ShrElRawayat

شارك على مواقع التواصل

مستشفى (فولتيرا) للأمراض النفسية
«إقليم توسكانا» (1968)
ليلٌ طويلٌ، انبسط عليه فَنَن من الظلام، كأنه مورق بالسحب والغمائم السوداء لا تنقشع، ظلام مسربل بأمطار غزيرة، وهي صامتة لا تعرف ماذا يحدث؟ وكيف تتصرف، لا يبقى سوى بقايا آلام كأنها أشلاء من فريسة تشير إلى تاريخ من الموت والألم، كالجرح هي، ظاهره له ألم وباطنه له ألم، وحيدة لا صديق لها سوى الإهمال والنسيان، قابعة في إحدى زوايا الغرفة، تطوى ساعديها على صدرها بأسلوب المومياوات، متخذة وضعية الجنين، ترتجف بخوف وتشعر بالذعر يسكن داخلها، ظلام دامس إلا من نور طفيف يتخلله من ثقب الباب، ليس هناك من رفيقٍ سوى هسيس من الأفكار المؤلمة، رغم سقوط الثلوج في الخارج إلا أنها تشعر بالأرض تلتهب من الحرارة كحمم بركانية، غرفة خالية تمام من الأساس عدا تلك الساعة الموجودة على الجدار، فالحجرة موصدة من جميع الأطراف، حياة متشابهة الصور والألوان، لا فرق بين ليل ونهار، أعمى وبصير، شر وخير، تتساقط المياه ببطءٍ من صنبور المياه التالف فيدب الرعب أوصالها، ويتحرك بندول الساعة فيخبرها بمرور دقيقة من أرض الحياة، من حولها الفئران تقرض نفسها! فلا يوجد طعام، ويمر يوم مجهول آخر في الحجرة، هنا في هذه الغرفة يعاقبونها بقسوة، ويزداد العقاب كلما حاولت الفرار من هذا السجن الذي باتت فردًا منه وهي ليست مجرمة، المتهم بريء حتى تثبت إدانته، لكنها ثبتت إدانتها قبل ثبوت الأدلة، أليس هذا الظلم! ربما القانون كذبة كالحياة، فلقد رموها في معتقلات السجون، على الرغم من أنها ما زالت على قيد العقل تعلم، تفكر، وهم يدعونها بالجنون، أخبروها أن عارضا من أعراض الجنون قد خالط عقلها، ولكن هيهات إقناعها، رفضت تصديق كذبتهم، متمردة، عاصية، تتفنن في اختراع طرق للفرار؛ فتبادلها المستشفى باختراع طرق بِعَوَاقِبِهَا، وكلما أشتد العقاب؛ لن تحاول الهرب، سوف تستسلم لواقعها المرير، ولمستقبلها الأبدي، وتخبرهم أنها مجذوبة وتتلقى علاجهم الذي يثبت كذبتهم فيجعل الكذبة حقيقة، كيف يُعالج المرء من مرض لا يعاني منه؟! إنها ليست مجنونة، بل عاقلة، وهذا أمر محزن، نعم، فمرافقة المجانين أفضل من هؤلاء العاقلين الذين يعذبون فتاة في ربيع عمرها، ويخلقون بداخلها مرضا لم تعانِ منه، بين قضبان هذه المستشفى، هنا في هذا المكان لا يوجد مجانين، هنا يوجد ضحايا المتظاهرين بالعقل والثبات، فجل ما يفعله عاقل هو التظاهر بقوة واهية، وبتمرد كاذب، ربما هي تعلم أن لا سبيل من الخروج ولكنها لن ترضخ وتستسلم، لا تعلم لما تستمر بفعل هذ! فهم دائما ما يعثرون عليها بسهولة، ولا تستطيع تخطي قضبان هذا المكان، بل لم تصل يوما لهذا السور الضخم الذي يحيط بالمستشفى، ولم تخطط ماذا تفعل إن نجحت في الخروج؟ وإلى أين ستهرب؟ ولمن؟ لكن في داخلها تشعر أنها تريد الهروب حتى إن كانت ستهرب من نفسها لتعود إليها مرة أخرى، ففكرة أنها مجبرة على الإقامة وستفعل الأمر غصبًا يجعلها ثائرة، وإن كان العصيان لا يجلب سوى الألم، إلا أنه ألم ذو مذاق لذيذ، حيث ترفرف أجنحة الحرية، وتشعر بقوتك كإنسان، وإن كانت النتيجة أن تكون في مكانها هذا، رفيق للجرذان، لا بأس ببعض العقاب في سبيل سعادة تائهة، فهذا أفضل من معانقة الجنون!

كانون الأول1970م
مستشفى فولتيرا (توسكانا الإيطالية)
في مكتب مدير المستشفى، حيث كان يجلس رجل غليظ القلب والشكل، قصير القامة متوسط الحجم على كرسيه الهزاز، وعينيه تشتعلان بالحقد والقسوة، ينصت لحديث هذا الطبيب الجديد، القادم من إنجلترا، وهو أستاذ في الطب النفسي، بينما صدح صوت الطبيب بقوة قائلًا:
- جوزيه آرثر.. أنا الطبيب جوزيه يا سيد كلارك، بالتأكيد قد علمت بقدومي، تعلم جيدًا سبب وجودي هنا، لقد راجعت حالة فلورين، المريضة بالفصام، غرفة 202، واكتشفت ما يحاك من مؤامرات واضطهادات، الآن أقدم بالغ أسفي لما سأفعله، سأقوم بتقديم البلاغات ضد هذه المستشفى، وخاصة ضدك وضد الطبيب المسؤول عن الحالة…
صمت قليلا محاولًا التحكم في غضبه، وقام بوضع يده بعنف على المكتب الذي يجلس عليه كلارك، وبوجه محمر من الغضب أكمل باستنكار:
- لقد تم التعامل معها بوحشية، قمتما بتحويل اضطرابات نفسية بسيطة لمرض عقلي خطير، فأنا راجعت تاريخها المرضي بدقة، وأحذركم أن يتدخل أحد في حالتها، تم تجنب تحليل حالتها العقلية وتشخيصها، منذ حوالي عامان، كانت تعاني من اضطرابات نفسية كالقلق والاكتئاب، كان يمكن علاجها دون الدخول لمصحة عقلية، لكن بفضل هذه المستشفى المريضة أصبحت مصابة بالشيزوفرينيا، وتطورت الاضطرابات لإيذاء النفس.
جلس على الكرسي المقابل للمكتب، يستشيط غضبا، ثم أكمل وهو يحدجه بنظرة حادة:
- أخبرني سيد كلارك، ما الهدف من المستشفيات المرتبطة بالصحة النفسية؟ أليست حماية المريض واحترام ما للإنسان من كرامة أصيلة، التعامل معه بإنسانية، رعايته وتوفير الأمان ومنع أحد من إيذائه جسديا أو جنسيا أو إي نوعا من الاستغلال! لقد تعاملت المستشفى بحيوانية تامة مع المريضة وغيرها من المرضى، إنكم تعاملونهم ككومة من القمامة.
توتر كلارك، شعر بقدوم هذا الطبيب أنه سيكون في مشكلة، فهو يعلم علم اليقين أن فلورين حينما أتت لهذا المستشفى لم تكن مريضة؛ لكن تم دفع مبلغ كبير من المال لتحتجز هنا؛ لتكون في هذه الحالة، وتسوء حالتها، بقدوم جوزيه وعثوره على الملف الخاص بها، ومراجعته تاريخها المرضي، الجميع معرض أن يقع في ورطة عظمى، لكنه أنتزع نفسه من الأوهام بقوة، تجاهل أسلوبه التهكمي وأستطرد قائلا:
- اهدأ قليلا سيد جوزيه، فقد كان طبيب غيرك مسؤول قبل قدومك وهو من تابع حالتها، والجميع والمستشفى غير مسؤول، كما أن هناك عدد هائل من المرضى، لا أعرف عمن تتحدث، فلن أحفظ معلومات كل مريضة في هذا المستشفى الضخم، ولكن لأنك عثرت على خلل، حتى وإن كان هناك خطأ غير مقصود في التعامل مع هذه المريضة، فأفعل وسعك وابذل قصارى جهدك لعلاجها، لك كامل المسؤولية، وأعدك لن يتدخل أحد لكن عليك ألا تضر المستشفى والباقي تعرفهُ جيدًا، وأن تكون حذرًا غير متهور كاستخدامك هذا الأسلوب الهمجي الذي لا يليق بطبيب مثلك.
لم يصدق جوزيه كلمة مما قاله وغادره ساخطا محتدما، واتجه مباشرة يعرف وجهته، لغرفة 202، يريد أن يرى تلك المريضة والحالة التي وصلت إليها، هنيهة وأصبح قابعًا أمام الغرفة، فوجد نفسه ينظر لبقايا إنسان، في العقد الثاني من عمرها، وليس لفتاة في ربيع عمرها، احتقن وجهه، تذكر القسم الذي عاهد به نفسه أن يساعد الجميع، ساد الصمت إلا من هسيس الخواطر الدامية، تململت في نومها ومن ثم تقلبت في أجفانها وأشرقت عيناها الذابلة في ذعر وخوف؛ فسقط قلبه صريعا يتمزع في أشعة ألحاظهما، ظل بعض الوقت يقارن من أمامه بمن رأى صورتها، هناك فرق شاسع، كالسماء والأرض، فالراقدة أمامه قد هرمت في شرخ شبابها، تم تجريدها من شعرها الثمين، وردة ذابلة، وجسد ضئيل ومن كانت في الصورة ذات ارتفاع متوسط وشكل مذهل، شعر فاحم ومنحنيات مثل ساعة رملية، من فتنة الحسن كأنها رسالة إلهية إلى هذه الأرض، في غضون سنتين تحولت من وردة ناضرة لوردة تسيل الدماء، لم يشعر بالراحة والسكينة، يتألم، لكنه تنحنح ثم بدأ حديثه قائلا:
- لا تخافي، لن أؤذيك، أنا هنا لمساعدتك.
لم ترفع رأسها ولاذت بالصمت، تائهة متوترة، خائفة وكأنها فقدت القدرة على النطق، أشبه بدماغ السكير الفارغ مزينًا بخيالات الخمر.
ليكمل بصوت رخيم:
- لقد سمعت أنكِ تريدين الفرار من هنا، سأساعدك لكي تغادري، أليس هذا ما تريديه؟
أخذت نفسها وأفكارها وظلت تجول بهم، كانت تطوى أزقة عقلها حائرة ضائعة، يائسة، هائمة على وجهها، فقراره كان مفاجئًا لها، هل حَقًّا ستغادر؟ ولكن هي كانت تريد هذا في الماضي ولكن الآن! الآن ليس هذه غاية تستحق العقاب من أجلها، ولمَ هذا الطبيب سيفعل هذا؟ مساعدته علامة استفهام كبرى بالنسبة لها، لكنها قلّبت الأمر على مختلف الأوجه، قررت أن تجازف وتغادر، فأومأت برأسها تهزها يمينا ويسارا، تخبره أنها تريد الخروج، سويعات قليلة جداً وستكون حرة، طليقة كما تريد، فقد مر وقت منذ دخولها المصحة العقلي، شعرت أنها فقدت الحياة كأنها فراشة احتجزت في قبو مظلم.
* * *
تنفس كلارك الصعداء عقب خروج جوزيه، أخذ يفكر في مخرج، مرددا بين نفسه بهمس "لا دخان دون نار كما يقولون، فأنا في معضلة كبرى، إما أن أتركه يعالجها بصمت دون إخبار تلك المرأة، أو أن أخبرها وحينها ربما أتعرض لمشكلات أنا في غنى عنها".
مر وقت كبير كان كلارك غارقا في الحديث مع نفسه، حتى عاد جوزيه مرة أخرى، وحينها كان كلارك جاهزا بحديثه، اختار أن يخفي سر ما يحدث عن تلك المرأة، ويدع جوزيه يفعل ما يريد، أمامه ملف فلورين، يرتسم على قسمات وجهه التحدي، ورجع بالكرسي قليلا للخلف ثم قال:
- لقد ألقيت نظرة على ملف هذه المريضة، أظنك لم تراجع كل شيء بالكامل، فهي مصابة بالفصام، هذا المرض قد يكون سببه البيئة المحيطة ولكن العامل الأكبر يرجع للجينات، فإن الجنون وراثيٌّ في أسرتها، من قبل والدتها كانت تعاني من نفس هذا المرض الذهني، وهذا يثبت صحة حديثي.
علّت الحيرة وجه جوزيه، ذهل بما أخبره إياه كلارك، ظل يتفرس الملف بطريقة غريبة، غير مصدق هذا، وكأن ما أمامه لون من ألوان الخداع البصري والخيال، توقفت الكلمات على لسانه، في حين أن كلارك تحدث بجدية وصرامة:
- أنت محق قليلا بشأنها، إن كل شيء ربما كان سيحل بطريقة أخرى غير تلك التي اتبعها الطبيب السابق، لكنه استند على أدلة، اترك غضبك جانبا، وحديثك الغير مهم عن البلاغات والقضايا القانونية، ابدأ في متابعة حالة مريضتك من اليوم.
ابتسم جوزيه بتكلف ثم قال بامتعاض:
- أريد إذنًا بخروجها ليوم كامل…
قاطعه كلارك بغير مجاملة:
- لكنها مجازفة كبرى أن نسمح لها بالخروج، أنت تعلم أنها ليست...
فعقب جوزيه قائلاً:
- إنها مريضتي، هذه طريقتي لعلاجها، أتحمل كامل المسؤولية على عاتقي، أعدك بأني سأرجع بها هنا مرة أخرى، خروجها ليس خطيرا لهذا الحد، هي تعاني من اضطرابات ما بعد الصدمة، الفصام.. الفصام لا يعني اضطراب الهوية الشخصية، أو انقسام للشخصية، أنت تعلم هذا جيدا.
وبالفعل قام بالسماح لها بالخروج بعد خروجه من مكتب كلارك، مضى بعض الوقت وهو متوتر قليلا، استخف سلوكه وتصرفه المشين، تضاربت في رأسه التخمينات، انفعالات متضاربة، لعب إبليس في عقله، فماذا لو لم تذهب فلورين للمكان الذي توقعه؟ ماذا لو كان تشخيصه لها خاطئًا؟ هل عليه أن يستسلم بعد أن سكن الأمل قلبه؟
أما فلورين فظلت تركض وتركض في أرض الحياة، كأن هناك من يطاردها، لم تَهَبْ الأصوات، والشوارع المزدحمة، هدأت بعد فترة، لا تعرف أين تذهب؟ لكن سرعان ما تأكدت من المكان، وولت هاربة إليه بكل ما تملك من طاقة وقوة.
* * *
في مكان ما، الواحدة بعد منتصف الليل، تهب به رياح باردة، خفيفة، مكان يعج برائحة الموتى، وانتهاء الحياة، هنا حيث تجتمع الأرواح جميعا، كانت تقف على إحدى القبور، تتساقط عبراتها ببطءٍ كما تتساقط قطرات الندى، تقف مرتعشة، ملابسها غير مهندمة، عيناها احمرتا من إثر البكاء، شفتاها ترتجفان، أسنانها تصطك... فيخرج صوتها في هذا الصمت المحيط قائلةً:
- مرحبا أمي، أظنك تتساءلين لماذا أنا هنا الآن! سأجيبك لا تقلقي، لن أفيض في الكلام، لَكِنَّ أريد أن أخبرك بحالي وصحتي، ربما أنت ترين ذلك بوضوح من شكل ملابسي الغير مرتبة، من جسدي الهزيل، عيني التي فقدت لمعانها، أنت تلاحظين هذا في شفتيّ التي تقطر دمًا، وفي رجفة جسدي.. أليس كذلك! لكن يا أمي حالي أصعب وأسوأ مما أبدو عليه، فوجودي في هذا الوقت، كوجود وردةٍ مهددة بالقطف من المارة في هذا المكان يعتبر جنونا، أو ربما لم أعد أهاب الليل وظلامه، فلم يعد للخوف صوتاً بداخلي، فندوب قلبي، أصبحت ورداً تزين سطحه.
نظرت لكومة الرمال أمامها التي تحوي أمها بداخلها، ثم أكملت الحديث بضحكة ساخرة مهتزة مصحوبة ببعض الدموع:
- هل رأيتِ كيف يظن الجميع أني مجنونة، حتى أنهم ألقوا بي ككومة الزبالة في مصحة عقلي، لم يقترب مني أحد ليفهم ماذا بي؟ كيف أشعر، لم يجازف أحد؟... حتى هو لم يحاول معي مرة واحدة، لقد صدق هذه الكذبة، وتحاشى حديثي، لقد هُنت عليه! بينما أنا أصرخ في الشوارع مترجية الجميع أن يتركوني، وأني لست مريضة، كانوا يضحكون، ويسخرون، ويخبرونني بأني فقدت عقلي، أنا أريد إخبار أحد بمكنون قلبي، أن أخرج حزني الذي سجن بداخلي، فهم يا أمي لا يسمحون لي بذلك، أن حدثت نفسي فأنا مجنونة، وإن اقتربت منهم فأنا أشد جنونا، إن كتمت مشاعري يخبرونني أني مكتئبة، إن صرخت كُتم صوتي، وإن سكنت أعطوني دواء، أنا أموت وهم يرقصون على مراسم دفني، لقد ظلمت، تجنبني الجميع، وأزالوا لي شعر رأسي، حتى أنهم يصعقونني بالكهرباء، يضعونني في غرفة مظلمة كحياتي، أنا أصارع ولكن لا أعرف لماذا؟ أمي! أنت كالآخرين لن تفهمي، فحديثي ليس مرتبا كبقية الفتيات، ولم أعد جميلة مثلهم.
أمي، أتعلمين ما زلت أتذكر كلماتك تلك التي كنت تلقيها على مسامعي (لا تزرعي بذورك في السراب... فلورين)، إذن أنا لست مريضة، أعلم أنني لا أتذكر ما اليوم، وما الشهر، وفي أي عام، لكني لست مريضة، فأنت أمي، وأنا أتذكر مكانك، أتذكر مسقط رأسي، أعلم مر وقت طويل هناك، كنت في صحبة أشخاص لا يربطهم بالعقل شيء، لكن هل كل ما عانيته أصابني بفقدان عقلي؟!
جاء جوزيه من خلفها قائلا:
- الأذن لا تسمع إلا ما ترغب في سماعه.. فلورين!
وترك صمتا تتلاقى فيه النظرات وتتباعد، نظرت إليه جيدًا، لم تدرك عما يتحدث؟ كأن لسانها انعقد مجددا، وكان ينتظر سؤالها مستفسرا كيف علم بمكانها، لكن لا بأس، فهي تسلحت بالصمت.
فقال جوزيه ليقطع حاجز الصمت ويعلم أنها تشعر بالاختناق مرة أخرى، وأنها سجينة، وإن كانت الجدران عارية:
- إذن إلى أين ستذهبين الآن؟ أقصد بعد زيارتك لوالدتك، ماذا عن قدح من القهوة وبجانبه بعض من رقائق البسكوت، أظن في هذا الوقت، والبرد القارس تحتاجين لتدفئة جسدك.
تركت كل شيء أخبرها به وكأن حديثه هباء منثورا، لتعلق قائلة:
ماذا عن قلبي؟ أشعر بعريه مكللة بالزهور والحياء بقلبي، إنه يتألم ويضطرب اضطراب الورقة البائسة في شجرتها نافرة تتململ، أنا وبطريقة ما أشعر أني أحمل هذه الحياة على كاهلي، أنا فقط أشعر بأني أقتلع من جذوري، وأن الشمس لم تشرق في حياتي قط، كأني صاحبتني الكآبة مثل المرض المزمن، أظن أني أعانق الموت، وأتجهز له!
انفرجت شفتاه لتظهر أسنانه، فها هي قد استطاعت أن تفسر شعورها بكلمات واضحة، لا يتخللها خوف ولا مقاطعة، حتى إن لم تلاحظ هذا، فما يحدث أولى خطوات الدواء.
جلست بجانب كومة الرمال، ظلت سارحة في متاهة، وكأن هناك حديث ولكنها لا تسمعه أو تعرفه، تبوح بأشياء وتضمر أخرى، هي تحررت ولكن ماذا بعد، لم تلبث وقتا طويلا حتى ناداها النوم بإغراء لا يقاوم، فغفت في أحلام طويلة، تناولها جوزيه، متمسك بالقوة والرشاقة، وعاد بها إلى المستشفى مرة أخرى، وهو يبتسم، فكان على يقين أنها ستأتي لهنا، لذلك جعل أحد يتبعها، ويوصلها لميلانو، بعد أن ركضت كثيرا، وفي النهاية خرت ساقطة في النوم من شدة التعب.
قام بوضعها في غرفة أخرى، مختلفة عن تلك التي اعتادت عليها، فهو قد جهز هذه الحجرة منذ الصباح، كانت غرفة جميلة جداً بها شرفة تملأها الورود، وأيضا نافذة، الجدران مطلية باللون الزهري، سرير فسيح يحيط به مجموعة من الألعاب القطنية، في أقصى اليمين من الغرفة مكتبة بها بعض من الكتب عن التفاؤل والحياة، وأقصى اليسار يوجد ثلاجة صغيرة بها كل أنواع الشوكولاتة والمثلجات، وبجانب المكتبة دولاب وضع به ملابس رقيقة وجميلة، وكل ما كان ينقص مرآة لكنه عزم على جلبها بعد أن تتحسن هيئتها وتشعر بأنها قد عادت امرأة، ولا تزال جميلة، عندها سيضع مرآة كبيرة جداً، فغدًا اليوم الأول لعلاجها.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.