ShrElRawayat

شارك على مواقع التواصل

ولجت امرأة العيادة بخطوات مترددة، كانت تحدق يمينا ويسارا بتوتر، كمن يقترف جرما يخشى اكتشافه،
تقدمت بقامتها القصيرة وجسمها الممتلىء، الذي تلفه العباءة السوداء الى مكتب الممرضة، وهمست لها من خلف العجار الأبيض الناصع، وكأنها تخبرها سرا
" هل الطبيبة تعمل اليوم؟ "
رفعت الشابة العشرينية رأسها ناحيتها، وحدقت الى وجهها قبل أن تبتسم لها وتجيبها
" نعم سيدتي هي تعمل اليوم، هل لديك موعد أو تريدين التسجيل؟ "
ابتلعت الياقوت ريقها الذي جف، فهذه أول مرة تخرج فيها وحدها، رغم سنوات عمرها التي تعدت الخمس والأربعين، الا أنها لطالما كانت في رفقة أحدهم، ولم تضطر يوما للتفاوض بنفسها، بشأن أي تفصيل من تفاصيل حياتها، لتبادرها أخيرا بنفس النبرة المترددة
" ليس لدي موعد يا ابنتي، هل يمكن أن تفحصني اليوم؟ "
" بالتأكيد سيدتي، تفضلي معي "
تقدمت الشابة الى غرفة محاذية، وتبعتها الياقوت على استحياء، تحاول الاختفاء داخل عباءتها السوداء الداكنة ، وخمارها الأبيض مع عجارها، فيما لا يكاد يظهر منها الا عينيها، حتى كفيها كانت تخفيهما داخل كمي العباءة، متمنية أن تكون لا مرئية لكل هذه العيون الفضولية.
أخذت الممرضة تفاصيل هويتها، وفتحت لها ملفا طبيا خاصا، ثم قامت بقياس ضغطها ووزنها ومؤشراتها الحيوية، قبل أن تشير لها بكل تهذيب، أن تنتظر في القاعة مع من سبقنها من المريضات.
بعد تردد مطول وقراءة متأنية للمعوذات، دخلت الياقوت الى الغرفة الواسعة، وكما توقعت كانت هناك الكثيرات غيرها في الداخل، وما أن خطت أمامهن باتجاه أبعد كرسي في الركن، حتى تفحصنها بكل فضول، ورمقنها بنظرات مطولة صامتة، في محاولة منهن لتخمين سبب المراجعة، كامتحان حتمي لكل من تسول لها نفسها وتأتي الى هنا.
لحسن حظ الياقوت سرعان ما انغمست النسوة هناك، في حواراتهن الجانبية ونميمتهن المفضلة، في انتظار قدوم زائرة جديدة، يمارسن عليها تطفلهن وتخميناتهن.
جلست الياقوت على الكرسي هناك، وأخذت نفسا عميقا لتهدئ خفقات قلبها المذعور، وقد بدأت بالفعل بلوم نفسها، لأنها لم تصر على الحاج أكثر حتى يرافقها ، لتتذكر أنها لم تكن يوما لحوحة فيما يخصها فكيف تفعل ذلك الآن.
لقد اختفت دورتها منذ خمسة أشهر، استغرقها الأمر شهرين كاملين، حتى استجمعت شجاعتها وفاتحت الحاج في الأمر، وشهر آخر لاقناعه بضرورة زيارة طبيبة نسائية، حتى وافق في الأخيرعلى مجيئها بمفردها دون رفقته، مدعيا الانشغال في عمله،
ورغم تحججه المبرر والمقنع، الا أنها تدرك أن ممانعته ومماطلته، ليست بسبب مسؤولياته في مصنعه، وانما لأنه لا يريد منها أن تفتح موضوع الانجاب المحظور، وتثير سخط وامتعاض أبنائه، فالعلاقة بينهم متوترة أصلا،
ليتفقا بعد عناء أن تراجع الطبيبة، وتعرف السبب في علتها، ثم تعود أدراجها بعد الحصول على العلاج، مع وعد خفي بعدم الجدال، عن أي أمر يخص خطة حمل مستقبلية،
وعد تجدده المرأة باستمرار لزوجها منذ ستة أشهر، وهو عمر زواجهما الذي يقوم على المصلحة المتبادلة.
ابتسمت الياقوت بحسرة تحت عجارها، وهي تجوب بعينيها السوداوين، على البطون المنتبجة لكل النساء هنا، فقد كانت في حضرة جمع من الحوامل، وماذا توقعت من صالة انتظار طبيبة نسائية، ولسخرية الموقف كن يحدقن فيها بنفس النظرة، محاولات تخمين في أي شهر حمل هي، وان كان جنينها ذكرا أو أنثى، فمما سمعته من العجائز الكثيرات اللواتي دأبت على زياراتهن للتداوي، فالبطن التي تحمل الأنثى تكون عريضة وممتلئة، أما البطن التي تحوي ذكرا فتكون طويلة وشامخة، ليس هذا ما جعلها تبتسم بمرارة، ولكن لأن ما تراه النسوة حملا، هو مجرد كتلة من الشحوم الدائرية، التي تتراوح بين ثلاثة طبقات في الشتاء، لتتقلص الى طبقتين في الصيف والتي تكونت خلال سنوات طويلة، من التهام طعام غير متوازن، وتلال من العلاجات الهرمونية، التي أجبرت على استهلاكها دون توقف بغية الانجاب.
نعم فزوجها لا يحتاج أن يشترط عليها عدم الحمل، حتى لا تعكر صفو علاقته بأبنائه، لأنها ببساطة لا تستطيع الانجاب من الأساس، وهو يدرك هذا جيدا، رغم ذلك يصر على تذكيرها بأعظم اخفاق في حياتها، عدم مقدرتها على أن تكون أما كغيرها من النساء.
فقد كان هذا عيبها الذي لا يستتر وفشلها الذي لا يغتفر، وقد تدربت لسنوات طويلة على تفادي التحدث في هذا الذنب، حتى لا تتيح لمن حولها أن يضعوا يدهم على جرحها، متى ما أرادوا والحاج ليس استثناءا، ولولا أن صاحبة الحمام الذي تقصده، قد أخافتها من احتمال وجود سرطان، يختبيء خلف اختفاء دورتها المفاجئ، لما تجرأت وباحت له برغبتها في زيارة الطبيبة، رغم أن صوتا جادا من داخلها يخبرها أنه سن اليأس، وأن ذخيرتها من الأمومة قد نضبت دون تعويض، ودون القدرة على تحويل واحدة من مئات البويضات، التي حواها رحمها العقيم الى جنين تلده، تقر به عينها يرضع لبنها ويناديها ماما.
كانت الياقوت شبه متأكدة أن مخزونها من البويضات، كما كانت تسميه طبيبتها القديمة في القرية قد انتهى، كيف لا ورحمها يضحي كل شهر في مراسم دموية أليمة، بأحد فلذات كبدها المفترضين، دون قدرتها على منع الأمر أو تأخيره ولو قليلا، رغم أن تأخيره لن يأتي بأي نفع على كل حال، فما لم ينجح في أربعة عشر سنة من المحاولات المضنية، لن ينجح في بضعة أشهر اضافية دونها.
تنهدت الياقوت بحرقة من أعماق قلبها، أغمضت عينيها وأرخت رأسها الى الوراء، لتتكيء على الحائط خلفها مطالبة ببعض السند، وفي رمشة عين عاودتها كل تلك الذكريات الداهمة، لخمس وأربعين سنة من المعاناة، خمسمائة وأربعون شهرا من التقلب بين التهميش الألم الحسرة والاهانة.
الياقوت لا تسترجع مهما مشطت ذاكرتها، أية ذكريات سعيدة الا في لحظات نادرة، ليتبعها مباشرة دهر من العذاب دون مواربة، لدرجة صارت فيها تهاب مجرد الابتسام ، خشية أن تدفع ثمنه غاليا.
هي امرأة كتب عليها الشقاء منذ ولدت، لأسرة فقيرة في قرية مجهرية، من القرى المتناثرة على أرض البسيطة، كانت أكبر اخوتها الخمسة ، وبالتالي كان لها شرف وراثة اسم جدتها، تماما كما حصل شقيقها مسعود على اسم جده، لعائلة لا تملك غير أسمائها العتيقة ارثا.
صحيح أنه لم يكن اسما يتبع الموضة، وليس له اسم دلال خاص به لكنها كانت تحبه، تماما كما كانت تحب جدتها التي كانت تدللها باسم توتة، والتي أصرت على والدها أن يدخلها الكتاب لتتعلم منذ سن الرابعة،
ثم شنت عليه حربا شعواء، حتى يسجلها في سن السادسة لتلتحق بالمدرسة، فقد كانت المرأة العجوز رغم أفكارها التقليدية، تؤمن بالتعليم كمنقذ للانسان من مصير سيء، لكن وككل شيء جميل لا يدوم مطولا فقد توفيت جدتها، ولم يتردد والدها كثيرا حتى يوقف تعليمها، ويجعلها رغم سنها اليافعة، تشارك في كل أعمال البيت لمساعدة والدتها، خاصة بعدما أنجبت اخوتها الذكور أولياء العهد، وصارت لا تقوى على القيام بكل واجبات المنزل والزريبة وحدها.
بكت الياقوت لليال طويلة حرمانها من الدراسة، فقد كانت تحبها وتريد أن تكبر لتكون معلمة ، خاصة أن أشقاءها الأولاد كانوا يدرسون بصفة طبيعية دون ازعاج، بالعكس كانوا يحصلون على التشجيع المناسب، للمضي قدما في ضمان مستقبلهم، وكان والدهم فخورا جدا بهم.
لكنها استسلمت في الأخير لمصيرها، وحمدت الله أنها استطاعت أن تحفظ جزء عم، وصارت تتعرف على الحروف والأرقام، ولم تكن أمية تماما كباقي الفتيات حولها.
انخرطت الياقوت سريعا في دوامة تدريبها الشاقة، لتكون شابة جديرة بالزواج، وأما قادرة على الاعتناء بعشرة أطفال، فهذا مآلها الذي لا مفر منه، كانت تغسل تكنس تعجن، تجلب الماء تحلب البقرة وتمخض اللبن، حتى أنها كانت تخرج لساعات ترعى المعيزات القليلة، التي كان يربيها والدها، فيما كان هذا الأخير مشغولا طوال الوقت في الأرض، ووالدتها غارقة في تدليل صبيانها.
الأهم من كل هذا كانت الياقوت تربي أشقاءها كأم ثانية لهم، فقد كانت حملة تحضيرها لتكون امرأة صالحة، قائمة على قدم وساق، في انتظار الرجل الصالح الموعود، فهو المستقبل الوحيد المضمون لها ولمثيلاتها من الفتيات، وبالتالي هي لا تحتاج الى تعليم أو عمل من أي نوع، مادام هذا الرجل المبجل المنتظر سيقوم بكل المهام.
كان هذا التفكير العام السائد في القرية دون استثناء، دون أن يأخذوا بعين الاعتبار أن هذا الرجل الصالح ان وجد، قد يتخلى فجأة عن صلاحه لينحرف ويظلمها، فالأنبياء وحدهم معصومون عن الانحراف والخطأ، وقد يطلق أو يفارق أو يعاق جسديا أو عقليا، أو قد توافيه المنية كمصير كل انسان على الأرض، و لن يفيدها حينها كل هذا الاجتهاد، لتتقن صنع الكسرة بكل أنواعها، أو اجادتها للكنس والمسح في حفظ كرامتها، وتجنيبها الاهانة وشظف العيش.
مرت السنون متشابهة على الياقوت، لا شيء يتغير الا عداد عمرها الذي يدوردون هوادة، وكأنها ماكنة حصاد تعمل دون توقف، من الفجر الى منتصف الليل، فيما الكل يمضي في صنع مستقبله بكل جدية ، كانت هي تراوح مكانها بين أربعة جدران، وكانت كل الفتيات حولها تتزوجن تباعا ، دون أثر للرجل الصالح المنتظر، الذي كانت تمني به نفسها كمثيلاتها.
كانت الياقوت تدرك أنها ليست جميلة كباقي الشابات هنا، لا تتقن تزيين نفسها ووضع المساحيق، وارتداء كل ما هو أنيق ، غير بعض العباءات التي تمررها لها قريباتها، لم تكن تجيد استغلال فرص الأعراس والولائم ، للرقص وعرض مهاراتها الأنثوية، حتى تخطبها النسوة لأولادهن، فلطالما كانت خجولة منطوية، لا تجيد تكوين علاقات اجتماعية، ولا تعرف سبيلا للايقاع بأحد الشباب كما تفعل صديقاتها، خاصة أنها أمية في فن الدلال والاغراء.
لكن وككل احساس بالرضا في حياتها، كانت الياقوت راضية عن نفسها، رغم أن والدتها كان تقول عنها ذميمة ، وألا رجل سيعجب بها مهما فعلت، لكنها كانت تعرف أنها مقبولة عموما ببشرتها سمراء، عينين سوداوين ضيقتين، أنف عريض قليلا وشفاه رقيقة ، مع بعض النمش على خدودها، كان شعرها الأسود مجعدا، وفي أحيان كثيرة لا تجد سبيلا للسيطرة عليه، غير جمعه في ظفيرة طويلة تداعب خصرها، لتتمرد منه بعض الخصل النافرة طوال الوقت، لكن ليس هذا ما كان يزعجها في مظهرها، بل حاجباها اللذان يتقاربان فوق أنفها، واللذين رفضت والدتها السماح لها بتهذيبهما، لأن ذلك سيذهب سر جمالها المكنون كما تقول، وعليها الصبر الى أن تزف الى زوجها، حتى تحصل على زينة كاملة في ليلة عمرها المنتظرة، اضافة الى تلك الفلجة بين أسنانها الأمامية، والتي لا تجيد الابتسام دون تعريتها، ليلازمها وضع يدها أمام فمها أثناء ضحكاتها، وتصبح سمة لصيقة بها، حتى بعدما صارت تضع العجار.
و رغم كل الانتقادات اللاذعة التي كانت تصلها، ممن حولها بسبب تأخرها في الزواج، الا أن الياقوت كانت تكتفي بالتزام الصمت وتجاهلهم، ولا ترد تطفلهم الا بابتسامتها الدافئة الخجولة، فقد كانت مؤمنة أن ما هو مقدر لها ستحصل عليه، وما كانت تفعل أكثر من الدعاء بصدق، لتتيسر أمورها وتفرح والدتها وتتزوج، كما تزوجت شقيقتها الصغرى حياة.
و جاء الفرج أخيرا بوصول عرض خطبة، وهي على أبواب السادسة والعشرين، وقد قاربت على دخول قائمة النساء المتبتلات دون زواج، كيف لا والفتيات هنا تتزوجن في عمر الرابعة عشر، وسنها هذه متقدمة جدا بالنسبة لكل الشباب العزاب هنا، والذين يتزوجون في الثامنة عشر دون تأخير.
1 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.