ShrElRawayat

شارك على مواقع التواصل

صحراء جرداء بلا حياة إلا من بيت صغير، يلتف حوله أُناس كُثر، يدورون حول البيت كدورانهم حول الكعبة! يمسكون بأيديهم أعلامًا خضراء وهم يرددون:
-لا إله إلا الله، سيدنا الأبيض حبيب الله.
يقف شابٌ بعباءة مغبرة، وكأنه جاء من عالم آخر؛ فملامحه غريبة، وملابسه غير مهندمة بالمرة، ولحيته نامية، وهو ساكن لا يتحرك أمام الضريح داخل البيت، يردد بصوتٍ خافتٍ:
- الله حي.. الله.
شعر بأن يدًا ناعمة تلمس يده، فتح عينيه العسليتين بفزع، فلم يرَ أحدًا، أغمضهما ثانية، لتُعاد الكرّة من جديد، ظل مقفلًا جفنيه ليسمع صوتًا وكأنه هسيس يتسلل إلى عقله عبر أذنيه:
- الآن تعرف، لطالما بحثت عن نفسك ولكن بلا جدوى، أردت أن تعرف مَن أنت ومَن أبوك، ولكنك لم توفق، افتح جوهرتيك، وابحث بالجانب الأيسر من المقام وأنت تردد كلمات التبجيل والتعويذة البرهتية التي حفظناك إياها لثلاث مرات، حينها سيزداد الدخان، وستجد مجموعة من الوريقات، اقرأها جيدًا، ولكن لا تنسى.. فالدم لا يجلب سوى الدم، عليك فقط بإيقاف المنبع، وإلا ستنهمر بحور حمراء كافية بأن تغرقك.
دون تفكير وجد نفسه يرددها وكأنما أحد يُقرئه إياها، حتى ازدادت كثافة الدخان، سمع صوتَ طقطقة خفيفة بالمقام، اتجه لجانبه الأيسر، فإذا بكتاب أسود يظهر أمامه، ظل جسده يرتعش وهو ممسكٌ بالكتاب، فتح عينيه ليجد نفسه نائمًا على مضجع مصنوع من القش، والكتاب بجانبه، تعجب مما رآه! وتساءل: هل كان يحلم؟ أم أنه أُسريّ بجسده من موقعه الغريب إلى الضريح الغامض في غمضة عين! تنحنح وهو ما زال ممسكًا به، تحسس مكانه حتى وصل إلى دورة المياه ليغسل وجهه، ظنًا منه بأنه ما زال يحلم، ولكنه كان قابضًا عليه كطفل أمسك بيد أُمه خوفًا من الضياع. أتم ما كان يفعله، وولج إلى غرفة المكتبة ليجلس خلف مكتب خشبي متهالك كان في منتصف الغرفة، فتح الكتاب ذا الجلد اللؤلؤي والوريقات الجلدية العتيقة، وبدأ في قراءة كلماته:
"بني.. نعم أنت ابني، أهلا بك أينما تكون، إذا كنت تقرأ تلك الوريقات الآن فقد وصلت لمنتصف الطريق، تلك الوريقات أخفيتها بين السحاب، عبر طيات النجوم، مكتوبة على جلد الذئاب، وغلافها من اللؤلؤ المكنون، محفور عليه اسمك، إيجادك لها مقدرًا في وقت معلوم، لا يعلمه سوى العلويون، فاقرأ ولا تخف؛ فسنقرئك وليردد خلفك المرددون، الآن ترى الوريقات أصبحت بيضاء، وكأنها طبقة غمامية، العبارات تظهر أمامك كلمة بكلمة وحرف بحرف.. ردد معي ولا تخف شر لائم، ولا مكر مارد، فأنت محمي من السماء محمود في الأرض" انزلقت الأوراق من يده لتنفتح غرفة بجوار المكتبة لم يكن يراها، ويشع منها ضوء آخر، قاده فضوله لدخول الغرفة، فوجدها خاوية على عروشها، وكأنها بوابة لمكانٍ آخر، تساءل كيف أنه لم يرها! تسلل خاطر عبر عقله مخبرًا إياه بأن الغرفة هي البوابة الخفية لعالمه الحقيقي، وحان وقت ظهورها، وأنه لن يرى سوى ما يريده أن يراه... تلونت جدران الغرفة بالأبيض، وبدأت الحروف تُكتب على الحائط وكأنها نافذة على عالم خفي:
"اخلع عنك هلعك، فإنك معنا غير مأذي أو ملام، اسبح معنا فلنريك ما لم تسطع عليه فهمًا، لسنوات وأنت تريد أن تعرف من أنت، ولكنك لا تتذكر سوى وجودك بجانب الضريح، حتى بيتك هذا لا تعرف كيف تنام به، وكأنه ليس بالملجأ والملاذ، لقد أسكناك به رحمة منا عليك، فأنت معنا كاِبن وشريك، توسلت لسيدك بأن يريك الحقيقة، ولكن هل ستستطيع تقبلها؟ إذا كنت ترى بأنك قوي الهمة فاسجد لذلك الدخان المنبعث من النافذة، واتلُ معنا العهد؛ ليتفتح لك النعيم، ولتسقط الآخرين في جحيم حتى تقوم الساعة"
شعر بأن عينيه تغمض رغمًا عنه، كلمات تتسلل عبر عقله، بدأ في تأويلها وهو يسجد بحركة ميكانيكية دون تفكير وكأنه إنسان آلي:
- سبح باسم ربك الأعلى، علام الغيوب، وربي الأسفل مقلب القلوب، إلهي لك أنبنا وعليك توكلنا.
تعظم حجم الدخان، وصنع دوامات كادت أن تبتلعه، تشققت الجدران مع هسيسه المتسلل عبر عقله وهو يقول:
- الآن نجيبك على ما لم تسطع عليه فهمًا، خُلقت الدنيا في ست ليالٍ، وأتمها القدير بالسابعة، وفوق السبع ثلاثة: يوم خلق آدم، ويوم السجود، والأخير يوم العصيان.. فالدنيا عشر، البداية والنهاية عشر.. ولا تقوم الساعة إلا على عشر.. أنت تريد أن تعرف من أنت، حسنًا.. سنسافر سويًا لسبعِ ليالٍ تعرف فيهم الحقيقة، لربما تنتقم ممن تسببوا في تشتيتك إلى هذا الحد. ستكون رحلتك عابرة من بابٍ إلى باب كرحلة نوح النبي، سترى ولا تُرى، وتمشي في الثرى دون أن يلمحك أي كائن، وكأنك غمامة شفافة لا تأبه السماء لها.
شعر بأن عقله يسبح عبر خاش خانات حلزونية، توقف الزمن عندها وعقله يدور به، حبس أنفاسه حتى لا يصاب بالغثيان إلى أن شعر بأن قدميه استقرت به، فتح عينيه ليجد نفسه في الصحراء، ولمح في الأفق البعيد بضعة ألوف من الضواري يصطففن خلف بعضهن وكأنهن ينتظرن إشارة للانقضاض على أحدٍ ما، وأمامه امرأة عريضة المنكبين، طولها يصل عنان السماء وكأن لها رأسين، رقبتان معلقتان في جسدها! إحداهما تتدلى على إحدى كتفيها، تحمل صغيرها على يديها، وبينما كان الجو شديد الحرارة فإذا بوطيس الرياح يشتد، فأمسكت ابنها وأدخلته بداخل غار مفروش بالحصر، نظرت يمنة ويسرى وهي تنادي بأعلى صوتها:
- ماذا أفعل يا عزازيل، لقد هلك قابيل ولا أدري كيف أنجو بنفسي وبه، أوليس هذا الرضيع ابنك أيضًا؟ لقد تعاهدنا على حكم الأرض معًا، والآن تتركني لألاقي المصير المشؤوم وحدي؟
وما إن صمتت حتى ارتجت الأرض تحت قدميها، واهتزت رواسي الجبال. نظرت حولها لتجد الصحراء ملئت حرسًا شديدًا، لم تعد ترى رمالها من كثرة الحيوانات التي أتت من العدم، أيقنت بأنها هالكة لا محالة، رجعت خطوتان للخلف، ووضعت حجرًا على باب الغار حتى أخفت صغيرها، اقتربت الحيوانات منها لتنهل من لحمها ما استطاعت، وهي تهتف بوجع:
- الآن عرف القدير بأنه لا بشري يستطيع قتلي، فأرسلكم كافة كي تنالون هذا الشرف، ولكني حتمًا سأعود، سأكون نقطة فاصلة في نهاية هذه الأرض.
أخرجت من سترتها البالية لوحًا مكتوبًا عليه بضع كلمات بلغة غير مفهومة، وبدأت بترتيلها: "أقسمت عليك يا مركوت بسم القدير رب جبريل وميكائيل، بارئ النفوس ومُسقط الطاووس، أهيا، برقان، شراهيا، أهيا، شمهورش، نماهيا، أدوناي، أصباؤت، ميمون أبانوخ، زوبعة، أيا خدام الكواكب وحرس الألواح المسلوبة من حواء، بمهر كل مهير، وعهر كل هاربة، بحق كل سافل رزيل ودم البكر الزانية أطلب الحماية للرضيع، ياروش ماروش فلك الحكم على كل شيطان نموش.. منقادين لعظمتك ذليلين يا "سامري بن قابيل" سليل عزازيل بحق بهوش دردراش كوشا أشمخاطيل أن تحضر "ناجيني" بداخل الأفواه، لتطعم الفم الضعيف في الوقت والساعة احضري بحق أبيكِ وكوكب عطارد بارك الله في الرهط الشديد، وفي النسل الجديد، فليتفرق المعتدين وليبقى السليل حتى الزوال والرحيل" ظلت تتمتم بكلمات غير مفهومة وجسدها يهتز بعنف من إثر السكرات، حتى هدأت رجفتها، فتقدمت نمرة من بين أقرانها، وظلت تنطح برأسها الحجارة حتى حطمتها، فدخلت إلى الطفل وكأنها ستنقض عليه، فوجدته يبكي جوعًا، اقتربت أكثر فالتقط الرضيع ثديها، فرضع منه كما لم يرضع من قبل.. وعلى مرآه ومسمعه تسارعت الغمام لتخفي آثار الشمس الآثمة على الصحراء، فأمطرت الغمام فوق رؤوس الضواري فافرنقعوا إلى كل حدب وصوب، تاركين الرضيع ممسكًا بثدي النمرة المرضعة. صوت الرعد يصم الآذان، وصوت حفيف الأجنحة يتزايد.. حتى استقر الصوت معلنًا عن نزول الكائن المجنح الذي عرف فيما بعد بأنه جبريل، وقف على وصيد الغار ملقنًا كلمات الذكر على أذن الرضيع، والذي بكى إثر سماعه للصوت وكأنه يرفض كلمات التبجيل والثناء على خالقه. تراجعت النمرة، وما زال جبريل يحف الغار، شعر وكأنه يتطاير عبر الغمام ليرجع ثانية إلى غرفته، فوجد المكتوب على الجدران "أحاديث سفلية"...



"عاتية تلك الروح لاشية، تجيء ذهابًا وإيابا، وما كان من قلبي إلا أن ينوب ويهاب، كلما مررت شطرا يعاد السطر، ويتوه الحلم، ويجف وينساب.. لا خاب خاطري بل ذاب. لم أعد أرى وأرهب برعشات من جل اللحظة وبهتان العذاب، لا حلم ولا حياة.. سقط الخيال وبقى الواقع والروح دعابة."
شرين عبد العظيم
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.