ShrElRawayat

شارك على مواقع التواصل

أطلَّت الشمس بخيوطها الذهبية على نافذة هدى، اخترقَتها، فداعبت جفونها، وتسرَّب دفئها إليها فأيقظتها من سُباتٍ عميق، فتحت عينيها على صوت صغيرها عمر يستأذنها في الدخول، وما إن سمحت له حتى ركض إلى جوارها كما هي عادته دائمًا، أخذته بين ذراعيها لينهل من نبع حنانها وعطفها، لم يدرِ أنها هي من تحتاج إلى احتضانه والشعور بالراحة والأمان أكثر منه.
لم تمر بضع دقائق حتى دلف إلى غرفتها ابنها الأكبر علي، شاب في الثامنة عشر من عمره، يشبه أباه في كل شيء؛ وسيمًا، أسود الشعر، تشعر بطيبته والارتياح إليه بمجرد حديثك معه لأول مرة، وهكذا كان أبوه الذي توفي منذ عام، نفس ملامحه، حركاته، نظراته حتى طريقة تعامله مع الأمور.
وقف علي أمامهما ووجَّه كلامه لأخيه ممازحًا:
- هيا يا عمر، لقد أخذت اليوم نصيبك من الحنان، ولنسرع يا أمي، سنتأخر على موعد سفرنا كما اتفقنا.
ردت عليه قائلة:
- لا داعي للقلق يا علي، لقد جهزت كل شيء وسننطلق بعد الإفطار بإذن الله. والآن، لتذهب مع أخيك يا عمر لترتدي ملابسك ولنستعد لرحلتنا إلى بلدتنا في الريف، حيث الهواء النقي، والهدوء المريح للنفس، والجو العليل، والراحة التي لن نجد مثلها في أي مكان، فالإنسان منا يتوق لأصله ولجذوره الطيبة حيث الأخلاق والقيم التي قلما نجدها الآن.
لم تتوقف هدى يومًا عن التفكير والحنين إلى بلدتها منذ تركتها بعد زواجها، ذكرياتها الجميلة، طفولتها، وشبابها هناك، وبرغم كل ما طرأ عليها من تغيرات إلا أنه ما زال للماضي عبقه وسحره الساكن فيها، حيث افتقدت كل ما هو عزيز وغالٍ عليها، كل ذكرى لها هناك، كل شارع، كل بيت، حتى الأصدقاء. أفاقت من شرودها على صوت علي يخبرها بأنهما سيسبقانها إلى السيارة، ثم بدأت رحلتهم.
في الطريق كانت تنظر إليهما بحب، تشعر بالإشفاق عليهما من صخب الحياة الجديدة التي لا يعرفان فيها سوى ذلك العالم الافتراضي من خلال تلك الهواتف الذكية، برامج السوشيال ميديا، والجلوس في وحدة معها، لطالما حلمت أن تغرس فيهما القيم والمبادئ وحب الخير والمشاركة، تمنَّت لو يعيشا أجمل أيام حياتهما كما عاشتها لتكون ذكرى لهما تسعد بها قلوبهما، ولكن هيهات فلقد أبهرتهما التكنولوجيا الحديثة وخطفت الجميع إلى أضوائها.
تذكرت وقت أن كانت تستيقظ مبكرًا، تستمع للإذاعة المصرية، تسعد بقصص الأطفال ومحتواها الجيد، وغيرها من البرامج الهادفة، تذكرت الأسرة التي تجتمع حول مائدة واحدة في نفس الموعد، الجميع يُدلي برأيه حول مجريات الأمور، شاي العصاري في شرفة المنزل حيث الجو الجميل والهدوء والنقاء، ومن أمامهم حديقة المنزل التي بها الكثير من الفاكهة وخاصة أشجار العنب التي كانت تلقي كل منها بفروعها على بيتها، وحين يأتي الصيف تخضرُّ أوراقها، وتتدلى عناقيد العنب منها كاللؤلؤ فتأسر الناظرين إليها بحسنها وجمالها الرائع، الورود متعددة الألوان؛ الجوري، والفل، والبنفسج، النظر إليها يبهج النفس ويغذي الروح. رأت أن الزمن قد تغير واختلف كل شيء، وأصبح الجميع في دوامة من الحياة يلهثون وراء المال، لا وقت للحديث، أو الراحة، أو الهدوء ولذا حرصت على أن يشاهدوا بأعينهم جمال الطبيعة ويكون لهم ذكريات جميلة كل عام وقت إجازتهم الصيفية في بيت جدهم.
وصلت إلى بيتها في الريف، فاستقبلتهم أمها بأحضانها الدافئة التي تشتاقها دومًا، وبعد أن تناولوا وجبة الغداء استأذنتها للذهاب لزيارة جيرانهم. غابت ساعتين، ثم عادت، حينها طلب منها عمر أن تحكي له عن الجَدة صفية التي توفيت منذ عشرين عامًا، والتي تحرص دومًا على زيارة بيتها وقبرها.
احتضنته بقوة ثم تنهدت طويلًا وقالت له:
- إنها ليست حكاية الجَدة صفية وحدها، بل حكاية كل سيدة عانت، واستثمرت وقتها وجهدها من أجل رعاية أولادها، والمرور بسلام من تلك الحياة التي لا تخلو من المِحن والمآسي.
خرجت والدتها من داخل البيت إلى شرفة المنزل وبيدها صينية تحمل عليها الكيك مع الشاي بالنعناع التي تحبه هدى ووضعته على الطاولة أمامهم، ثم قالت بسعادة:
- حان وقت الشاي بالنعناع والكيك اللذيذ.
لحقها علي من الداخل وقال مداعبًا:
- ستأكلون بدوني!
- ضحكت الجَدة وقالت:
-كيف يحدث ذلك فما أعددتها إلا من أجلك.
نظرت هدى لابنيها وقالت:
-هيا اجلسا إلى جواري وسأقص عليكم حكاية الجَدة صفية.
بدأت هدى في سرد قصتها عليهما ووالدتها شاهدة على الأحداث، فلربما يجدان فيها الحكمة أو النصيحة التي يستطيعان أن يستنبطاها من بين السطور. أخبرتهما أنها كانت تراها دومًا الهرم، والقمة، تجمع الناس حولها كل ليلة وتحكي لهم القصص الخيالية والحقيقية التي يؤخذ منها العِظة والعِبرة، وحكت لهما عن طفولتها البائسة المشرَّدة، عن الحياة الصعبة التي عاشتها برفقة زوجة أبيها بعد وفاة والدتها، كم عانت من الأيام هي وأخوها حتى كبرا معًا وتزوجت هي، كم مرت عليهما الأيام التي لا يتذوقان فيها إلا فتات الطعام، ما تبقى من أبيها وزوجته وهو لا يدري ولا يسأل؛ فعمله في حقله يأخذ كل وقته، يعود في نهاية اليوم فيأكل وينام ويستيقظ مبكرًا ليومٍ جديد كسابقه، كم من المرات التي أحرقتها بطرف سكينٍ ساخنٍ، كم مرة طلبت منها كوبًا من الحليب فكانت تُكمله بالماء، كم عدد المرات التي وشت إلي أبيها أمرًا لم تقصد فِعله فينهال عليها ضربًا؟! لم ترحمها ولم يرحمها أبوها؛ فلا وقت لديه لأن يعقد التحقيقات ليعرف من فعل ومن لم يفعل، وأخوها الذي يكبرها بخمسة أعوام هو الآخر لم يسلم منها، فقد كانت تضطهده وتخيفه، كانت توحي إليه أن مدرسيه دائمو الشكوى منه وستنقل ذلك لوالده، ولئن علم لسوف يلقِّنه العقوبة التي يستحقها كما أخته.
صغيران يتيمان نشآ بلا أمٍ تحنو وتعطف عليهما، أجبرتهما الحياة على التحمُّل والصبر، لذا كانت رابطتهما قوية ببعضهما، وعندما كبر الأخ وبدأ يعي ألاعيبها أصبح يساومها على أفعالها الخاطئة التي تقوم بها دون علم والده؛ مثل بيع حبوب البيت، وإعطاء النقود لإخوتها، فسكتت عنهما قليلًا ولم تعد تضايقهما كما السابق. تلك الحياة التي لم يجدا فيها من يحنو عليهما جعلت لديهما عزة نفس قوية، فأصبحا في غنى عن الآخرين، لا يهزمهما حزن ولا فقر، اهتمام من أقارب أم لا، لقد صنعت الأيام منه رجلًا، وخلقت منها سيدة مسؤولة.
تميزت الجَدة صفية بأنها شديدة، صارمة في قرارتها، كانت الملجأ لكل من حولها، تذهب لتساعد هذه وتلك، هي من تتلقى التهاني في الأفراح، ومن تتلقى العزاء في المآتم، تعامل الصغير كما الكبير، من لها الرأي والسلطة ليس تكبرًا أو بغير حق، ولكنها كانت أهلًا لذلك، لا تسمع إلا صوتًا شامخًا عاليًا في بيتها، صوتها وحده كان أمانًا لكل الجيران، فطالما سُمع صوتها، سرى الاطمئنان في قلوب الجميع.
تستيقظ من نومها مبكرًا كعادتها بعد صلاة الفجر، تفتح بيتها للشمس تنثر أشعتها به، ثم تجلس في تلك المساحة الشاسعة أمامه لتستعد ليومٍ جديدٍ مليء بما تشتهيه أنت من حكايات وقصص، كانت تعمل بائعة في محل بقالة ملك لهم، بالإضافة لمساعدة زوجها في عمله بالحقل، يمر عليها القريب فيأنس بجلستها، ويسمع لنصائحها، وذلك التائه والغريب يجد ضالته لديها، وكنت أنا من هؤلاء الذين يسعدون بجلستها وسط الكثير من الأطفال، وعندما كبرت ظلت جلساتي معها لا ملل منها ولا سأم، تسمح لي بالنقاش في حين ينهرني الآخرون، نتبادل معها وغيرنا الطعام، الهدايا، والحلوى، نصنع الخبز سويًا كعائلات، هي من تؤلف بيننا، وتنادي على الراكب والماشي ليأكل من صنع يديها، هي من كانت تجدد علاقات الود والرحمة.
الأطفال، وما أدراك ما علاقتها بالأطفال! رحيمة للدرجة التي لا تتخيلها، حتى إنهم ينامون لديها من فرط حنانها واطمئنانهم إليها.
أما زوجها، فلم يكن يظهر منه صوت، لا تسمع ولا ترى منه سوى تلك الضحكات الهادئة التي تظهر وقت أن تُهديه هي كلمات المدح والثناء.
في أحد الأيام، صاح زوجان من الجيران ودموعهما تذرف وقلبهما يتألم، لا يجدان ابنتهما، بحث الجميع عنها فلم يعثروا عليها، فذهبوا إليها بعد أن تعبوا ولا جدوى من بحثهم عنها، دخلت البيت وجلست تبحث عنها في كل مكان، ثم اتجهت نحو دولاب غرفة النوم، فتحته فوجدتها نائمة به، وهنا هلَّل الجميع وتنفَّسوا الصعداء، كست الفرحة وجوه الجميع، فشكروا صفية وتد المكان وصانعة بهجته، ولكن الحياة لا تبقى على وتيرةٍ واحدة؛ لم يكن ينتظر تلك السيدة إلا الشقاء والعناء، وسنرى كيف انقلبت حياتها الهادئة رأسًا على عقب.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.