hindawiorg

شارك على مواقع التواصل

«. يجب أن أتخلَّصمنها » : كسر الرجلُ القابع في ركن العربة حاجز الصمت فجأةً قائلًا
رفع السيد هينشكليف بصره، ولم يكن قد تبين بدقة ما قاله الرجل. كان مستغرقًا في
تأمُّله النشوان في قبعة الكلية المربوطة بخيط إلى يدِ حقيبةِ سفره — وهي الإشارة الظاهرة
والمرئية الدالة على منصبه التعليمي الجديد — وفي الإعجاب الجذل بها والتوقعات السارة
التي تثيرها داخلَه. كان قد قُبِلَ لتوِّه في جامعة لندن، وسوفيعمل مدرسًا مساعدًا بمدرسة
هولموود الثانوية، وهو منصب يتمنَّاه الكثيرون. حدَّقَ السيد هينشكليف في رفيق سفره.
«؟ لِمَ لا أتخلَّصمنها؟ أتخلَّصمنها! لِمَ لا » : قال هذا الشخص
كان رجلًا طويلًا داكنَ اللون، شاحبَ الوجه، خلَّفت أشعةُ الشمس عليه أثرَ اسمرار.
كانت ذراعاه معقودتين أمام صدره وقدماه مسنَدتَيْن إلى المقعد المواجِه له. كان يفتل
شاربَه الأسود الناعم، دون أن يرفع بصرَه عن أصابع قدمَيْه.
«؟ لِمَ لا » : أردف قائلًا
سعل السيد هينشكليف.
رفع الغريب عينَيْه — كانتا عينين عجيبتين بلونٍ رمادي داكن — وحدق في السيد
هينشكليف بنظرة خاوية، ربما لدقيقة كاملة تقريبًا، ثم بدأ الاهتمام يظهر على نظراته.
«. أجل. لِمَ لا؟ وأضع حدٍّا لهذا » : قال ببطء
أخشى أنني لستُ منتبهًا تمامًا لما » : أجاب السيد هينشكليف، وهو يسعل مجددًا
«. تقول
طرح تساؤله وعيناه الغريبتان «؟ لستَ منتبهًا تمامًا لما أقول » : فردَّ الغريب بنبرة آلية
تجولان ذهابًا وإيابًا بين وجه السيد هينشكليف الأملس وحقيبته التي تتدلَّى منها القبعةُ
بزهو.
التفاحة
«؟ أنت شديد الإيجاز، أَلَا ترى ذلك » : قال السيد هينشكليف موضحًا
ثم توجَّهَ بالخطاب إلى السيد هينشكليف «؟ لِمَ لا أفعل » : أجاب الغريب متابعًا خواطره
«؟ أنت طالب » : سائلًا إياه
فأجاب السيد هينشكليف بفخرٍ لم يستطع إخفاءه، وهو يتحسَّس رابطةَ عنقه
«. أنا طالب بالمُراسَلة في جامعة لندن » : بعصبية
ثم رفع قدمَيْه فجأةً عن المقعد ووضع قبضته «. سعيًا وراء المعرفة » : ردَّ الغريب قائلًا
،« أجل » : على ركبته وراح يحملق في السيد هينشكليف كما لو أنه لم يرَ طالبًا قط، ثم أضاف
رافعًا سبَّابته. نهض الغريب والتقط حقيبةً من حامل القبعات وفتحها مُخرِجًا منها، في
صمت تام، شيئًا مستديرًا ملفوفًا في كمية كبيرة من الورق الفضي، وراح يفضُّه بحذر،
ثم مدَّ يده به نحو السيد هينشكليف؛ كان ثمرةَ فاكهةٍ صغيرة شديدة النعومة، ذات لون
أصفر ذهبي.
بَدَا الذهول على السيد هينشكليف، فاتسعت عيناه وانفغر فاه؛ ولم يُقدِم على أخذ هذا
الشيء؛ إن كان يفترضبه أن يأخذه.
تلك تفاحةُ شجرةِ المعرفة. انظرْ إليها … » : قال الرجل الغريب الأطوار ببطء شديد
«. صغيرة، ومتألقة، ورائعة … المعرفة، وسوف أمنحك إياها
أجهَدَ السيد هينشكليف عقلَه بالتفكير دقيقة، ثم التمَعَ فجأةً في عقله تفسيرٌ كافٍ
رجل مجنون خفيف الظل. أمال رأسه جانبًا قليلًا. «! مجنون » : أجلى الموقفَ بأكمله
ثم «؟ تفاحة شجرة المعرفة، هاه » : تأمَّلَها السيد هينشكليف متظاهِرًا بالاهتمام، وقال
«؟ لكنْ أَلَا تود أن تأكلها أنت؟ ثم، كيف حصلتَ عليها » : تطلَّعَ إلى مُحدِّثِه قائلًا
إنها لا تذوي أبدًا. هي » : وضع الغريب كفَّه على ركبته وأجاب وهو ينظر إليها متأملًا
ثم بدأ «. عندي من ثلاثة أشهر حتى الآن ولم تَزَل متألِّقة، ملساء، يانعة، شهية كما ترى
يلفها مجددًا بالأوراق الفضية، وكأنه تخلى عن نية التنازُل عنها.
لكن كيف حصلتَ عليها؟ وكيف » : تساءَلَ السيد هينشكليف متمسكًا بموقفه الجدلي
«؟ عرفتَ أنها تفاحة شجرة المعرفة
لقد اشتريتُها منذ ثلاثة أشهر مقابلَ شربةِ ماءٍ وكِسْرةِ خبز. كان » : فأجاب الغريب
الرجل الذي أعطاني إياها، لإنقاذي حياته، أرمنيٍّا. أرمينيا! ذلك البلد الرائع، أقدم البلاد،
حيث لا تزال سفينةُ نوح باقيةً حتى يومنا هذا، مدفونةً تحت الأنهار الجليدية لجبل
أرارات. تسلَّقَ هذا الرجل، بعد فراره مع آخَرين من الأكراد الذين هاجموهم، مواضعَ

موحشةً بين الجبال؛ مناطقَ تتجاوز نطاقَ المعرفة البشرية العامة. أثناء فرارهم من
المطارَدة الداهمة، وصلوا إلى منحدرٍ مرتفع بين ذُرَى الجبال مغطٍّى بعشب أخضريشبه
شفرات السكاكين، يُقطِّع ويجرح أيَّ شخص يخطو عليه بلا رحمة. كان الأكراد من
ورائهم والعشب أمامهم، ولم يكن بوسعهم سوى أن يخوضوا ذلك العشب، وكان أسوأ
ما في الأمر أن الممرات التي صنعوها عبره بدمائهم ساعدت الأكرادَ على تتبُّعهم. قُتِل جميع
الفارِّين عدا ذلك الأرمني ورجلًا آخَر. استمَعَ الرجل إلىصراخِ رفقائه ونحيبهم وحفيف
العشب حول مَن يطاردونهم؛ فقد كان عشبًا طويلًا يعلو قاماتهم. ثم أنصَتَ إلى صيحة
وصدًى، وحين توقَّفَ بعدَها مباشَرةً، كان كلشيء ساكنًا. اندفَعَ ماضيًا في طريقه مجددًا
بجروحه النازفة، دون أن يفهم ما جرى، حتى أشرَفَ على منحدرٍ صخري حاد أسفل
جرف، وهناك شاهَدَ النيران مشتعلة في العشب بأكمله، والأدخنة متصاعدة منها وكأنها
«. حجابٌ فاصل بينه وبين أعدائه
«؟ أجل، أجل، وماذا بعد » : صمت الغريب، فقال السيد هينشكليف
هناك وقَفَالأرمني، جريحًا وملطَّخًا بالدماء بفعل حوافِّالعشب » : تابع الغريب قائلًا
التي تشبه الشفرات الحادة، وأمامَه الصخورُ المتوهجة تحت شمس الأصيل، وفوقه سماء
مصطبغة بلون النحاس الأصفر المصهور، وأدخنة النيران متَّجِهة نحوه. لم يجرُؤ الرجل
على البقاء هناك؛ ليس الموت ما كان يخشاه، بل التعذيب! نما إلى سمعه، من وراء الأدخنة،
صراخٌ وعويل بعيدان، ونحيب نساء؛ لذلك واصَلَ تسلُّقَ أحد الشِّعَاب بين الصخور — كانت
تحيط به من كل ناحية أحراشٌ ذات أغصان يابسة مسنَّنة كالأشواك بين الأوراق — إلى
أن استطاع اعتلاءَ حافةِ حَيْدٍ أخفاه عن الأعين، وهناك التقى برفيقه، وكان راعي غنم
نجح في الفرار أيضًا. لم يكن البرد والجوع والعطش أمورًا ذات بال بالنسبة إليهما مقارنة
بالأكراد؛ لذا واصَلَا سيرهما نحو المرتفعات وبين الجليد والثلوج. ظلَّا هائمَيْن ثلاثة أيام
«. كاملة
وفي اليوم الثالث جاءت الرؤيا. أعتقد أن الجياع كثيرًا ما يتوهمون » : ثم أردف قائلًا
ثم رفع التفاحة الملفوفة في يده، «. بالفعل، لكن وجود هذه الثمرة يثبت أنها رؤيا لا وهم
كما سمعتها أيضًا من بعض قاطني المرتفعات ممَّن كانوا يعرفون » : وأكمَلَ روايته قائلًا
بعض المعلومات عن الأسطورة. كان الوقت مساءً والنجوم في ازدياد حين هبط الرجلان
منحدرًا من الصخور المصقولة إلى وادٍ شاسعٍ مظلم مُتْرَع بأشجار غريبة ملتوية تتدلَّى
منها أجسامٌ كرويةصغيرة تشبه كرات متوهجة؛ كانت أنوارًا كرويةَ الشكل،صفراءَ اللون،
غريبةَ الهيئة
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

فصول العمل

الفصل الأول الفصل الثاني
اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.