كان رجلًا قصيرًا وممتلئًا، مع بعضما يوحي بأن جسده غير متناسق، على الرغم من
صعوبة تحديد مكمَن عدم التناسُق بالضبط. قد يقول قائل إنه كان أحدب من غير حَدَبة
على ظهره. كان وجهه الكبير الناعم أشبه بعجين غير مُكتمِل النضوج؛ إذ كان له اللون
نفسه ومُستوى الرطوبة نفسه، بينما كانت البثور والهالات السوداء المُتناثرة عليه تَبرز
بحدَّة على هذه الخلفية الشاحبة. كانت عيناه كعينَي قط، وشابَهَ القطط أيضًا في شاربه
النحيل الطويل المُنتصِب، الذي كان يعلو فمه الرخو المزبد الذي يسيل منه اللعاب. كان
مظهره وضيعًا ومثيرًا للاشمئزاز، إلى أن يصل المرء إلى حاجبَيه الرمليَّي اللون؛ فمنهما فما
فوق، ثمَّة قوسٌ جبهيٌّ رائع قلَّما رأيتُ له مثيلًا. حتى قبعة تشالنجر لربما كانت ستليق
بذلك الرأس البديع. كان يمكن للمرء أن يرى ثيودور نِمور صعلوكًا ووصوليٍّا ومتآمرًا،
بالنظر إلى جزئه الأسفل، لكن أعلاه يضعه في مصافِّ مُفكِّري وفلاسفة العالم العظماء.
تحدَّث إلينا بصوت مخملي ناعم فيه أثر طفيف للغاية «. حسنًا، سيديَّ المحترمَين »
لقد أتيتما — كما فهمت من دردشتنا القصيرة على الهاتف — لكي تَعرفا » ، للكنَة أجنبية
«؟ أكثَر عن مُفكِّك نِمور. أليس كذلك
«. بلى »
«؟ هل لي أن أسأل: هل أنتما تُمثِّلان الحكومة البريطانية »
«. لا، على الإطلاق. أنا أعمل مراسلًا للجريدة الرسمية، وهذا هو البروفيسور تشالنجر »
ولمعت أنيابه الصفراء بابتسامة بها ودٌّ مبالَغ فيه. «. إنه اسمٌ كريم؛ اسم أوروبي »
كنت على وشك القول إن الحكومة البريطانية ضيَّعَت فرصتها. لكن ما ضيَّعته في السابق »
ربما تَحصل عليه في اللاحق. ربما يَسري الأمر على إمبراطوريتها أيضًا. لقد هيَّأت نفسي
لبيع اختراعي للحكومة الأولى التي أعطَتْني ثمنه، فإذا كان الآن في أيدي من لا يُرضيكم،
«. فما من أحد غيركم لتلوموه
«؟ إذن فقد بعتسرَّك »
«. بالسعر الذي حددتُه »
«؟ هل تعتقد أن المُشتري سيحتكره »
«. سيفعل بلا شك »
«. لكن ثمة من يَعرف السر سواك »
ولمَس جبهته العظيمة. «. لا يا سيدي »
هذه هي الخزانة المَحفوظ فيها السرُّ بأمانٍ، وهي أمتن من أيِّ خزانة فولاذية، »
ومحمية بما هو أفضل من مفتاح ييل. قد يكون البعض على علم بأحد جوانب الأمر،
«. ويُحيط آخرون علمًا بجانب آخر. لكن ما من أحد في العالم يُلمُّ به كله، إلا أنا
«. وهؤلاء الرجال المحترمون الذين بعتَ لهم الاختراع »
لا يا سيدي، لست مُغفَّلًا إلى هذا الحد لأضع هذه المعرفة بين أيديهم، قبل أن أقبض »
ثم لمَسحاجبه «. الثمن. بعد أن أقبضه سيَكونون قد اشترَوني أنا، وسيأخذون هذه الخزانة
سيأخُذونها بكل ما تحتويه، إلى أي مكان يَشاءون. حينئذٍ » : بأنامله مرة أخرى، وتابع قائلًا
«. سيكون دوري في الصفقة قد تم؛ تم بإخلاصوبلا مشاعر. بعد ذلك، سيُصنَع التاريخ
وفرَك يدَيه، وحوَّلت الابتسامة الثابتة على وجهه نفسها إلىشيء يُشبه العقدة.
وكان حتى ذلك الحين يَجلس صامتًا، «. اسمح لي يا سيدي » : قال تشالنجر بانفعال
لكن تعبيرات وجهه كانت تَنطِق بالامتعاض الشديد تجاه ثيودور نِمور، وأردف قائلًا:
قبل أن نُناقش الأمر، يجدر أن نرى ما يُقنعنا بأن هنالك شيئًا للتناقُش بشأنه. نحن لمْ »
ننسَ تلك الواقعة التي حدثَت مؤخرًا، حين أثبتت التحريات أن رجلًا إيطاليٍّا ادَّعى قدرته
على تفجير المَناجم عن بُعد، ليس إلا أفَّاقًا بكلِّ معاني الكلمة. من الوارد أن يُعيد التاريخ
نفسه. وعليك أن تفهم، يا سيدي، أن لديَّ سُمعة عليَّ أن أحافظ عليها باعتباري رجلَ عِلم؛
سُمعة تفضَّلت بوصفها بالأوروبية، مع أن لديَّ من الأسباب ما يَجعلني أعتقد أنها ليست
أقلَّ ذيوعًا في أمريكا. الاحتراز فضيلة علمية، وعليك أن تُريَنا براهينك، قبل أن نأخُذ مزاعمَك
«. على محمَل الجد
رمق نِمور مُرافقي بنظرة خبيثة من عينَيه الصفراوَين، بينما اتَّسعت على وجهه
ابتسامة الودِّ المُصطَنع.
إنك على مستوَى ما يُتوقَّع منك يا بروفيسور. لطالَما عرفتُ أنك آخر رجل في العالَم »
يُمكن خداعه. وإنني على استعداد لإعطائك دليلًا دامغًا من المستحيل ألَّا يُقنعك، لكن قبل
أن نكمل، عليَّ أن أتحدث بإيجاز عن الفكرة العامة.
ستُلاحظ أن الآلة التجريبية التي أنشأتُها هنا في مختبري، ما هي إلا نموذج مصغَّر،
ومع ذلك، فإنها تعمل على نحوٍ رائع، في حدود إمكانياتها. فعلى سبيل المثال، من غير
المحتمَل أن يكون ثمة صعوبة في تفكيكك وإعادة تجميعك مرة أخرى، لكن ليس لمثل هذا
الغرض تتهيَّأ حكومة كُبرى لدفع ثمن يُقدَّر بالملايين. نموذجي هو مجرَّد لعبة علمية.
أما التأثيرات العملية الضخمة، فلا يُمكن تحقيقها إلا عند تطبيق المبدأ نفسه على نطاق
«. واسع
«؟ هل يُمكننا رؤية هذا النموذج »
إنك لن تراه فحسب يا بروفيسور تشالنجر، بل ستَحصل على الدليل الأكثر قطعية »
«. الذي يُمكنك الحصول عليه بنفسك، إذا كنت تَمتلك الشجاعة للتعرضله
«. التي تفوَّهت بها يا سيدي، تُعدُّ إهانة من الدرجة الأولى « إذا » إذا! إنَّ » : بدأ الأسد يزأر
حسنًا، حسنًا. لمْ يكن لديَّ أيُّ نية للتشكيك في شجاعتك. كلُّ ما أقوله هو أنني »
سأَمنحك الفرصة لتُبرهن عليها. لكن أولًا سأتحدث بإيجاز عن القواعد الأساسية التي
تحكم الأمر.
حين تُوضع بلورات معيَّنة في الماء — مثل الملح أو السكر — فإنها تذوب وتختفي.
لا يكون بوسعك معرفة ما إذا كانت قد وُجدت من قبل أم لا. ثم بالاستعانة بالتبخير
أو تقليل كمية الماء بأي شكل، فيا للعجب! ها هي بلوراتك من جديد، تظهر مرة أخرى
مثلما كانت من قبل. هل يُمكنك أن تتصوَّر عمليةً، يتمُّ فيها بالطريقة ذاتها إذابتُك — أنت
«؟ الكائن الحي — في الكون، ثم إعادة تجميعك مرة أخرى، عن طريق عكسٍمُتقَنٍ للعملية
إنه قياسفاسد. فحتى لو سلَّمتُ تسليمًا بالغ الفظاعة بأن جُزيئاتنا » : صاح تشالنجر
يمكن أن تتبعثر بفعل قوةٍ مُشتِّتة، فلماذا عساها يُعاد تجميعها بالترتيب نفسه الذي كانت
«؟ عليه من قبل تمامًا
إنه اعتراضبدهي، ولديَّ ردٌّ واحدٌ فقط، وهو أن الجُزيئات يُعاد تجميعها على هذا »
النحو بالضبط، حتى آخر ذرة في البِنية. ثمة إطار غير مرئيٍّ للعمل، وكلُّ لَبِنة تسبح فيه
لتستقرَّ في مكانها الصحيح. لك أن تتبسَّم يا بروفيسور، لكن تشكيكك وابتسامك، قد يحلُّ
«. محلَّهما قريبًا شعورٌ مختلف تمام الاختلاف
أنا مُستعِد تمام الاستعداد لوضع الآلة تحت » : هزَّ تشالنجر كتفَيه مُتشكِّكًا، وقال
«. الاختبار
ثمة حُجة أخرى سأقُنعكما بها، سيديَّ الفاضلَين، وربما تُساعدكما في استيعاب »
الفكرة. لا بد أنكما سمعتما في كلٍّ مِن السحر الشرقي والباطنية الغربية عن ظاهرة
الجلب، حينما يُجلبشيءٌ ما من مكان بعيد على نحو مفاجئ ليظهر في مكان جديد. كيف
يُمكن فعلُ شيء كهذا إلا عن طريق خلخلة الجزيئات، ونقلها عبر موجة أثيرية، وإعادة
تجميع بعضها إلى بعض، كلٌّ في مكانه بالضبط، وفق قانونٍ لا يُمكن الحيد عنه؟ يبدو
«. ذلك تمثيلًا جيدًا لما تقوم به آلتي
لا يصحُّ أن تفسِّر شيئًا لا يُصدَّق، بالاستشهاد بشيء آخر يَستحيل » : قال تشالنجر
تصديقه. أنا لا أومن بظواهر الجلب التي تتحدَّث عنها يا سيد نِمور، ولا أصُدق في آلتك.
إن وقتي ثمين، وإذا كنا سنَحصُل على أي نوعٍ من الإثباتات، أتوسَّل إليك أن تمضي إليه
«. بلا مزيد من الشكليات
وقادَنا من شقته إلى أسفل الدَّرَج؛ حيث «. إذن سيُسعدكما أن تتبعاني » : قال المخترع
عبَر بنا حديقة صغيرة موجودة في الخلف. كان هناك مبنًى خارجي كبير، فتَحه وأدخلنا
إليه.
في داخل المبنى، كانت توجد غرفة كبيرة مطلية باللون الأبيض، بها مجموعة لا حصرَ
لها من الأسلاك النُّحاسية تتدلى من السقف على هيئة حلقات، ومغناطيسضخم، موضوع
على قاعدة. وأمام ذلك، كان يوجد ما بدا أنه موشور مِن الزجاج، يبلغ طوله ثلاث أقدام،
وقُطره حوالي قدم واحدة. وإلى يَمينه كان يوجد كرسي موضوع على منصة من الزنك،
ومعلَّقة فوقه قلنسوة من النحاسالمصقول. وكلٌّ مِن القلنسوة والكرسيموصَّلةٌ به أسلاك
ثقيلة، وإلى جانبهما كان يوجد ما يُشبه السقاطة، فيه فتحات مرقَّمة، وذراع مُغطَّاة
بالمطاط الطبيعي، كانت موضوعة حينها في الفتحة ذات الرقم صفر.
مشيرًا بيده إلى الآلة. ،« ذاك مفكِّك نِمور » : قال ذلك الرجل الغريب
هذا هو النموذج المقدورة له الشهرة، بتغييره موازين القوى بين الأمم. مَن يحُزْه »
يَحكم العالم. والآن، يا بروفيسور تشالنجر، لقد عاملتَني — إن جاز لي القول — بشيء مِن
قلة الاحترام والتقدير، بهذا الخصوص. فهل ستجرؤ على اعتلاء هذا الكرسي والسماح لي
«؟ بأن أبرهن لك، بالتطبيق على جسدك أنت، على إمكانيات هذه القوَّة الجديدة
كان تشالنجر يَملك شجاعة أسد، وكان أيُّ شيء ينطوي على تحدٍّ يُثير جنونه على
الفور؛ فاندفع نحو الآلة، لكنَّني جذبته من ذراعه، ومنعتُه من التقدم.
لن تذهب، حياتُك قيِّمة للغاية. هذه الآلة مُتوحِّشة. ماذا عساك تملك من » : قلت له
ضمانات السلامة؟ إن الشيء الوحيد الذي رأيته في حياتي الأقرب شبهًا بهذا الجهاز، كان
«. كرسيَّالإعدام الكهربائي في سجن سنج سنج
ضمانُ سلامتي هو أنك شاهد على الأمر، وأن هذا الشخصسيُقبض » : قال تشالنجر
«. عليه حتمًا بتُهمة القتل غير العمد — على الأقل — إذا أصابني أي مكروه
لن يكون في ذلك عزاءٌ كافٍ لعالَم العِلم، حين تَترك وراءك عملًا غير مُكتمِل، »
لا يستطيع أحد غيرك إكماله. دعني — على الأقل — أذهب أولًا، ثم إذا ثبَت أن التجربة
«. آمنة، يُمكنك أن تلحق بي
لمْ يكن تعريض النفس للخطر ليُزحزِح تشالنجر عن موقفه، لكن فكرة أن عمله
العلمي قد يبقى غير مُكتمِل أصابته في مقتَل. تردَّد، وقبل أن يتَّخذ قراره، كنتُ قد اندفعتُ
إلى الأمام وقفزتُ إلى الكرسي. رأيتُ المُخترِع يضع يده على الذراع المطاطية. سمعتُ صوت
طقطقة. وللحظة، ساوَرَني شعور بالارتباك، وبضباب أمام عيني. وحين زال ذلك الشعور،
كان المُخترع بابتسامته البغيضة واقفًا أمامي، وكان تشالنجر بوجنتَيه اللتَين تُشبهان
تفاحتين حمراوَين قد فقدتا دمهما ولونهما، يتلفَّت حوله.
«! حسنًا، لنفعلها » : قلت
فعلناها وانتهى الأمر. لقد استجبتَ على نحو رائع. انزل، وبلا شك سيكون » : ردَّ نِمور
«. البروفيسور تشالنجر جاهزًا لأخذ دوره الآن
لمْ يَسبِق قطُّ أن رأيتُ صديقي القديم قلقًا إلى هذا الحد. للحظة، خذلتْه أعصابه
الفولاذية تمامًا. فأمسك بذراعي بيد مُرتعِشة.
يا إلهي، مالون، إن الأمر حقيقي، لقد اختفَيت. ما من شكٍّ في ذلك. للحظة » : قال لي
«. كان هناك ضباب، ثم فراغ
«؟ كم من الوقت غِبتُ » : سألته
دقيقتين أو ثلاثًا. أعترف بأنني كنتُ مُرتعِبًا. لمْ أتخيَّل أنك ستعود. ثم قام » : قال
بالنقر على هذه الرافعة — لو كانت رافعة — ووضعها في فتحة جديدة، وإذا بك على
الكرسي، تبدو مرتبكًا بعض الشيء، لكنك فيما عدا ذلك كسابق عهدك. حمدتُ الربَّ لمَّا
ومسح جبينه المبتلَّ بوشاحه الأحمر الكبير. «! رأيتك
«؟ الآن يا سيدي، أم ربما كانت أعصابك منهارة » : قال المُخترِع
كان واضحًا أن تشالنجر يحاول تَمالُك نفسه، ثم أجلس نفسه على الكرسي، منحِّيًا
يدي التي اعترضَت طريقه جانبًا. انتقلت الذراع المطاطية إلى الفتحة رقم ثلاثة. واختفى
تشالنجر.
إنها عملية » : لا بد أنني كنتُ مُرتعبًا، لكن لشدَّة برودة أعصاب مُشغِّل الآلة. قال
مُثيرة، أليست كذلك؟ حين ينظر المرء بعين الاعتبار إلى شخصية البروفيسور المهيبة، يكون
من الغريب أن يُفكِّر في أنه، في هذه اللحظة، عبارة عن سحابة من الجزيئات، عالقة في جزءٍ
ما من هذا المبنى. إنه الآن — بلا شك — واقع بالكلية تحت رحمتي. لو اخترتُ أن أتركه
«. معلَّقًا، فما منشيء على ظهر البسيطة يمنعني من ذلك
«. حينها سأَجدُ بسرعة وسائل لمنعك »
لا تَعتقِد أن فكرة كهذه قد خطرت » : تحوَّلت الابتسامة مرةً أخرى إلى عقدة، ثم قال
ببالي من قبل. بالله عليك! فكِّر في التبدُّد الدائم للبروفيسور العظيم تشالنجر، مُختفيًا في
الفضاء الكوني دون أن يَترك أي أثر! أمر مريع! مريع! وفي الوقت نفسه، هو لمْ يكن مهذَّبًا
«؟ كما يجب. ألا ترى في هذا درسًا صغيرًا له
«. نعم، لا أرى ذلك »
حسنًا،سنُسمِّيه برهانًا لافتًا للنظر؛شيئًا منشأنه أن يصنع فقرة مثيرة فيصحيفتك. »
لقد اكتشفتُ، على سبيل المثال، أن شعر الجسم عندما يكون على موجة مختلفة تمامًا
بالنسبة إلى أنسجة الكائن الحي، يُمكن أن يُشمل أو أن يُستبعد حسب الرغبة. وبذلك
«! سيكون من المُثير للاهتمام بالنسبة لي، أن أرى الدبَّ بلا شعر. ها هو
وصدَر صوتُ طقطقة الرافعة. وفي اللحظة التالية، أعُيد تشالنجر إلى الكرسي مرةً
أخرى. ولكن، يا له من تشالنجر! يا له من أسد حليق! وعلى الرغم من أن الخدعة التي
حيكت ضدَّه أثارت غضبي، لمْ أستطع منع نفسي من الانفجار بالضحك.
كان رأسه الضخم أصلع كرأس طفل، وذقنُه أملس كذقن فتاة. وفي غياب لُبدته
الجليلة، كان الجزء السفليُّ من وجهه مُتهدِّلًا بشدة، يُشبه لغدَ الخنزير، بينما كان مظهره
العام مظهر مُصارِع عجوز، يُقاتل مثخَنًا بالجراح والانتفاخات، له فكَّا كلب من نوع
بولدوج، فوق ذقن ضخم.
ربما علا وجوهنا تعبيرٌ ما — لا يُساورني الشك في أن ابتسامة مُرافقي الشرِّيرة
اتسعت أمام ذلك المشهد — لكن أيٍّا ما كان، فقد صعدت يد تشالنجر إلى رأسه، وأصبح
مُدركًا للحالة التي كان عليها. وفي اللحظة التالية، انتفَض من كرسيِّه، وأطبق على عنق
المخترع، وطرَحه أرضًا. ولأنني أعرف قوة تشالنجر الهائلة، كنتُ واثقًا من أن الرجل
سيلقى حتفه.
بحق الرب خُذ حذرك. إن أنت قتلتَه فلن نستطيع إعادة الأمور إلى نصابها » : صحت
«! أبدًا
ورجحت كفَّة تلك الحجة. فحتى في أقصىلحظات غضبه، دائمًا ما كان البروفيسور
تشالنجر يُصغي لصوت العقل. هبَّ واقفًا، وجرَّ المخترع المُرتعد معه. قال لاهثًا في غضب:
سأعُطيك خمسدقائق، إذا لم أعُد إلى سيرتي الأولى في خلال خمسدقائق، فسأَنزع الحياة »
«. نزعًا من جسدك الضئيل البائس
لم يكن تشالنجر في سَورة غضبه شخصًا مأمونًا عند الجدال؛ فربما تحاشاه أشجع
الرجال، ولم يكن ثمَّة ما يدلُّ على أن السيد نِمور رجل ذو شجاعة استثنائية. بل على
العكس من ذلك؛ إذ صارت تلك الهالات والبثور التي كسَت وجهه فجأةً أكثر جلاءً؛ وقد
تحوَّل الوجه الذي في خلفيتها، من لون العجين المُصفَرِّ — وهو لونه الطبيعي — إلى لون
بطن السمكة الأبيض. كانت أطرافه ترتجف، وبالكاد استطاع أن يتكلَّم بوضوح.
حقٍّا يا بروفيسور! لا داعيَ إطلاقًا لهذا العنف. » : قال مُثرثِرًا ويده ممتدة إلى عنقه
يُمكن بالتأكيد قبول دعابة لاضرر منها بين الأصدقاء. كنتُ أطمَح إلى البرهنة على إمكانيات
الآلة، وتصوَّرت أنك تُريد برهانًا متكاملًا. لم أقصد أيَّ إساءة، أؤُكِّد لك. لم أقصد أيَّ إساءة
«! على الإطلاق يا بروفيسور
بحثًا عن حلٍّ، عاد تشالنجر لاعتلاء الكرسي.
«. ستُبقي عينَيك عليه يا مالون، لا تدع له أيَّ فرصة للفكاك »
«. سأَحرصعلى ذلك يا سيدي »
«. والآن إذن، أَعِد الأمور إلى نصابها، أو تحمَّل العواقب »
اقترب المخترع المرعوب من آلته. وتمَّ تشغيل قوة إعادة التجميع بسعتها القصوى،
وسرعان ما عاد من جديد، ذلك الأسد القديم بلُبدته المتشابكة. وراح يُمسِّد لحيته بيديه
بحنان، ويُمرِّرُهما على رأسه، للتأكد من اكتمال عملية الاستعادة. ثم هبط من مقعده
نازلًا.
لقد تمادَيتَ ياسيدي؛ مما كانسيجرُّ عليك عواقب وخيمة للغاية. ومع ذلك، يُسعدني »
أن أقبل تبريرك للأمر بأنك لم تفعل ذلك إلا لغرضالبرهنة. والآن، هل لي أن أطرح عليك
«؟ حفنةً من الأسئلة المباشرة حول القوة الاستثنائية التي تدَّعي اكتشافك لها
«. إنني مستعدٌّ للإجابة عن أيشيء، ما عدا السؤال عن مصدر القوة؛ فهذاسرِّي »
«؟ وهل أنت صادق في قولك أنْ لا أحد في العالم يعرف هذا السر غيرك أنت »
«. لا أحد يَملك أدنى فكرة عنه »
«؟ ألا يوجد لك مساعدون »
«. نعم يا سيدي؛ أنا أعمل منفردًا »
يا إلهي! ذلك مُثير للاهتمام أكثر. لقد أرضَيتَني بخصوص حقيقة القوة، لكنَّني »
«. لا أستوعب حتى الآن جوانبها التطبيقية
لقد شرحتُ لك يا سيدي، أن هذا مجرَّد نموذج. لكن سيكون من السهولة بمكان »
إنشاء آلة تعمل على نطاق واسع. لعلك تعي أن الآلة تَعمل رأسيٍّا؛ بحيث تكون هناك تيارات
معيَّنة فوقك، وتيارات معينة تحتك، تصنَع ذبذبات، إمَّا تُفكِّك وإمَّا تعيد التجميع. غير أن
العملية يمكن أن تتم أفقيٍّا. وإذا نُفِّذت بتلك الطريقة، يكون لها المفعول ذاته، وتُغطِّي
«. مساحةً تَتناسب مع قوة التيار
«. اضرب لنا مثالًا »
سنَفترضأن أحد القطبَين موجود في قاربصغير، والآخر في قارب آخر بينهما بارجة »
حربية، ستختفي تلك البارجة الموجودة بينهما، ببساطة، مُتحوِّلة إلى جُزَيئات. والأمر نفسه
«. ينطبق على صفٍّ من الجنود
«؟ وأنتَ بعتَ هذا السر حصريٍّا لدولة أوروبية واحدة »
نعم يا سيدي، لقد فعلتُ. حالَما يُستوفى المال، سيتملَّكون قوة لم تَمتلكها أمة قط. »
إنك الآن لا ترى إمكانياتها الكاملة حين تُوضع في أيدٍ قادرة؛ أيدٍ لا تخشى إعمال السلاح
وهنا لاحت على وجه الرجل الشرِّير ابتسامةٌ شامتة، «. الذي تَحمله. إنها إمكانيات لا تُحد
تخيَّل ناحيةً من نواحي لندن، تُنشأ فيها مثل هذه الآلات. تخيَّل تأثير مثل هذا » : وأردف
وانفجر بالضحك، وقال: «… التيار على النطاق الذي يستطيع بسهولة تغطيته. يا إلهي
أستطيع أن أتخيَّل وادي التيمز كلَّه وقد أزُيل تمامًا ولم يبقَ فيه رجلٌ ولا امرأة ولا طفل »
«. من تلك الملايين الغفيرة
ملأتني كلماته رعبًا، وما أرعبني أكثر نبرة الابتهاج التي نُطقت بها تلك الكلمات.
وعلى الرغم من ذلك، بدا أن لها وقعًا مختلفًا تمامًا على مُرافقي. وفاجأني أنِ افْتَرَّ ثغره عن
ابتسامة ودود، وبسط يده إلى المخترع.
حسنًا يا سيد نِمور، حريٌّ بنا أن نهنئك. لا ريب أنك اكتشفتَ خاصية رائعة » : قال
من خصائصالطبيعة، ونجحتَ في تسخيرها ليستخدمها البشر. ومع أن حتمية أن يكون
ذلك الاستخدام مدمِّرًا أمرٌ مُدان بشدة بلا شك، فإن العلم لا يَعرف الفوارق من هذا النوع،
بل يَتتبَّع المعرفة أيٍّا ما كان ما تؤدِّي إليه. وبصرف النظر عن المبدأ الذي أسُِّست عليه الآلة،
«؟ أعتقد أنك لا تُمانع أن أفحصتكوينها
على الإطلاق. الآلة ليست سوى الجسم. وما يهمُّ هو رُوحها؛ المبدأ الذي يحركها، وهو »
«. ما لا يسعك الإحاطة به
وظلَّ لبعضالوقت يدور «. بالضبط. ولكن تلك الآلة المجرَّدة، تبدو نموذجًا للابتكار »
حول الآلة ويتلمَّسأجزاءها المختلفة بأصابعه. ثم أراح جسده الثقيل على الكرسيالمعزول.
«؟ هل ترغب في نزهة أخرى قصيرة في الكون » : سأله المخترع
لاحقًا، ربما؛ لاحقًا! لكن حتى ذلك الحين، لا بد أنك تعلم بوجود بعض التسرُّب »
«. للشحنات الكهربية. يُمكنني بوضوح الإحساس بتيار ضعيف يَسري عبر جسدي
«. هذا مستحيل. الكرسيمعزول تمامًا »
وحمل نفسه نازلًا عن كرسيه. «. لكنني أوكِّد لك أنني أشعر به »
أسرع المُخترِع ليحلَّ محله.
«. لا أشعر بشيء »
«؟ ألا تشعر برعشة أسفل عمودك الفقري »
«. نعم يا سيدي، لا ألحظ ذلك »
صدرت طقطقة حادة، واختفى الرجل. نظرت إلى تشالنجر وقد غمَرني الذهول.
«؟ يا إلهي! هل لمست الآلة يا بروفيسور »
تبسَّم في وجهي بودٍّ مشوبٍ بشيءٍ من الدهشة.
يا إلهي! لعلِّي لمستُ الذراع بغير قصد. الإنسان معرَّض لحوادث غريبة مع » : قال
«. نموذج معقَّد من هذا النوع. يُفترضبالطبع أن تكون هذه الرافعة محمية
«. إنها عند الرقم ثلاثة. إنها الفتحة التي تُسبِّب التفكيك »
«. هذا ما لاحظتُه عندما خضعتَ للعملية »
لكنَّني كنتُ منفعلًا بشدة حينما أعادك، فلم أرَ الفتحة الملائمة المسئولة عن العودة. »
«؟ هل لاحظتَها
ربما أكون قد لاحظتُها أيها الشاب مالون، لكنني لا أشغل عقلي بالتفاصيل الصغيرة. »
ثمَّة فتحات كثيرة، ونحن لا نعلم الغرض منها. وقد نزيد الطين بلَّة إن نحن جرَّبنا
«. ما لا نعرفه. ربما من الأفضل أن نترك الأمور كما هي عليه
«… وأنت سوف »
بالضبط. ذلك أفضل. إن شخصية السيد ثيودور نِمور المُثيرة للاهتمام، نشرت »
نفسها عبر الكون، وآلته لا قيمة لها، وقد حيل بين حكومة أجنبية معيَّنة وبين امتلاك
معرفة قد تجرُّ دمارًا كبيرًا. لم يكن عملًا صباحيٍّا سيئًا، أيها الشاب مالون. لا شك أن
صحيفتَك الصفراء ستتضمَّن عمودًا مثيرًا يَتناول الاختفاء الغامض لمُخترعٍ لاتفيٍّ، بعد
زيارة مُراسلها الخاص له بوقت قصير. لقد استمتعتُ بالتجربة. إنها اللحظات المَرِحة
التي تأتي لتُبدِّد عتمة الروتين البحثي المُمل. ولكن الحياة لها تكاليفها مثلما لها مسرَّاتها،
وسأعود الآن إلى الإيطالي مازوتي وآرائه المُنافية للمنطق، حول نمو يرقات النمل الأبيض
«. الاستوائي
بالنظر إلى الوراء، بدا لي أن شيئًا من الرطوبة الدبقة كان لا يزال يحوم حول الكرسي.
«… ولكن لا بد أن » : اندفعتُ قائلًا
إن أَولى واجبات المُواطِن المُمتثِل للقانون هو منْع الجريمة. » : قال البروفيسور تشالنجر
وهذا ما فعلتُه. كفاك يا مالون، كفى! الأمر لا يحتمل النقاش. لقد شُغِلَ عقلي بما فيه الكفاية
«. عن أمور أكثر أهمية