ShrElRawayat

شارك على مواقع التواصل

انتحار
ضوء خافت في أركان الغرفة ينعكس على حوائط بيضاء تميل للون الرمادي بعض الشيء لتنير لوحات تشكيلية معلقة بشكل جمالي يريح الأعصاب كأنها بانوراما متحركة.
باب خشبي عتيق يبدو كأنه من العصور الوسطى معلق بجواره لافتة مضيئة محفور عليها الآتي:
د/ عمار سليمان
استشاري الأمراض العصبية والنفسية
جامعة كاليفورنيا
تأخر الوقت والعيادة مكتظة بالمرضى، طلب الطبيب من معاونه تأجيل باقي مرضاه للغد لكن تبقى مريض واحد صمم على الدخول فسمح له بذلك في ضيق.
دخل عليه عيادته شاب طويل أسمر الوجه ناعم الشعر يرتدي نظارة طبية ذو ملامح هادئة يرتدي ملابس عصرية وبسيطة، بمجرد جلوسه أمامه في هدوء تام عرف نفسه في كلمات شحيحة:

- زاهر أحمد
مرشد سياحي
ردد الشاب بعض الكلمات غير المفهومة كالألغاز الغامضة وحين حاول عمار فهمها، وجده يتحدث عن حادث قتل حدث بالأمس في الصعيد، ذكر زاهر كل تفاصيل الحادث كأنه رآه بعينيه.
اعتدل عمار في مقعده المستدير، حاول الاستفسار من زاهر فسأله:
- كيف عرفت كل تلك التفاصيل في الحادث؟ هل كنت هناك؟
رد زاهر بصوت خافت بعد أن تلفت حوله ليطمئن من عدم وجود أحد:
- لست أنا، بل هو.
حاول عمار استفهام الأمر أكثر فسأله:
- من هو؟ هل هو صديق لك أخبرك بما فعله؟
تردد زاهر لكنه رد بتلعثم واضح في حروفه:
- لا، لم يخبرني بلسانه، بل سمعت صوته بداخلي وهو يلوم نفسه على قتلها.
جلس الطبيب عمار في دهشة من حديثه، راودته الأفكار كرذاذ المطر تطرق رأسه ببطء أصابته بصداع قاتل.
بعد أن انصرف زاهر من عيادته، بدل نظارته بأخرى للقراءة وفتح دفتره الذي يدون به حالة مرضاه ليسجل أهم ملاحظاته في كلمات معدودة، لكن هذه المرة خانه قلمه واهتز بين يديه المرتعشتين من برودة قارسة رغم أنه في منتصف شهور الصيف الحارة، حاول عمار استنتاج حالة زاهر لكن كلماته زادته حيرة، سأل نفسه:
- هل هي أوهام وهلاوس تتملكه؟
لكنه أجل تشخيص الحالة لجلسة لاحقة وكتب له بعض المهدئات ليتمكن من النوم، لكن بعد انصرافه ظلت كلماته تراود عمار وتحوم برأسه كطنين النحل بأذنه، أما صوت أنفاسه المتقطعة كمن أصيب بحالة ربو مفاجئ.
لم يدرِ ماذا يكتب عنه فهو من أغرب الحالات التي شاهدها خلال سنوات عمله كطبيب نفسي، لكنه بعد حيرة وتردد كتب عنه جملة واحدة وهي
"صم أذنيك، أغلق عينيك، لا تتحدث مع أحد"
أغلق الدفتر، غادر العيادة بعد أن اكتفى بهذا القدر من المرضى فلم يعد يستطيع مقابلة أحد.
رغم إرهاق عمار الزائد وترنحه ثملًا من التعب، لكنه فضل السير على النيل في هدوء الليل كعادته ليفرغ رأسه من كم الأفكار التي تراوده بخصوص حالات مرضاه، لعن هذه المهنة الشاقة على أمثاله ممن يعيشون حالة مرضاهم بتفاصيلها ويتشاركون أفكارهم وآلامهم بدلا من نسيان أمرهم بمجرد الانتهاء من فحصهم.
جلس مستلقيا على مقعد سيارته ناظراً لصفحة النيل الساحرة تتلألأ عليها ضوء النجوم اللامعة مداعبةً القمر المنير، تنهد تنهيدة عميقة كجمرة نار مشتعلة أخرج بها ما يشغل عقله واستسلم لجمال المنظر، لم يشعر بالوقت يمر حتى سمع آذان الفجر فقرر العودة للمنزل، عاد الطبيب عمار لمنزله وبعد طقوسه المعتادة فر النوم من عينيه هاربا إلى اللا عودة، لجأ لكتاب يقرأه عن التوأمة الفكرية عله يساعده على النوم، كان العنوان غريبًا بعض الشيء لكن فضوله استحثه ليقرأ ما به، تصفح الكتاب وغلافه، شعر بدسامة محتواه فجذبه صفحة تلو صفحة حتى غلبه النوم رغما عنه.
استيقظ من نومه مرهقا لم ينل قسطا وافر من الراحة، جلس يتصفح الأخبار على هاتفه وهو يحتسي قهوته بملل، لكن خبرًا منهم استوقفه، بل أصابه بالذهول فلم يستطع تمالك أنفاسه، إنه خبر مقتل شاب في مقتبل العمر وجوار الخبر صورة تشبه شخصا رآه من قبل، ما هذا؟! إنه خبر مقتل زاهر مريض الأمس منتحرا!
جلس للحظات لا يعي الصدمة، متى وكيف؟! لقد كان معه بالأمس، هل انتحر نتيجة حالته أم تناول جرعة كبيرة من الأدوية؟
قام منتفضا من نومه كمن لدغته حية، لا يدري هل يخبر الشرطة بما سمعه من زاهر أم يتجاهل الأمر، قرر ألا يبادر بحديث أحد فهو منشغل بمرضاه ومتابعة الرسائل الدراسية التي يشرف عليها عبر بريده الإلكتروني منذ عودته لمصر منذ عام تقريبا.
لكن الوقت لم يمهله للتفكير، مر يومين بسلام، تناسى الأمر بعض الشيء، لكن لم يهنأ بتلك الهدنة، دخل عليه معاونه يخبره بقدوم معاون شرطة بالخارج طالبا منه التوجه في الغد لمركز شرطة العباسية لأخذ أقواله، وقع الطبيب عمار على طلب الاستدعاء، وتعهد بذهابه في الغد الباكر.
مر الليل بطيئًا على عمار تراوده الكوابيس بشأن مقتل زاهر، تخنق أنفاسه كحبل مجدول على رقبته يكاد يزهق روحه، تمنى لو عاد به الزمن ولم يزر ذلك الشاب عيادته قط، تمنى لو أنه يعيش حلما مزعجا كسحاب معتم ينقشع مع أول خيوط الشمس المشرقة، لكن مع حلول الصباح اضطر عمار للذهاب إلى قسم الشرطة لاستجوابه بعد أن وجدوا وصفة العلاج الموقعة باسمه كطبيب مختص داخل ملابس الشاب المنتحر.
جلس عمار على مقعد قديم، يتجول بنظره في غرفة التحقيق، شعر بجدرانها الصفراء كأنها أشباحا تطبق على أنفاسه أما أثاثها الرتيب فزاد من عدم راحته للمكان.
دخل عليه المحقق وجلس على مقعده ينظر لعمار بشك وريبة بعد أن سجل بياناته الشخصية، سأله قائلا:
- ماذا تعرف عن زاهر؟ وما كانت حالته؟
رد عمار ببساطة، رغم ازدياد قلقه:
- كانت هذه أول مرة يزور العيادة، لم يسعفني الوقت لتشخيص حالته، لكني وصفت له بعض المهدئات؛ لأن كلماته كانت أشبه بالهلاوس غير المنطقية.
استفهم منه المحقق:
- هل تتذكر حديثه لك؟
حاول عمار استرجاع الموقف أمام ناظريه، ثم أجاب قائلا:
- تحدث عن حادثة قتل بالصعيد، ذكر أغلب تفاصيلها لدرجة أثارت ريبتي، وحين سألته هل كنت هناك؟ أجاب "بل هو"، لكني لم أفهم منه أكثر من ذلك.
طلب منه الضابط ترك بيانات الحادث كما وصفه زاهر، ثم أذن له بعدها بالانصراف شريطة أن يكون متاح للاستجواب وتكملة التحقيق إذا لزم الأمر، شكره عامر وانصرف مسرعا ليلحق بموعد عيادته ومتابعة مرضاه.
مر اليوم على عامر رتيبًا مملًا، قرر بعد الانتهاء من عمله أن يأخذ عطلة لعدة أيام يزور أهله بالصعيد ويريح أعصابه من ذلك الحادث الغريب، بعد انتهاء يومه أبلغ معاونه أن يؤجل كل مواعيد مرضاه للأسبوع القادم لسفره المفاجئ، عاد للمنزل مسرعا، أعد حقيبته ليستعد للسفر في الصباح الباكر عائدا لقريته بجوار مدينة الأقصر.
وصل عمار إلى قريته الجميلة، سحره جمال الطبيعة من حوله، اشتاق لأيام طفولته المبكرة، أراد لو عاد طفلًا صغيرًا يجري ويمرح في تلك الحقول الخضراء لا يحمل للدنيا هما، تمنى لو عاد لحضن أمه لا يفارقها ولو للحظة، استرجع لحظات الطفولة وقسوة أبيه الذي كان يضربه ضربًا مبرحًا،
تحاول أمه أن تدافع عنه وتبعده عن طريقه لكن دون جدوى، كانت أمه كالملاك الحارس له في طفولته، لا زال يشعر بلمستها الحانية على وجنتيه وبيدها تربت على شعره.
لم يكن يعلم أنه سيفقدها سريعا نتيجة وحشية والده، وعدته أن تظل معه لكنها توفت إثر نوبة من نوبات غضب والده التي تصيبه نتيجة إدمان الكحوليات، ذلك الوحش القاسي أبرحها ضربا، لم تتحمل صحتها عنفه لضعفها وهزالها، تأثرت نفسيتها حتى ذبلت زهرتها وضعفت كيمامة شريدة تكسرت أجنحتها، لم تجد معها الأدوية نفعًا حتى ماتت بجرعة زائدة منها.
كم تمنى لو تركها والده تعيش في سلام، لكنه بمجرد موتها تزوج من أخرى وترك عمار لخالته تربيه وتعتني به، لذا فهي لها مكانة والدته لديه ولا يحيا إلا بدعواتها حتى أنها عاونته على تحقيق حلمه ليصير طبيبا نفسيا ناجحا.
منذ وفاة أمه، تعهد عمار أن يكون طبيبا يداوي الأرواح العليلة قبل الأجساد، دار بذهنه شريطا لحياته منذ تخرج طبيبا شابا كغصن لين يقاوم ظروف الطبيعة ليبلغ عنان السماء، تحدى ظروفه وضيق إمكانياته، تعرض لصعوبات كثيرة كانت أشواكا بدربه حتى حصل على أعلى شهادات الطب النفسي في أمريكا، لكنه رغم ابتعاده سنوات عديدة بأكبر المدن في العالم، ظل الحنين يراوده وذكريات الطفولة تطارد مخيلته، يتمنى لو ترك كل شيء ويعود ليجد راحته في موطن نشأته بتلك القرية الصغيرة.
توجه إلى منزل عائلته في أطراف البلدة حيث تقطن خالته الأرملة زينب التي لم تنجب أولادًا، لكنها من اهتمت بعمار بعد وفاة أمه وهو صغير كانت تغمره حنانا، تخشى عليه كخوف القطة على صغارها إذا اقترب منهم أحد، عاش تحت رعايتها ولم يتبق له أحد غيرها.
أسرع بالدخول للمنزل يبحث عنها، وجدها على سطح البيت تطعم الطيور، تشاهد الحمام العائد لبرجه من بعيد في سرب كسحابة في السماء تقترب منها، اقترب من خلفها هامسا:
- أمي الغالية، كيف حالك دوني؟
التفتت لتشاهد عمار أمامها، خفق قلبها وانسابت دموعها بل كادت أن تفقد النطق من الفرحة، احتضنته كأنما عاد كل حمام الغية إلى برجها، احتضنها عمار، قبل يدها وجلس بجوارها لينعم بحنانها الذي افتقده منذ سفره وانغماسه في العمل، جلس كطفل في كنف أمه يرتوي من نبع حنانها الذي لا ينضب، وبعد أن انهالت عليه بدعوات صلاح الحال في كل مجال جاءت كعادتها لسيرة بنت الحلال، اقترحت عليه هذه المرة طبيبة الوحدة الصحية الجديدة قائلة له:
- هي على قدر من العلم والجمال ومن بلدة قريبة من قريتنا.
ابتسم عمار لخالته محاولا إقناعها أنه لا يشغل باله بالزواج حاليا فأمامه الكثير ليحققه بحياته العملية أهم من ذلك، لكنها ضمت شفتيها في حسرة وربتت على كتفه قائلة:
- ماذا تبقى لتحققه؟ ألم يكفك ما حصلت عليه من شهادات وعلم؟ الوقت يجري يا عمار، وأنا لن أحيا لك طيلة عمري، كم أريد أن ترعاك زوجة صالحة نعرف أصولها وترعى الله فيك.
ضمها عمار وقبل جبينها ثم قال:
- حين يأتي القدر سأتزوج لا محالة، لكن ما يهمني الآن تذوق طعامك الشهي الذي لا مثيل له.
ضحكت الخالة وأخذت يده لتستند عليها لتعد له ما يحبه من طعام، سار معها كحمل وديع ينعم بالأمان كي يعاونها في إعداده.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.