ShrElRawayat

شارك على مواقع التواصل

أصوات عالية متداخلة مهللة بسعادة خارجة من أحد الفصول الدراسية تحديدًا الصف السادس الابتدائي، مستغلين غياب معلمة "العلوم" حتى يفعلوا ما يحلو لهم من لهو وشجارات بين بعضهم البعض.
قاطعتهم هي بدخولها المباغت والذي جعلهم يتسمرون مكانهم لثوانِ فقط لا تحسب، ثم بدأوا يهرولون يتسابقون على أماكنهم، واقفين باحترام جلي منتظرين حديثها الآمر بالجلوس.
وضعت حقيبتها اليدوية السوداء أعلى الطاولة الموضوعة من أجل المعلمين، ثم راقبتهم بعيناها المتربصة لهم، آمرة إياهم بصوت تعمدت خروجه غليظًا مرتفعًا قليلًا حتى يدب الرعب بأوصالهم:
«جلوس.»
رضخوا لأمرها تزامنًا مع تقدمها بضعة خطوات منهم معنفة إياهم على تلك الضجة التي افتعلوها أثناء تأخرها، قائلة:
«خمس دقايق! خمس دقايق بس اللي أتأخرتهم افتكرتوني مش جاية وغايبة وبالتالي قلبتوا الفصل هرج ومرج!
مش المفروض أننا جايين المدرسة نتعلم؟»
لم يجيبها أحد، ولم تنتظر هي تعقيب منهم.. بل تنهدت بصوت مسموع ملتقطة كتاب المادة التي تُدرسها لهم، وبدأت تلقي عليهم ما هو جديد.
مضى الوقت وانتهت معهم، بل انتهى دوامها بالكامل وحان موعد الذهاب، لملمت اغراضها وعلقت حقيبتها على ذراعيها، منطلقة للخارج.
بتلك الأثناء دوى رنين هاتفها يعلن عن اتصال، ابطأت من سيرها، عابثة بيديها داخل الحقيبة لتأتي به.
بالفعل نجحت بإخراجه وما إن سقط بصرها على اسم المتصل حتى تأففت بضجر واضح هامسة بينها وبين نفسها:
«اللهم طولك يا روح.»
أخذت نفسًا عميقًا قبل أن تجيب بصوت بارد:
«السلام عليكم.»
رد عليها "مازن" بحماس شديد، يخبرها:
«لو لسة في المدرسة استنيني أنا جاي أخدك، ولو خرجتي اقفي مكا.. .»
بترت جملته عندما قاطعته، هاتفة:
«لا لسه مخرجتش، بس خلاص داخلة على البوابة أهو، هو في حاجة؟»
«أيوة فيه، المهم متمشيش وخليكي عشر دقايق بالظبط وهكون قدامك.»
ردد قبل إغلاقه دون أن يضيف أي جديد، تاركًا إياها على وشك الانفجار من أفعاله ومن والدها الذي يفرضه عليها وأصر على خطوبتهم.
انتظرته خارج البوابة متجاهلة نظرات البعض المصوبة نحوها، رفعت يدها وحدقت بساعة معصمها، فقد مر أكثر من خمسة عشر دقائق، ولم يأتي حتى الآن.
ضجرت من وقفها الطويل.. أوشكت على محادثته بنفاذ صبر، لكنها توقفت عندما وجدته يقف أمامها بسيارته، ويبتسم لها ابتسامته السخيفة.
كبحت ما تشعر به من مشاعر سوداء، وأعاصير على مشارف الانفجار، ودارت حول السيارة قاصدة المقعد الأمامي المجاور له، جالسة به مستمعة لترحيبه وكلماته المعتادة والتي تراها مبتذلة، مبتسمة له على مضض ولا تدري إلى أين هم ذاهبون.. !

تسمرت قدماها وحركت عيناها على هذا المكان الذي اصطحبها إليه، أوصدت جفونها لبرهة بنفاذ صبر تستغفر ربها في سرها، محاولة قدر الإمكان التماسك وكبح غضبها وغيظها وابقائه داخلها.
فقد جاء بها إلى معرض خاص باللوحات الفنية.. وهذا ما لا تطيقه بالمرة.. . فلا تحبذ التواجد بمثل تلك الأماكن، فقد جاءت من قبل مع صديقاتها وحينها شعرت بالضجر كثيرًا، لم تتحمل البقاء.. ملقية على مسامع صديقتها حجة باطلة.. تاركة المكان بأكمله..
افاقها صوته مردد ببسمة سخيفة:
«إيه رأيك في الخروجه دي، جامدة مش كدا؟ »
رسمت بسمة صفراء لم تصل إلى عيناها، مجيبه على مضض:
«آه جدًا، يعني بصراحة بيعجبني حُسن اختيارك.»
ظلت تلعنه في سرها كثيرًا، وتمتمت بصوت خفيض معنفة نفسها على ذهابها معه.
رد يؤكد على كلماتها:
«طول عُمري ذوقي حلو، وإلا مكنتش اختارتك ولا إيه.»
زفرت مطولًا قبل أن تعقب بهزل محافظة على بسمتها:
«إيه.. يلا ندخل، عشان نخلص وأروح وأنام، أنا منمتش إمبارح كويس.»
أخبرها وهو يجذبها معه للداخل:
«نوم إيه بس، دلوقتي تنسي التعب من الجمال اللي هتشوفيه جوه.. كل اللوحات اللي جوه قديمة وفي اللي بقاله أكتر من ١٠٠ سنة، يلا بينا.»
تحركت معه ووطأت بقدميها إلى الداخل باستسلام تام، متمنية أن تنتهي تلك الخروجة في أسرع وقت.
سحبت نفسًا عميقًا وهما يقفان أمام إحدى اللوحات ولسانه لا يتوقف من إلقاء معلوماته عليها.. سواء كان اسم الفنان.. أو اسم اللوحة أو مغزاها.
حكت جبينها منصتة له بتركيز يكاد يكون منعدم فكل ما تفكر به هو الرحيل، وفسخ تلك الخطبة، لكن إذا فعلتها سيحزن والدها ولن يتحمل قلبه هذا الأمر.. فـهو مريض قلب واضطرت جبرًا على الموافقة حتى لا يحزن فإذا اعترضت او احتجت على الأمر ستكون هي الوحيدة حين إذِا من تتحمل عواقب تلك الفعلة.
أشار "مازن" نحو لوحة أخرى متمتم بحاجب مرفوع واهتمام واضح بأمر تلك اللوحة:
«اللوحة دي بقى الوحيدة اللي لا ليها اسم ولا أي معلومات، محدش يعرف عنها حاجة.. بس اللي رسمها فنان عظيم بجد.. مبدع بمعنى الكلمة.»
وجهت انظارها واهتمامها نحو اللوحة، تمعنت النظر بها لترى ما المميز بها؟
لكنها لم تجد ما يميزها؟
حتى مغزاها والهدف منها لا يتضح لها!
لم تخفي ما خطر في ذهنها وخرج صوتها ساخرًا:
«عظيم ليه يعني؟
ما هي لوحة زي أي لوحة، ويمكن تكون أبشعهم.. دي عبارة عن حارة قديمة وناس بتتخانق قدام قهوة، وناس تانية بتتفرج عليهم، أنا مش فاهمة بجد أي الفن اللي فيها! دي مش مفهومة ووحشة بجد.»
اكفهر وجهه وصاح يدافع عنها متأملًا ألوانها البنية المدمجة مع أحمر قاني وبعض الدرجات الأخرى:
«دي وحشة ومش مفهومة!»
«أنتِ بتكلمي جد يا رحيق؟ أنتِ مش شايفة التفاصيل بتاعتها والألوان؟»
هزت رأسها يمينًا ويسارًا توضح مقصدها:
«لا شايفة، أنتَ اللي مش شايف، دي أسوء لوحة شوفتها موجودة وأساسًا مكانها مش هنا! المفروض يرموها معرفش حطينها هنا ليه؟ وعلى أساس إيه!»
دافع عنها باستماتة يبرر:
«عشان فن وتاريخ أنتِ متفهميش فيه.»
كزت على أسنانها غيظًا منه، فقد قلل من فهمها عن عمد، بللت شفتيها بحركة منفعلة، عائدة بأنظارها نحو اللوحة متمتمة بكلمات مستهزئة مقللة من شأنها مثلما قلل منها:
«لأ واللي راسم ده هو اللي بيفهم أوي.. بذمتك دي لوحة تترسم، ده تهريج، بص أصلًا الناس بتضرب بعض إزاي واللي وراهم بيتفرجوا، ده بيحرض على العنف.»
دقق النظر أكثر وأكثر ولأول مرة يجذب انتباهه قسمات تلك الفتاة المتواجدة بداخل اللوحة والتي تتشابه إلى حد كبير معها، تناسى ما كان لديه من أحرف وكلمات وقال غير مصدقًا:
«رحيق الحقي البنت اللي واقفة ورا الناس اللي بيتخانقوا دول شبهك أوي.»
عقدت حاجبيها مما يهرتل به، متفرسة اللوحة وخاصة تلك الفتاة الذي يدعي بأنها تشبها..
لانت ملامحها ولم تعلق فقد صدق القول، ابتلعت ريقها وأبعدت مقلتيها عن شبيهتها قائلة بهدوء:
«أنا عايزة أمشي.. مش هقدر أستنى أكتر من كدا، يلا لو سمحت.»

دخلت منزلها بأعين تجوب بحثًا عن والدها، منادية عليه بصوت عالي ليصل إليه، منحنية بجسدها حتى تخلع حذائها:
«بــابــا، أنت فين يا بابا؟»
آتاها صوته من الشرفة الملحقة بغرفة الصالون يخبرها بتواجده داخلها:
«أنا هنا يا رحيق، تعالي.»
اعتدلت بوقفتها وتركت حقيبة يديها على طاولة صغيرة تتواجد بالقرب من الباب، قاصدة الشرفة.
وجدته يجلس منهمك بقراءة الجريدة الورقية الذي لم يتوقف يومًا عن قراءتها، سندت بكتفيها على الحائط جوارها، عاقدة ساعديها أمام صدرها، قائلة بنبرة يتخللها بعض المرح:
«يعني أنا بصراحة بدأت أغير من الجرايد اللي وخداك مني دي، مش معقول كدة.»
تركها من يديه مبدلًا اهتمامه وأنظاره نحوها، مغمغم:
«بطلي لماضة، وخشي اغسلي إيدك عقبال ما أحضر الغدا، ولا أنتِ اتغديتي مع خطيبك؟»
هزت رأسها تنفي:
«لا متغدتش، وحتى لو اتغديت برضو هاكل معاك، من أمتى وأنا بسيبك تاكل لوحدك يعني.»
احتلت بسمة واسعة ثغره وهو ينهض من أعلى مقعده الخشبي الهزاز بني اللون، متقدمًا منها، خارجًا رفقتها متجهًا هو صوب المطبخ.. وهي نحو دورة المياه ثم إلى غرفتها حتى تبدل ملابسها لأخرى، حيث ارتدت بنطال واسعًا ممزق من الجينز ترتاح به كثيرًا، وكنزة صيفية، ثم وقفت قبالة المرآة ولملمت خصلاتها للخلف بطريقة غير مهندمة، خالعة دبلتها واضعة إياها بالعلبة المخصصة لها.
مر الوقت وانتهت من تناولها وجبة الغداء مع والدها، وغسل الصحون والأواني، مخبرة والدها بحاجتها لأخذ قسط من النوم والراحة.
دخلت الغرفة وأوصدت الباب خلفها، متجهة نحو الفراش الوثير، ويدها تعرف طريقها محررة خصلاتها، تمددت عليه بإرهاق جلى على قسماتها، مطلقة تنهيده خافضة من ثغرها تعكس ما تشعر به.
لحظات وكانت تذهب في سبات لم يكن عميق.
فلقد استيقظت منه وفتحت جفونها مستمعة لتلك الأصوات والمشاحنات من حولها وكأنه شجارًا ما.
تيبست ساقيها التي باتت تقف عليهم، ثلجت أطرافها لم تعد بإمكانها تحريكهما.. كما برقت عيناها بشدة، لم يرف لها جفن.
تتساءل عما أتى بها إلى هنا!
فقد كانت في منزلها وعلى فراشها الحبيب!
كيف انتقلت إلى هنا وباتت تقف على قدميها؟
كادت تجن وتظن بأنها سارت أثناء نومها.
ازدردت ريقها وتفرست المكان من حولها مما زادها هلعًا.. .
ورعبًا.
فهذا المكان قد رأته اليوم ودققت في تفاصيله، متشاجرة مع خطيبها من أجل دفاعه عن جماله..
نعم إنها تلك اللوحة الفنية التي قللت من شأنها اليوم، ورأت القمامة مكان مناسب لها.
مسحت على وجهها مكتشفة ما جعلها تچن أكثر وأكثر فهي تقف مكان شبيهتها باللوحة، بدأت تسير نحو ذلك الاحتدام القائم بين الناس أمام المقهى الشعبي المخصص للرجال فقط..
توقفوا عما يفعلوه متعجبين من تلك الفتاة الذين يروها للمرة الأولى في حارتهم.. كذلك ملابسها الغريبة نوعًا ما ولا تشابه ملابسهم بتاتًا.
توقفت من جديد عندما انتبهت لأنظارهم الماسحة فوقها.
بادرت بالحديث ملقية على مسامعهم التحية:
«سلام عليكم.»
لم يجيبها أحد بل انعقد حاجبيهم، مما جعلها تضيف ببسمة صفراء وهي تظن بأنها ترى حلمًا ما وأن ما يحدث ليس بحقيقة.. .وستستيقظ منه لا محال.
«تقدروا تكملوا خناقة ولا كأنكم شايفني، اعتبروني هوا.»
«مين أنتِ؟»
باغتها سؤال أحدهم، فأجابت مشيرة نحو نفسها مبعدة عن وجهها إحدى الخصلات المتمردة:
-أنا رحيق.
ثم تابعت بصوت خافض مع نفسها وهي تسير بلا هوادة:
«وأكيد بحلم.. أيوة أنا أكيد في حلم وهصحى منه دلوقتي.. يلا يا رحيق اصحي.. يلا.. محبكش تنامي يعني ما أنتِ كل يوم بتيجي تقعدي مع أبوكي..
كانت تتحدث وهي تغرز أظافرها بلحمها علها تستيقظ.
ارتخت ملامحها ولاحت الصدمة على تعابيرها فمن المفترض ألا تشعر بشيء إذا كانت تعايش كابوسًا.. لكنها شعرت وتأوهت مما تفعله بذراعيها مما يعني أنها مستيقظة وإن كل هذا ما هو إلا حقيقة.
ازداد اتساع حدقتاها، وهي تستمع إلى صوت رجولي يحث الجميع على العودة إلى أماكنهم ووضعهم قبل أن تقتحم المكان عليهم:
«الكل يروح على مكانه، يلا.. عشان نكمل!»
نظر للفتاة مكملًا:
«ممكن تبعدي.. وتروحي على الزاوية هناك دي »
انتبهت إلى صوته الصارم المختنق ونظرت مكان مصدر الصوت فوقع بصرها على رجلًا قد يكون في أوائل الثلاثينات، يقبع على مقعد خشبي متهالك بعض الشيء. وأمامه لوحة معلقة على لوح خشبي وبجواره طاولة صغيرة يضع عليها ما يحتاج إليه من ألوان وفرشاة..
مسحت على وجهها ببطء هامسة:
«إن شاء الله هكون بحلم، إن شاء الله، منك لله يا مازن على الحلم المنيل ده، منك لله.»
اخفضت يديها ولم ترضخ لطلبه متخطية الجميع مقتربة منه لترى ما الذي يفعله بتلك اللوحة كي تنفي ما يعتريها من شكوك.
وقفت بجواره مباشرة متمعنة النظر بلوحته، متجاهلة نظراته ونظرات الجميع نحوها..
انكمش وجهها وأوشكت على البكاء وهي ترى أمامها ذات الرسمة التي استهزأت منها اليوم، ضاربة على صدرها مرددة بحسرة:
«يالهوي يالهوي دي هي بعينها.»
انتهت من جملتها لتتقابل بعيناها مع ذلك الغاضب الساخط من وقوفها وتفرسها لرسمته التي لم تنتهي بعد.
بلت حلقها الجاف وأشارت نحوها وعيناها لا تحيد عنه:
«قولي يا أخ، هو أنتَ اللي راسم دي.»
عقب عليها بنبرة لاذعة:
«أومال خيالي؟»
عضت على شفتيها تكبح بكائها مكررة سؤالها:
«يعني أنتَ اللي راسم دي مش كدة؟»
تأفف بضجر وتجاهلها تمامًا كأنها سراب، متحدث مع أهل منطقته الذي دفع لبعضهم كي يخرج تلك الرسمة بإتقان تام:
«يلا يا رجالة.»
هزت رأسها يمينًا ويسارًا واضعة يديها على رأسها، محدثة ذاتها بصوت عالي سمعه جميع من حولها:
«لا، لا ده جنان.. اللي بيحصل ده مستحيل يحصل.. أنا عايزة أصحى دلوقتي.. . وتختفوا من قدامي.. . بـــابـــا.. .. أنتَ فين، تعالى صحيني من الكابوس ده، يا بــــابـــــا.»
تابعها الجميع وتهامس بعضهم ظنًا منهم بأنها قد هربت من مستشفى الأمراض العقلية.
حيث قال الأول مقترحًا على آخر:
«طب إيه نبعت لمستشفى المجانين تيجي تاخدها، أكيد هربانة.»
وافق الأخير مردد بخفوت وصل إليها :
«أكيد، مش شايف لبسها غريب إزاي ومقطع!»
اقتربت من الاثنان صارخة بهم باهتياج وشراسة فزعتهم:
«أنا مش مجنونة، انتو اللي مجانين، أنا أعقل منكم، عشان كدة مش هصدق إني دخلت لوحة راسمها واحد متخلف زي ده.. . أنا دلوقتي بابا هيصحيني وهتختفوا كلكم هتختفوا.»
ابتعدت عنهم متحركة تجاه الرصيف القابع أمام المقهى جالسة أمامه محتضنة جسدها، ودموعها تسيل على وجنتيها.
تنهد الرجل وترك الفرشاة من يده متمتم بصوت عالي:
«خلاص يا رجالة نأجلها لبكرا، تشكروا.»
انصاعوا له وبدأ هو بلملمة أغراضه غافلًا عن مراقبتها له بعيناها الدامية، فما يحدث كأنه واقع.. . لكن كيف!
استجمعت شتاتها ونهضت مجبرة من مكانها، وقفت قبالته من جديد فلم يبالي لها حتى وجدها ترفع يدها المترددة محاولة لمسه لتتأكد من حدسها.
ضيق عيناه ولم يمانع لمستها المترددة التي ما إن فعلتها حتى ابعدتها واضعة يدها على فمها بصدمة ليست بـ هينة.
طرح سؤاله محاولًا الفهم منها:
«هو في إيه؟ أنتِ مين؟ وبتعملي إيه هنا ولابسة كدة ليه!
ثارت من سؤاله وعلقت بصرامة:
«أنتَ اللي بتسأل! المفروض أنا اللي أسأل، أنا جوه اللوحة بتاعتك إزاي؟ أنا إيه اللي جابني هنا؟ إحنا في سنة كام أصلًا.. »
ارتفع حاجبه الأيسر واستنكر ما تتفوه به:
«جوه اللوحة بتاعتي؟ أنتِ مجنونة لوحة إيه اللي أنتِ جواها.. »
أشارت تجاه المعلقة أمامه متمتمة بتيه وحسرة وعدم فهم لما يحدث:
«دي.»
رد ساخرًا عليها وعلى حديثها الذي لا يصدقه أحد:
«لا ده أنتِ مجنونة بقا، وأنا مش فاضيلك بصراحة.»
عاد يلملم أغراضه، مما زاد حنقها وجعل الدماء تفور برأسها متمنية الفتك به، وبدون أن تشعر نظرت لتلك اللوحة والتي تكون سبب فيما يحدث معها، ملتقطة إياها على حين غرة ممزقة إياها بغل وغيظ واضح.
اتسعت عيناه دهشة وصدمة شديدة، فقد مزقت تعبه، تلك اللوحة التي يقوم برسمها منذ أيام عدة، وحينما اقترب من أن ينهيها مزقتها دون تفكير أو رحمة.
صرخ منفعلا من فعلتها الحمقاء:
«يا نهار أسود على دماغك، إيه اللي عملتيه ده؟!»
كان غير مصدقًا فعلتها، لا يصدق بأنها أنهت على رسمته وجعلتها تذهب في مهب الريح، اشتعلت عيناه على آخرها واحتدت نظراته رغم جاذبيته ووسامته إلا أنها شعرت بالخوف الشديد من نظراته تلك، قائلة بتوتر:
«ما هو أنا بقولك اللوحة دي السبب في اللي أنا فيه، أنتَ مش مصدقني لسه، والله ما بكدب، يارب أكون بحلم حلم رخم وطويل، يارب.»
أخذ أنفاسه محاولًا السيطرة على غضبه والتحكم به، هاتفًا بغيظ وهو يكز على أسنانه:
«قسمًا بالله شكلك مجنونة، لولا إنك واحدة ست كنت عملت فيكِ البدع، ابعدي عن خلقتي، مش عارف أهلك سايبينك بالجنان والمنظر ده إزاي.. »
قال الأخيرة وهو يرمقها من أسفلها لأعلاها باستغراب ودهشة من ملابسها الفاضحة بالنسبة لهم والغريبة في ذات الحين، متجهًا صوب منزله.
تاركًا إياها تتفحص ملابسها وملابس النساء التي تمر بجانبها وكأنها باتت في فيلم أبيض وأسود، ازدردت غصتها ولحقت به منادية عليه:
«يا حضرت أنا كنت نايمة هنام فإيه يعني.. وبعدين ملكش دعوة بأهلي رجعني ليهم.. ومتغلطش فيهم.. »
توقف عن السير مستديرًا لها بكامل جسده، قائلًا:
«أنا مكنتش أعرف إني لما أرجع من فرنسا هقابل العته ده هنا.. ابعدي عني.. وروحي اتعالجي ياريت يكون الطب النفسي في مصر يلاقي علاج لحالتك الميؤوس منها دي.»
«حالة إيه يا أبو حالة.. هتقل مني هقل منك.. أنا ممكن انسى رحيق مدرسة العلوم وأقلبلك بياعة كرشة هنا.. . ميهمنيش ده كده كده حلم وإن شاء الله هفوق منه يا بابا.. أنتَ ميغركش أدبي.. »
رمقها باستياء واستغراب من حديثها وطريقتها العجيبة تمامًا في الحديث.. معلقًا:
«شوية مدخلك لوحة وشوية بتحلمي.. إيه الجنان ده عملت إيه في حياتي علشان الدنيا تتخرب من تحت رأس واحدة محتاجة السرايا الصفراء.. . وأدب إيه ده أنا من ساعة ما شوفتك وأنا مش شايف غير قلة أدب.»
كان قد وصل إلى منزله مع هتافه بالأخيرة، فقام بفتح الباب ثم صفقه في وجهها قبل أن يفتك بها فهو لا شيء يشغل عقله بقدر لوحته التي فسدت من قِبل امرأة معتوهة.. أما هي فقد غضبت من فعلته، وباتت تشعر بإنها ما بين اليقظة والنوم.. لا تعلم هل هي نائمة وترى كابوس ما يؤرق نومها.. أم مستيقظة؟
أخذت تدق على الباب بغضب فـهي لا تدري ما الذي ستفعله كل شيء عجيب ومريب.. المنازل والبنايات قديمة وعتيقة للغاية.. الشارع مختلف تمامًا، كل شيء غريب عنها.
لم يستجيب مراد لها أو لطرقها.. ولكنها ظلت تدق وتنادي عليه بقوة.
"في الداخل"
انتهى والده من صلاة العصر وهو يسمع تلك الطرقات ويجد ابنه يقف خلف الباب وهو يمرر أصابعه في خصلاته الفحمية فقال متعجبًا:
«بني هل تعلم من الطارق؟»
ابتسم مراد على كلمات والده.. والذي يحرص على الحديث بالفصحى أغلب الأوقات.. نظرًا لعمله في إحدى الجرائد ككاتب.. . أجابه بانفعال بعدما تبخرت ابتسامته:
«واحدة مجنونة يا بابا معرفش إيه اللي وقعها في طريقي.»
بينما في الخارج.. سئمت ويأست رحيق من الطرق.. فهبطت من المنزل.. فلن تذل أكثر من ذلك.. . متأملة أن تجد من يساعدها بالأسفل ومن هو أحن من هذا الرسام.. فعلى الاغلب الفظاظة متواجدة به وليس مرهف الحس كما يجب أن يكون…
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.