الطائلة وأنت حفيد أعظم سياسي في العالم تعاني مشاقَّ التعليم ولا تزال كجدك كاتم أسرار لجنة! وقد كان كاتم أسرار دولة، ولم يكن أحسن منك حالًا، وقد صافحت الموسيو ماكيافيلي الفرنسوي لدى سفري، وأبقيت كفه في يدي أمدًا، فانطلق لسانه بشكري، ولكنه لم يكن يدري أنني أحيي فيه جده العبقري، وأمد يدي على جماجم سبعة أجيال خالية مصافحًا نيقولا العظيم.
وفي تلك السنة بعينها أخذت بأهداب الإيطالية لميل فطري إلى اللغات اللاتينية، وتلقيتها عن الأستاذ منيون أستاذ الآداب الإيطالية بكلية الآداب بمدرسة ليون الجامعة، وقرأت عليه «آداب النديم» «الكورتجيانو» لكاستليوني نثرًا قديمًا، وتحرير أورشليم «جوراسليمو ليباراتا» من نظم تاصو، ثم مختارات من باسكولي أستاذ الآداب بمدرسة بولونيا الجامعة سابقًا، وخليفة كاردوتشي، ومن محاسن الاتفاق أنني اهتديت إذ ذاك إلى الآنسة مريم ألبرتيني من أهل بولونيا، فتلقيت عنها قواعد الآجرومية الإيطالية، وكنت أزهد فيها لنفور طبعي من القواعد والقيود، فلما حل الصيف شددت رحلي إلى إيطاليا، فقضيت بجنوة وربالو ونرفي وبيلي، وكلها على الشاطئ الغربي ما قضيت، ثم سافرت إلى فيرنزه مدينة الذكاء والجمال، وأقمت بها أشهرًا، واختلطت بفريق من أدبائها، وهم الذين يملئون صحف «المارزوكو» بما تجود به قرائحهم الفنية، وزرت الآثار، ومتعت نفسي بمحاسن ذلك الفردوس الأرضي، وليس هذا مجال الإسهاب في هذا الغرض، إنما أذكر أنني تنبهت إلى نقل كتاب الأمير من الإيطالية إلى العربية في فيرنزه ذاتها، حيث كنت أقيم بشارع ليوناردو دي فنشي رقم ٦، وإذ ذاك زرت كنيسة الصليب المقدس سانتا كروتشيا، حيث يوجد قبر ماكيافيلي، ولست قادرًا على وصف العواطف التي جالت بنفسي عند تلك الوقفة، وكان تأثري أشد يوم زيارتي دار ماكيافيلي، وهي الآن رقم ١٧ شارع جويتشارديني، وجاء وصفها في «الليلة الأخيرة» وكان ذلك في أواخر شهر أغسطس، وكان جيران ماكيافيلي يلتفون حولي عندما كنت أنقل العبارات المكتوبة على قطع المرمر المعلقة على الجدار، لتدل أهل هذا الزمان على أن هذا المنزل الحقير كان مأوى صاحب أقوى عقل سياسي إيطالي.
وقد أنجزت بعض ما بقي من كتاب الأمير في جنيف، فكأنه طاف معي سائر الأقطار منذ ست سنين تقريبًا، تارة كتابًا مقروءًا، وطورًا ترجمة مقطعة، تم معظمها بفيرنزه وطن ماكيافيلي، وبعضها بجنيف، وبعضها بليون، وبعضها بباريس، وبعضها بالقاهرة، وكان ختامها في ٢٧ يونيو سنة ١٩١١ بجنيف المحروسة رقم ٧٩ بولفار كارل فوجت في الجانب الغربي من المدينة.
واليوم أُخرج للورى هذا الكتاب الذي كان حليف وحدتي في أسفاري، وصديق وحشتي في حِلِّي وترحالي، وإني أفارقه بحزن تخالطه الغيرة؛ لأنه كان منذ الأمس ملكي، وسيصبح غدًا ملك الألوف المؤلفة ممن يقرءون العربية الشريفة.