جريمة اللورد سافيل
كانت هذه آخر حفلة استقبال تقيمها الليدي وندرمير قبل عيد الفصح، وكان قصر بنتنك أكثر ازدحامًا من المعتاد، وقد أقبل ستة من أعضاء الوزارة من حفلة رئيس مجلس العموم في حلل رسمية مزدانة بالأوشحة والنياشين. وكانت النساء الجميلات في أبهى زينة وأرشق ثياب، ووقفت الأميرة صوفيا أوف كارلسروه — وهي سيدة تترية الملامح والسمات ضيقة العينين سوداؤهما، وقد حليت من الزمرد أبرع الفصوص — في آخر إيوان الصور تتكلم بفرنسية رديئة بأعلى صوتها وتسرف في الضحك من كل ما يُقال لها. وكان الجمع خليطًا عجيبًا، فمن شريفات حاليات يتحدثن إلى أحرار متطرفين، ومن وعاظ مشهورين يشاربون ملاحدة معروفين، ومن أساقفة يتبعون ممثلة بدينة من حجرة إلى حجرة، وقد وقف على درج السلم عدة من أعضاء المعهد الملكي متنكرين في أزياء فنانين. وقيل: إنَّ قاعة الأكل كانت في فترة من الفترات غاصة بالعباقرة. والواقع أنَّ هذه الليلة كانت من أطيب ليالي الليدي وندرمير، وقد بقيت الأميرة ساهرة إلى قريب من منتصف الساعة الثانية عشرة.
وما كادت الأميرة تنصرف حتى أقبلت الليدي وندرمير من إيوان الصور، حيث كان أحد مشاهير رجال الاقتصاد السياسي يشرح — في جدٍّ — النظرية العلمية للموسيقى لفنان مجرى مغيظ، وراحت تتحدث إلى دوقة بيزلي، وكانت تبدو رائعة الجمال، بعنقها العاجي وعينيها الزرقاوين، وخصل شعرها الذهبي الوحف، ولم يكن لونه من ذلك الضرب الأصفر الباهت الذي يغتصب في هذه الأيام اسم الذهب الكريم، وإنما كان من ذلك الذهب الذي تنسج منه أشعة الشمس أو يختبئ في العنبر النادر، وقد أكسب محياها مسحة من القداسة وشيئًا من فتنة الخطيئة. وكان أمرها عجبًا من الناحية النفسانية؛ فقد اهتدت في صدر حياتها إلى تلك الحقيقة المهمة، وهي أنه ما من شيء يشبه السذاجة مثل الخفة والطيش. وقد استطاعت بفضل طائفة من الحماقات — نصفها لا ضير منه — أن تستفيد مزايا المرأة ذات الشخصية. وقد غيرت زوجها غير مرة. ويقول ديبريت: إنها تزوجت ثلاث مرات، ولكن لما كانت لم تغير قط عشيقها فقد كف العالم اللغط بأمرها. وقد صارت الآن في الأربعين من عمرها ولا ولد لها، واحتفظت بنهمها في طلب اللذة، وذاك سر الغضارة.
وأدارت عينيها فجأة في الحجرة وقالت بصوتها الخفيض الواضح: أين قارئ كفي؟
فسألتها الدوقة وقد عَرَتْها هزة: ماذا تقولين يا جلاديس؟
– قارئ كفي يا عزيزتي الدوقة، فما أستطيع أن أحيا بدونه في الوقت الحاضر.
فتمتمت الدوقة: يا عزيزتي جلاديس، أما إنَّ لك لأطوارًا!
فمضت الليدي وندرمير تقول: إنه يقرأ لي كفي مرتين كل أسبوع بانتظام، وهو حاذق فطن.
فقالت الدوقة لنفسها: «يا إلهي … ما أفظع هذا! وإني لأرجو أن يكون أجنبيًّا؛ فإن هذا يجعل الأمر أهون.»
– لا بد أن أقدمه إليك.
فصاحت الدوقة: تقدمينه؟ أتعنين أنه هنا؟
وراحت تتلفت باحثة عن مروحتها الصغيرة وشملتها تحفزًا للانصراف بسرعة.
– بالطبع هنا، فما أستطيع أن أقيم حفلة بدونه، وقد قال لي: إن لي كفًّا ناطقة بأطواء النفس، وإنه لو كانت إبهامي أقصر قليلًا لكنت مُتشائمة ولانتهى أمري بأن أدخل ديرًا.
فقالت الدوقة وقد ذهب عنها الروع: مفهوم … أحسبه يقرأ للناس حظهم؟
قالت الليدي: وسوء حظهم أيضًا، فأنا مثلًا سأكون في العام المقبل في خطر عظيم، من البر والبحر جميعًا، ومن أجل هذا سأعيش في منطاد ترفع إلي وأنا فيه سلة طعامي كل مساء. وكل هذا مكتوب على أصبعي الصغيرة أو راحتي، لا أدري، فقد نسيت.
– ولكن هذا إغراء للعناية الإلهية يا جلاديس ولا شك.
– يا عزيزتي الدوقة، إن العناية الإلهية تستطيع أن تقاوم الإغراء، وعندي أن كل إنسان ينبغي أن تقرأ له كفه مرة كل شهر ليعرف ما ينبغي أن يتقي عمله، وصحيح أنَّ الإنسان يفعل ما هو فاعل على كل حال، ولكن التحذير لا يخلو من مُتعة، والآن يحسن أن يجيئني أحدكم بالمستر بودجرز وإلا ذهبت بنفسي لأبحث عنه.
فقال شاب وسيم مديد القامة، وكان واقفًا يصغي إلى الحديث وهو يبتسم: دعيني أذهب يا ليدي وندرمير.
– شكرًا لك يا لورد أرثر، ولكني أخشى أن لا تعرفه!
– إذا كان كما تصفينه آية من آيات الله، فلا أحسب أني أخطئه، صفيه لي أجئك به في التو والساعة.
– إنه لا يبدو كما نتخيل قارئ الكف، وإنما هو رجل قصير بدين أصلع الرأس وعلى عينيه نظارة كبيرة ذهبية الإطار — وهو يُشبه طبيب العائلة — أو نائبًا في الأرياف، وإني لآسفة جدًّا، ولكن هذا ليس ذنبي، وإنما الذنب للناس الذين لا يزالون يخيبون كل أمل، كل عازفي البيانو الذين أدعوهم يشبهون الشعراء، وكل شعرائي يشبهون عازفي البيانو، وأذكر أني دعوت في الموسم الماضي إلى العشاء رجلًا من أفظع الفوضيين، رجلًا نسف كثيرًا من الناس وكان ينبغي أن يجيء لابسًا درعًا ومعه خنجر يخبئه في كمه، فهل تعلمون أنه لما جاء بدا لي كأنه قسيس ظريف، وظل يمزح طول الليل؟ وصحيح أنه كان ظريفًا حلو الفكاهة إلى آخر ذلك، ولكن أملي فيه خاب، ولما سألته عن الدرع ضحك وقال: إن الجو في إنجلترا بارد جدًّا … آه … هذا هو المستر بودجرز! تعال يا مستر بودجرز فإني أريد منك أن تقرأ كف دوقة بيزلي. انزعي قفازك يا دوقة … عن اليد اليمنى لا اليسرى.
فقالت الدوقة وهي تنزع قفازًا من الجلد غير نظيف: يا عزيزتي جلاديس … لست أرى أن هذا من الصواب تمامًا.
فقالت الليدي وندرمير: ما من شيء ممتع يكون من الصواب، ولكن يحسن بي أنْ أقومَ بواجب التَّعريف، هذا هو المستر بودجرز قارئ الكف وهو أثير عندي يا دوقة، ويا مستر بودجرز هذه هي دوقة بيزلي. وإذا قلت: إن تل القمر الذي في كفها أكبر من الذي في كفي فلن أؤمن بك بعد ذلك أبدًا!
فقالت الدوقة: أنا واثقة يا جلاديس أنه ليس في كفي شيء من هذا.
فقال المستر بودجرز وهو يلقي نظرة على كفها الصغيرة الغليظة وأصابعها القصيرة المبططة: إنك على حق يا سيدتي، فإن تل القمر ليس ظاهرًا، أمَّا خط الحياة فبديع. أرجو أن تثني رسغك، شكرًا لك، ثلاثة خطوط واضحة هنا، إن عمرك طويل يا سيدتي الدوقة وستكونين سعيدة جدًّا، الطموح معتدل، خط العقل ليس فيه مبالغة، خط القلب …
فصاحت به الليدي وندرمير: والآن يا مستر بودجرز أرجو أن لا تتحرز!
فقال المستر بودجرز وهو ينحني: ليس أبعث على سروري من ذلك، لو كانت الدُّوقة غير ما أرى، ولَكِنَّهُ يُؤسفني أَنْ أَقُول: إِنِّي أرى ثباتًا عظيمًا في عواطفها مقرونًا بشعور قوي بالواجب.
فقالت الدوقة وقد بدا عليها السرور: استمر من فضلك يا مستر بودجرز.
فمضى المستر بودجرز في كلامه فقال: إن الاقتصاد ليس أقل فضائلك يا سيدتي الدوقة.
فأنشأت الليدي وندرمير تضحك.
وقالت الدوقة بلهجة الراضي المغتبط: إن الاقتصاد نهج حسن جدًّا، ولما تزوجت بيزلي كان له أحد عشر قصرًا وليس بينها بيت واحد يصلح للسكنى.
فقالت الليدي وندرمير: والآن صار له اثنا عشر بيتًا ولكن ليس له قصر واحد.
فقالت الدوقة: الحقيقة يا عزيزتي أني أحب …
قال المستر بودجرز: الراحة، والمرفهات الحديثة، والماء الساخن في كل غرفة نوم، وأنت يا سيدتي الدوقة على حق؛ فإن الرفاهية هي الشيء الوحيد الذي تستطيع حضارتنا أن تنيلنا إياه.
وقالت الليدي وندرمير: لقد رسمت شخصية الدوقة ببراعة يا مستر بودجرز، والآن يجب أن تقرأ كف الليدي فلورا.
وأنغضت رأسها إليها وهي تبتسم؛ فخَرَجتْ مِنْ وراء الطارقة — الكنبة — فتاة طويلة صفراء الشعر عالية الكتفين، وبسطت كفًّا طويلة الأصابع قليلة اللحم.
فقال المستر بودجرز: آه … عازفة بيانو … إني أرى عازفة ماهرة ولكنها لا تبلغ أن تكون موسيقية، متحرزة جدًّا، صادقة … شديدة الحب للحيوان.
فقالت الدوقة لليدي وندرمير: هذا صحيح كل الصحة … فإنَّ عِند فلورا أَرْبَعةً وعشرين كلبًا في قصر ماكلوسكي، ولو أنَّ أباها خلى بينها وبين ما تريد لجعلت من دارنا حظيرة للحيوان.
فقالت الدوقة لليدي وندرمير: هذا صحيح كل الصحة … فإنَّ عِند فلورا أَرْبَعة وعشرين كلبًا في قصرماكلوسكي، ولو أنَّ أباها خلى بينها وبين ما تريد لجعلت من دارنا حظيرة للحيوان.
فقالت الليدي وندرمير وهي تضحك: هذا ما أصنعه بداري مساء كل خميس سوى أني أوثر الأسود على الكلاب!
فقال المستر بودجرز وهو ينحني لها: هذه غلطتك الوحيدة يا ليدي وندرمير.
فكان الجواب: إذا المرأة لم تستطع أن تفرغ على أغلاطها حسنًا وفتنة؛ فإنها لا تكون أكثر من أنثى، ولكن يجبُ أن تَقْرأ لنا أكفًّا أُخرى. تعالَ يا سير توماس! ابسط يدك للمستر بودجرز.
فتقدم كهل طلق المحيا يرتدي صدرية بيضاء، وبسط كفًّا غليظة خشنة وُسطاها — بضم الواو — طويلة جدًّا.
– مغامر، أربع رحلات طويلة فيما مضى، ورحلة أخرى ستجيء، تحطمت به السفينة ثلاث مرات، كلا، بل مرتين فقط، والثالثة ستكون في الرحلة التالية، محافظ جدًّا، ومواظب جدًّا، وكلف بجمع التحف والطرف، أصيب بمرض شديد بين السادسة عشرة والثامنة عشرة، ورث ثروة وهو في الثلاثين تقريبًا، ينفر نفورًا شديدًا من القطط والأحرار.
فقال السير توماس: مدهش! يجب أن تقرأ كف زوجتي أيضًا.
فقال المستر بودجرز في هدوء وهو يتأمل كف السير توماس: زوجتك الثانية، زوجتك الثانية يا سيدي. إن هذا يكون من دواعي اغتباطي.
ولكن الليدي مارفيل — وهي سيدة ساهمة الوجه داكنة الشعر وطفاء الهدب — أبت كل الإباء أن تدع أحدًا يكشف عن ماضيها أو مستقبلها. وعجزت الليدي وندرمير عن إقناع المسيو دي كولوف السفير الروسي بأن ينزع حتى قفازه، وبدا كثيرون كأنهم يخشون أن يواجهوا هذا الرجل القصير وابتسامته الثابتة — كأنها مرسومة — ونظارته الذهبية، وعينيه البراقتين كالخرزتين. ولمَّا قال لليدي فرمور على مسمع من الجميع أنها لا تعبأ شيئًا بالمُوسيقى ولكنها تحب الموسيقيين حبًّا جمًّا، أحس كل امرئ أن علم الكف علم خطر وأنه ينبغي أن لا يزاول إلا في خلوة.
على أن اللورد أرثر سافيل الذي كان يجهل قصة الليدي فرمور كل الجهل، والذي كانت عينه على المستر بودجرز، اشتهى أن تقرأ له كفه، غير أنه استحيا أن يتقدم غير مدعوٍّ، فمضى إلى حيث كانت الليدي وندرمير جالسة، ووجهه مضطرم من الخجل وسألها هل يقبل المستر بودجرز أن يقرأ له كفه؟
فقالت: بالطبع يقبل، وإلا فَمَا داعي وجوده بيننا؟ ولكن اعلم يا لورد أرثر أنَّ كل أسودي مدربة مروضة، وهي تثب نافذة من الأطواق كُلَّمَا أمرتها بذلك، غير أني أنذرك من الآن أني سأقص كل شيء على سيبيل، وهي ستتغدى معي غدًا لنتبادل الرأي في القبعات، فإذا وجد المستر بودجرز أنك سيء الخلق أو أنك معرض للإصابة بمرض النقرس، أو أن لك زوجة تعيش في بيزووتر، فإني سأفضي بهذا كله إليها على التحقيق.
فابتسم اللورد أرثر وهز رأسه: لست خائفًا، فإنَّ سيبيل تعرفني حق المعرفة كما أعرفها.
– آه … يؤسفني أن أسمعك تقول ذلك، فإنَّ القاعدة الصحيحة للزواج هي سوء التفاهم المتبادل. كلا، لستُ أسخر ولا أنا كلبية النزعة، ولكني جربت الحياة، والتجربة تفضي إلى قريب من ذلك. يا مستر بودجرز، إنَّ اللورد أرثر سافيل يتلهف على قراءة كفه، فلا تقل له: إنَّه خطيب فتاة من أجمل فتيات لندن؛ فقد أُذيع هذا في صحيفة «المورنن بوست» منذ شهر مضى.
وقالت المركيزة جيدبرج: يا عزيزتي الليدي وندرمير، أرجو أنْ تَدعي المستر بودجرز يبقى معي قليلًا، فقد أخبرني الآن أنَّه ينبغي أنْ أَشْتَغل بالتمثيل، وأنا عظيمة الاهتمام بما يقول.
– إذا كان قد قال لك هذا، فإني أصرفه عنك ولا شك، تعالَ هنا يا مستر بودجرز واقرأ كف اللورد أرثر.
فقالت الليدي جيدبرج، وهي تنهض وتزوم قليلًا: إذا كان لا يسمح لي أن أشتغل بالتمثيل، فإنه يجب أن يسمح لي بأن أكون من الشهود على الأقل.
فقالت الليدي وندرمير: طبعًا، إننا كلنا سنكون من الشهود. والآن يا مستر بودجرز قل لنا شيئًا لطيفًا … فإن اللورد أرثر ممن أختصهم بمودتي.
ولكن المستر بودجرز ما كاد يرى كف اللورد أرثر حتى امتقع لونه، ولم يقل شيئًا، وكأنما سرت رعدة في بدنه، واختلج حاجباه الأزبان اختلاجًا مزعجًا غير مألوف، وهو ما يحدث له إذا تحير. ثم تفصد جبينه الأصفر عرقًا كأنه ندى مسموم وبردت كفاه وتندتا.
ولم تفت اللورد أرثر هذه الأمارات الغريبة الدالة على الاضطراب فاستولى عليه الخوف لأول مرة في حياته، ونازعته نفسه أن يخرج من الغرفة، ولكنه كبح نفسه؛ فإنَّ خيرًا له أن يعرف ما خبئ له، كائنًا ما كان، من أن يُترك في هذه الحيرة الشديدة والقلق المزعج.
وقال: إني أنتظر يا مستر بودجرز.
وقالت الليدي وندرمير بلهجة تنم على نفاد الصبر: كلنا في الانتظار!
ولكن عالم الكف لم ينبس بحرف.
وقالت الليدي جيدبرج: أحسب أن اللورد أرثر سيشتغل بالتمثيل، وأن المستر بودجرز يخشى أن يقول له ذلك بعد الذي سمعه من تأنيبك له على ما قاله لي.
وإذا بالمستر بودجرز يرسل يمنى اللورد أرثر فجأة ويتناول يسراه، وينحني جدًّا ليفحصها حتى لكادت نظارته تمس راحتها، وارتسمت على وجهه آيات الفزع والارتياع، غير أنَّه ما عتَّم أن استعاد سكينة نفسه، فصعد طرفه إلى الليدي وندرمير وقال بابتسامة متكلفة: إنها كف شاب ظريف.
فقالت الليدي وندرمير: بالطبع، ولكن هل سيكون زوجًا ظريفًا؟ هذا ما أُريد أن أعرفه.
فقال المستر بودجرز: كل الشبان الظرفاء يكونون كذلك.
وقالت الليدي جيدبرج: لا أرى أن يكون الزوج مفرط الظَّرْف، فإن ذلك خطر.
فقالت الليدي وندرمير: يا بنيتي العزيزة إنهم لا يكونون قط مفرطي الظَّرف … ولكني أُريد التفصيل والبيان؛ فإنَّ هذا هو الذي يهم … فما الذي سيقع للورد أرثر؟
– في خلال الشهور القليلة المُقبلة، يقوم اللورد أرثر برحلة…
– نعم … شهر العسل بالطبع.
– ويفقد بعض ذوي قرباه.
فقالت الليدي جيدبرج بصوت المشفق: أرجو أن لا تكون أخته؟
فقال المستر بودجرز وهو يشير بيده إشارة الاستهجان: كلا على التحقيق، لا أكثر من قريب بعيد.
فقالت الليدي وندرمير: لقد خاب أملي خيبة عظيمة؛ فما عندي شيء أحدث به سيبيل غدًا، ومن ذا يعبأ في هذه الأيام بالبعداء من ذوي القربى؟ لقد كف الناس عن العناية بأمرهم من زمان … على أني أحسب أنه يحسن بسيبيل أن تعد ثوبًا أسود، وهو على كل حال يصلح للكنيسة، والآن فلنقم إلى العشاء وإني لأخشى أن يكون القوم قد أكلوا كل ما هناك، ولكنَّا قد نجد حساءً سخنًا … وقد كان فرنسوا يُجيدُ الحِسَاء، ولكن السياسة تشغله في هذه الأيام فأنا غير مطمئنة … فليت الجنرال بولانجيه يهدأ! هل تعبت يا عزيزتي الدوقة؟
فقالت الدوقة وهي تمضي إلى الباب: كلا يا عزيزتي جلاديس … لقد استمتعتُ جِدًّا، فإنَّ قارئ الكف آية … أين يا فلورا مروحتي؟ شكرًا لك يا سير توماس، وشملتي يا فلورا؟ أوه شكرًا يا سير توماس إن هذا لطف منك.
وأخيرًا استطاعت السيدة الماجدة أن تنزل دون أن تسقط من يدها زجاجة الطيب أكثر من مرتين.
وكان اللورد أرثر سافيل قد ظل طول هذا الوقت واقفًا إلى جانب الموقد يُسَاوره نفس الشعور بالفزع، ونفس الإحساس بشرٍّ متوقع، وقد ألقى ابتسامة حزينة إلى أخته وهي تمر به، رقراقة معتمدة على ذراع اللورد بريمديل، في ثوبها القرمزي الموشى، وفي حفل من اللآلئ … ولم يكد يسمع الليدي وندرمير حين دعته إلى اللحاق بها، وفكر في سيبيل مرتون «خطيبته»، فجال الدمع في عينيه إذ طاف برأسه أنَّ شيئًا ما قد يفرق بينهما.
وكان الذي يراه، خليقًا أن يقول: إنَّ ربة النقمة قد سرقت درع باللاس وأرته وجه الغول؛ فقد كان كأنما مسخ حجرًا، وكان وجهه كالرخام من فرط وجومه وكآبته، وكانت حياته حياة شاب من السادات ذوي الحسب والثراء ينعم بالخفض والدعة، وهي حياة رقيقة حُرَّة يكفى — بضم الياء وفتح الفاء — من يعيشها الهم ولا تتركه يبالي شيئًا. والآن، للمرة الأولى يشعر بغمض القدر الرهيب ومعنى القضاء المرعب.
فتالله ما أفظع هذا كله وأذهبه بالعقل! أيمكن أن يكون قد خط على راحته بحروف لا يستطيع هو أن يتبينها، ولكن غيره يسعه أن يقرأه، سرٌّ خطيئة مخيف، أو دلالة جريمة دموية؟ أو لسنا إلا بيادق في رقعة شطرنج تحركنا قوة خفية، أو خزفًا يصوغه الفخار على هواه للرفعة أو الضعة، وللشرف أو العار؟ وثار عقله على هذا، ومع ذلك أحس أن كارثة تُوشك أنْ تحل به، وأنه دعي بغتة لاحتمال عبء يبهظ الطاقة.
فما أسعد الممثلين! فإنَّ لهم لخيارًا فيما يمثلون من مأساة أو فكاهة، وما يؤثرون من حزن أو سرور، ومَن ضحك أو بكاء، ولكن الأمر في الحياة مختلف جدًّا، فإن معظم الرِّجال والنساء مكرهون على أداء أدوار لا يؤهلهم لها شيء، فالنقباء يؤدون لنا دور هملت، والذين هم من طراز هملت يضطرون أن يمزحوا ويهزلوا كالبرنس هال، والدنيا ملعب ولكن أدوار الرواية موزعة توزيعًا سيئًا.
ودخل المستر بودجرز الغرفة فجأة، فلمَّا رأى اللورد أرثر فزع، واستحال وجهه السمين الغليظ إلى صفرة تضرب إلى الخضرة، والتقت العيون، وساد الصمت برهة.
وقال المستر بودجرز أخيرًا: لقد نسيت الدوقة أحد قفازيها هنا يا لورد أرثر، وكلفتني أن أجيئها به. آه! هذا هو على المقعد. عم مساء!
– يا مستر بودجرز، إنه لا يسعني إلا أن أصر على أن تجيبني جوابًا صريحًا عن سؤال سألقيه عليك.
– في وقت آخر يا لورد أرثر، فإنَّ الدوقة قلقة، وأنا مضطر إلى الذهاب.
– لن تذهب، فما ثم ما يدعو الدوقة إلى العجلة.
فقال المستر بودجرز بابتسامته الباهتة: لا يجوز ترك السيدات ينتظرن، فإن صبرهن ينفد.
فانقلبت شفة اللورد أرثر الدقيقة احتقارًا، فكأن الدوقة المسكينة لا قيمة لها عنده في هذه اللحظة، وقطع الغرفة إلى حيث كان المستر بودجرز واقفًا وبسط له يده: خبرني ماذا رأيت فيها، قل الحق، فلا بد أن أعرفه، فلست بطفل.
فجعلت عينًا المستر بودجرز تطرفان وراء النظارة، وراح يقوم على رجل بعد رجل بينما كانت أصابعه تعبث بسلسلة ساعته: ماذا يحملك على الظن أني رأيت في يدك يا لورد أرثر أكثر مما أخبرتك به؟
– إني أعرف ذلك، وأصر على أن تطلعني عليه كائنًا ما كان، وسأعطيك صكًّا — شيك — بمائة جنيه.
فلمعت العينان الخضراوان ثم خمدتا مرة أخرى.
وقال المستر بودجرز أخيرًا: مائة جيني؟١
– على التحقيق، سأبعث إليك بالصك غدًا، فما اسم ناديك؟
ليس لي نادٍ، أعني ليس لي نادٍ في الوقت الحاضر، ولكن عنواني … اسمح لي أن أقدم لك بطاقتي!
وأخرج من جيب صدريته بطاقة مذهبة الحروف ومد بها يده إلى اللورد أرثر وانحنى له، فقرأ اللورد فيها:
المستر سبتيموس ر. بودجرز
عالم الكف المحترف
١٠٣ أ شارع وست مون
وقال المستر بودجرز وقد غلبته العادة: المقابلة من العاشرة إلى الرابعة وللأسر تخفيض.
فقال اللورد أرثر، وقد تغير لونه وهو يبسط يده: أسرع!
فتلفت المستر بودجرز حوله مضطربًا، وجذب الستار الكثيف فحجب به الباب: إنَّ هذا سيستغرق وقتًا، فيحسن بك يا لورد أرثر أن تجلس.
– أسرع يا رجل!
قالها اللورد اللورد أرثر وضرب الأرضية المصقولة برجله من الغضب.
فابتسم المستر بودجرز وأخرج من جيبه مجهرًا صغيرًا ومسحه بمنديله بعناية، وقال: إني على أتم استعداد.