hindawiorg

شارك على مواقع التواصل

كان السيد بيزل الشريكَ الأكبر فيشركة بيزل هارت آند براون الواقعة في منطقة كاتدرائية
سانت بول، وعلى مدار سنوات كثيرة اشتُهِر بين المهتمين بالأبحاث الروحانية بأنه باحثٌ
حيُّ الضمير ومتحرِّر العقل. كان رجلًا عَزَبًا، وبدلًا من السكن في الضواحي كما هو
شائع في طبقته، أقام في شقة في مجمَّع ألباني السكني القريب من شارع بيكاديللي، حيث
تمحور اهتمامه بصفة خاصة حول مسائل التخاطُر وأطياف الأحياء. وفي نوفمبر ١٨٩٦
بدأ مجموعةَ تجارب بالاشتراك مع السيد فينسي الذي يقطن في مبنى ستيبل إن، من أجل
اختبار الزعم القائل بإمكانية إظهار المرء طيفَ نفسه بقوة الإرادة عبر المكان.
كانا يُجرِيان تجاربهما على النحو التالي: في ساعةٍ محدَّدة مسبقًا يُغلق السيد بيزل
على نفسه إحدى غُرَفه في مجمع ألباني السكني، بينما يحبس السيد فينسينفسه في غرفة
الجلوس في مبنى ستيبل إن، ويركِّز كلاهما عقله على الآخَر بأقصىعزمٍ ممكن. كان السيد
بيزل قد تعلَّمَ فنَّ التنويم المغناطيسيالذاتي؛ ومن ثَمَّ كان يحاول بأقصىاستطاعته تنويمَ
في شقة السيد فينسي التي تبعُد عن « طيف لشخص حي » نفسه أولًا، ثم إظهار نفسه ک
شقته بنحو ميلَيْن. تكرَّرت هذه التجربة في أمسيات عديدة دون حدوث نتيجة مُرْضِية،
وفي المرة الخامسة أو السادسة رأى السيد فينسي بالفعل — أو تخيَّل أنه رأى — طيفَ
السيد بيزل واقفًا في غرفته، وقال إن الظهور كان واضحًا جدٍّا وحقيقيٍّا على الرغم من
قِصَر مدته، ولاحَظَ أن وجه السيد بيزل كان أبيض وكان يرتسم عليه القلق، فضلًا عن
أنه كان أشعثَ الشعر. وعلى الرغم من أن السيد فينسي كان في حالةِ ترقُّبٍ، فقد انتابَتْه
لوهلةٍ دهشةٌ شديدة جعلته عاجزًا عن الكلام أو الحركة، وفي تلك اللحظة خُيِّل إليه أن هذا
الطيف نظر للخلف وتبدَّدَ فورًا.
الجسد المسروق
كان من المرتَّب تصويرُ أيِّ طيف يظهر، لكنَّ السيد فينسي لم يتمتع بحضور الذهن
اللازم لالتقاط الكاميرا التي كانت موجودةً بالفعل على الطاولة بجانبه، وعندما التقطها
كان قد فات الأوان. إلا أنه شعر بابتهاج شديد إثرَ هذا النجاح الجزئي ودوَّنَ الوقت
بالضبط، ثم استقلَّ على الفور إحدى سيارات الأجرة قاصدًا مبنى ألباني ليخبر السيد بيزل
بالنتيجة.
تفاجَأَ السيد فينسي عندما وجد الباب الخارجي لمنزل السيد بيزل مفتوحًا يكتنفه
الظلام، في حين كانت الشقق الداخلية مضاءةً وفي حالة فوضى عارمة؛ فعلى الأرضية
يتناثر حطام زجاجة شامبانيا فارغة، وكانت رقبتها قد كُسِرت على المحبرة الموجودة على
المكتب وموضوعة بجوارها. أما الطاولة الثُّمانيَّة الأضلاع المتعددة الاستخدامات التي تحمل
تماثيلَ برونزية صغيرة وعددًا من الكتب القيِّمة، فكانت مقلوبة، وارتسمت على ورقِ
الحائط الأصفرِ اللون أصابعُ ملطَّخة بالحبر لا لغرضٍسوى التشويه فحسب على ما يبدو.
مُزِّقت إحدى الستائر القطنية المزركشة الرقيقة بعنفٍ من حلقاتها وألُقِيت في نيران المدفأة
فعبَّقت رائحةُ احتراقها الغرفة. كان المكان كله يعجُّ بالفوضىعلى نحوٍ غريب في واقع الأمر.
ولدقائق قليلة لم يَكَد يُصدِّق السيد فينسي عينَيْه، وهو الذي دخل واثقًا من أنه سيجد
السيد بيزل جالسًا على كرسيه المريح منتظرًا إيَّاه، ووقف عاجزًا يُحدِّق في هذه التطورات
غير المتوقَّعة.
وإثر ما اعتراه من إحساسغامضبوقوع كارثة، ذهب إلى البواب عند غرفة الاستقبال
«؟ أين السيد بيزل؟ هل علمتَ أن كل قطع الأثاث محطَّمة في غرفة السيد بيزل » : وسأله
لم ينبس البواب ببنت شفة، لكنه إذعانًا لإيماءاته توجَّهَ على الفور لشقة السيد بيزل ليرى
هذا يحل اللغز! لم أكن أعلم بهذا » : الوضع، ثم صاح بينما هو يتفقد الفوضى الجنونية
«! الأمر. لقد رحل السيد بيزل، لقد جُنَّ
وأردفقائلًا للسيد فينسيإنه منذ حوالي نصف ساعة؛ أيْ في وقت ظهور طيف السيد
بيزل في شقة السيد فينسي، خرج الرجل التائه مندفعًا من بوابات مبنى ألباني متَّجِهًا نحو
شارع فيجو، أشعثَ الشعر وبلا قبعة، ثم اختفى في اتجاه شارع بوند. واستطرد البواب
وعندما مر أمامي ضحك ضحكة لاهثة، وكان فمه مفتوحًا وعيناه متوهجتين. لقد » : قائلًا
«! أخافني كثيرًا يا سيدي بحالته تلك

ووفقًا لما وصفه البواب لم تكن تلك الضحكة لطيفة على الإطلاق. واستكمل كلامه
لقد لوَّح بيده وأصابعُه كلها مُنحنية وتقبض كالمخلب، وقال في همس مخيف: » : قائلًا
«!« حياة » : قال هذه الكلمة فحسب «! حياة »
ولم يستطع قول شيء آخَر. لقد كان «! يا للهول! تبٍّا، يا للهول » : تمتم السيد فينسي
بطبيعة الحال في غاية الاندهاش، وأخذ يلتفت من الغرفة إلى البواب، ومن البواب إلى
الغرفة، في أشد حالات الارتباك. لم يستطع الطرفان التطرُّق في محادثتهما إلى ما هو أبعد
من ترجيح السيد فينسي لاحتمالية رجوع السيد بيزل بنفسه وتفسيره ما حدث، بينما
ألمًا مفاجئًا جدٍّا وشديدًا في الأسنان لا بد أنه أصابه، فجعله يهبُّ على » اقترح البواب أن
هذا النحو المفاجئ ويتصرَّف بهذا الجموح. لقد حطمتُ أشياءَ بنفسي ذات مرة وأنا في
وهو يمر « حياة » لكنْ إذا كان الوضع كذلك، فلماذا قال لي » : ثم فكَّرَ وقال «… هذه الحالة
«؟ بجانبي
لم يعرف السيد فينسي السبب؛ فالسيد بيزل لم يَعُد. وفي النهاية نظر في عَجزٍ عدةَ
مرات إلى المكان، وكتب استفسارًا قصيرًا وتركه في مكان واضح على المكتب، وعاد في حالة
ذهول كبيرة إلى مسكنه في ستيبل إن. لقد سبَّبَ له هذا الأمرُ صدمةً؛ إذ عجز عن تفسير
سلوك السيد بيزل بأي فرضية معقولة. حاوَلَ السيد فينسي أن يقرأ لكنه لم يستطع؛
فذهب للتمشِّيقليلًا، وكان شاردَ الذهن للغاية لدرجةِ أنه أفلَتَ بشقِّ الأنفس من الاصطدام
بسيارة أجرة في آخِر طريق تشانسيري لين؛ وفي النهاية أوى إلى فراشه قبل ساعة كاملة
من موعد نومه المعتاد. لفترة من الوقت لا بأسَ بها لم يستطع النوم إثرَ تذكُّره الفوضى
غير المبرَّرة التي اعترَتْ شقةَ السيد بيزل، وعندما تمكَّنَ أخيرًا من الحصول على قسطٍ من
النوم المضطرب قاطَعَه على الفور حُلمٌ بالسيد بيزل كان واضحًا جدٍّا ومُقلِقًا.
لقد رأى السيد بيزل يلوِّح في جموح، وكان وجهه شاحبًا ومتجهمًا، ولم يَدْرِ السيد
فينسي لِمَ شعر بأن مظهره يخالطه خوفٌ شديد ورغبةٌ مُلِحَّة في التصرُّف، ربما أوحت
إيماءاته بذلك. بل اعتقد أيضًا أنه سمعصوتَشريكه في التجربة يناديه في ألم، إلا أنه اعتبر
ذلك وهمًا في تلك اللحظة. وظلت هذه الصورة واضحةَ المعالم على الرغم من استيقاظ
السيد فينسي الذي بقي لبرهةٍ راقدًا في الفراش متيقظًا يرتعد في الظلام، مشغول الذهن
بذلك الخوف الغامض غيرِ معروفِ السبب من احتمالات مجهولة تجلبها أحلام قد تنتاب
حتى أشجع الرجال. وعلى الرغم من ذلك نهضفي النهاية وتقلَّبَ وخلد إلى النوم مرةً أخرى
ليعاوِده الحلم مجددًا بمزيدٍ من الوضوح.

وعندما استيقظ كان لديه اقتناعٌ قوي بأن السيد بيزل في كرب شديد وفي حاجةٍ إلى
المساعدة لدرجةِ أن النوم لم يَعُد ممكنًا؛ فقد أصبح مقتنعًا بأن صديقه قد وقع في محنة
عصيبة. ولبرهةٍ حاوَلَ إيجادَ ما يبرِّر زيف هذا الاعتقاد بلا جدوى، فأذعَنَ له في النهاية،
ونهض، ضاربًا بالمنطق عُرْض الحائط، وأشعل المصباح، وارتدى ملابسه، وانطلق عبر
الشوارع المهجورة — التي كانت خالية تقريبًا إلا من شرطي لا يُصدِر صوتًا، وعرباتِ
الصحف المبكرة — متَّجِهًا إلى شارع فيجو ليسأل عما إذا كان السيد بيزل قد عاد.
إلا أنه لم يصل إلى هناك قطُّ؛ فلقد كان يسير في شارع لونج أكر عندما راوَدَه إحساسٌ
لا يدري سببَه، جعله ينحرف عن ذلك الشارع ويتجه نحو حي كوفنت جاردن الذي كان
قد بدأ للتوِّ أنشطتَه الليلية؛ فرأى السوقَ أمامه بمصابيحها الصفراء المتوهِّجة وروَّادها
المشغولين بملابسهم السوداء؛ ما ترك أثرًا غريبًا في نفسه. وفي اللحظة التالية انتَبَه إلى
صياحٍ ورأى شخصًا ينعطف عند زاوية الفندق ويركض نحوه مسرعًا. عرف على الفور
أنه السيد بيزل، لكنَّ هيئته كانت متغيِّرة؛ لقد كان بلا قبعة وفي ثيابٍ رثَّة، وكانت ياقته
مفتوحة وممزقة، بينما يُمسِك عصا مشي ذات مقبضمن العظم وطرف من المعدن، وبَدَا
فمه معوجٍّا. كان لقاؤهما خاطفًا؛ إذ كان يجري بخطوات رشيقة وبسرعة فائقة، وصاح
«! بيزل » : فينسي خلفه مناديًا
لم يُبدِ الرجل الذي كان يركضأيَّ إشارةِ تعرُّفٍ على السيد فينسي أو على اسمه، بل
كان ردُّ فعله أنْ جرح صديقَه بوحشية بالعصا، ضاربًا إياه في وجهه قربَ العين بمقدار
بوصة. وفي دهشةٍ وذهولٍ ترنَّحَ السيد فينسيمتراجِعًا، وارتبكت خطواته فسقط بقوةٍ على
الرصيف، وخُيَّل إليه أن السيد بيزل قفز فوقه عند سقوطه. وعندما نظر ثانيةً إليه كان قد
اختفى، بينما انطلق أحد رجال الشرطة وعددٌ من الحراس والباعة في الحديقة نحو شارع
لونج أكر ليطاردوه مطارَدةً محمومةً.
وبمساعدة العديد من المارة — فسرعان ما كان الشارع يعجُّ بالأشخاصالراكضين —
نهض السيد فينسي ليقف على قدمَيْه بصعوبة، وأصبح على الفور وسطَ حشدٍ متشوِّق
لرؤية إصابته. وتنافست أصواتٌ عديدة لطمأنته على سلامته، ثم إخباره عن سلوك الرجل
المجنون؛ حيث كانت تلك نظرتهم للسيد بيزل، الذي ظهر فجأةً في وسط السوق يصيح
وأخذ يضرب يسارًا ويمينًا بعصا المشي الملطَّخة بالدماء، ويرقص «! حياة! حياة » : قائلًا
ويصيح ضاحكًا مع كلِّ ضربة ناجحة. كان يتصرَّف بغضب عارم وإصرارٍ لدرجةِ أنه
حطَّمَ رأسَ صبي وامرأتين، وهشَّم رُسْغ أحد الرجال، وأسقَطَ طفلًا مغشيٍّا عليه، وساق
1أمامه الجميعَ لبرهة. ثم شنَّ غارةً على أحد أكشاك بيع القهوة، وألقى مصباح الكشك
الكيروسيني على نافذة مكتب البريد، وهرب ضاحكًا بعد أنضرب أحد الشرطيَّيْن اللذين
تحلَّيَا بالشجاعة الكافية لمهاجمتهضربًا أفضىإلى فقدانه وعْيَه.
كانت أول رغبة راوَدَت السيد فينسي هي المشاركة بالتأكيد في مطاردة صديقه، كي
ينقذه إنْ أمكن من عنف الحشد الغاضب. إلا أن حركته كانت بطيئةً؛ فلقد جعله الضرب
غيرَ قادر على الحركة نسبيٍّا، ولم تَكَد تلك الفكرة تصبح قرارًا حتى صاح أحدهم وسط
الحشد مُعلِنًا خبرَ أن السيد بيزل قد هرب من مطارديه. في البداية لم يُصدِّق السيد فينسي
ذلك، لكنه اقتنع عندما شاع الخبر وعاد فورًا الشرطيَّان خاليَي الوِفاض في وقار. وبعد
استفسارات غير مُجْدِية عاد إلى ستيبل إن، واضعًا منديلًا على أنفه الذي أصبح يؤلمه ألمًا
مبرحًا.
كان غاضبًا ومندهشًا ومحتارًا، وبَدَا له مؤكدًا أن السيد بيزل أصابه الجنون الشديد
في خضم تجربة التخاطُر، لكنْ ظلَّ سببُ ظهوره في أحلام السيد فينسي بوجهٍ شاحب
حزين مشكلةً عصِيَّة على الحل، وقد عصر ذهنه سعيًا لتفسيرٍ لها بلا طائل، ورأى في
النهاية أن السيد بيزل ليس هو المجنون فحسب، بل إن ترتيب الأمور جنوني أيضًا.
على الرغم من ذلك لم يهتدِ إلى أمرٍ يفعله؛ فأغلق على نفسه غرفتَه بحذرٍ وأشعَلَ المدفأة
— كانت مدفأةً تعمل بالجاز ومصنوعة من طوب الأسبستوس — ونظرًا لخوفه من أن
تراوِده أحلامٌ جديدة إذا خلد للنوم، ظل يغسل وجهه المصاب أو يحمل الكتب في محاوَلة
بائسة للقراءة حتى مطلع الفجر. وطوالَ هذه السهرة راوَدَه اعتقادٌ غريب بأن السيد بيزل
كان يحاول التحدُّثَ معه، لكنه لم يسمح لنفسه بتصديق هذا الاعتقاد.
ومع حلول الفجر كان الإرهاق الجسدي قد فرضنفسه؛ فأوى إلى فراشه ونام أخيرًا
على الرغم من الأحلام، واستيقَظَ متأخرًا وهو مفتقرٌ إلى الراحة شاعرٌ بالقلق وبألم كبير
في الوجه. لم تذكر الصحف الصباحية أخبارًا عن الاضطراب العقلي الذي أصاب السيد
بيزل؛ فلقد وصل لها الخبر متأخرًا جدٍّا. في النهاية أصبحت هذه الأمور المحيِّرة لا تُحتمَل،
وزادت سخونةُ الكدمة السيدَ فينسي ضيقًا، وبعد زيارة غير مُجدِية إلى مبنى ألباني ذهب
السيد فينسيإلى منطقة كاتدرائية سانت بول لمقابلة السيد هارتشريك السيد بيزل وأقرب
أصدقائه على حدِّ علمِ السيد فينسي.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

فصول العمل

الفصل الأول الفصل الثاني
اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.