ShrElRawayat

شارك على مواقع التواصل

(نجمٌ سقط من السماء ليسكن أرضي)
جلس يفكر في هذا الشعور الغريب الذي انتابه منذ أن لامس أناملها، كيف خفق قلبه لها! ما هذا الشعور الذي اجتاح شرايينه، كأنه مسافر أرهقه الترحال بحثًا عن وطنه المفقود، واليوم فقط أوى إليه ليستكين! أغمض عيناه، أراح ظهره قليلًا للوراء وهو يسأل نفسه:
- من أنتِ يا غريبتي؟ لمَ أشعر أنكِ ضالتي ومرفأ سفينتي؟!
نفض هذه الأسئلة من رأسه ليذكر قلبه بأنه لن يخفق لغيرها، فهي من ملكته والغلبة لها...
عادت لمنزلها بقلبٍ مكلوم لا تعرف سبب لتغيره المفاجئ لكنها تشفق عليه، حدسها يخبرها أنه يتألم ويخفي ذلك الألم خلف تلك الابتسامة الباهتة، عيناه لا ترى النوم سوى سويعات قليلة، فالوحوش السوداء تطمس جمال العسل بهما، بدّلت ملابسها وهى تتذكر أحداث يومها علّها تجد سبب لرحيله لكن دون جدوى! يدٌ حطت على كتفها جعلت جسدها ينتفض لكنها استكانت وهي تقبل راحة يده لتخبره:
- اشتقت لك كثيرًا، سامحني على غيابي، مؤكد أنك تتضور جوعًا، لحظات وسوف أعد الطاولة.
دنا منها ليلثم خدها بقبلة رقيقة وهو يطالع وجهها بالمرآة:
- كم تشبهين والدتك، فأنت تملكين نفس حنانها وملامحها، تلك العيون الزرقاء وذلك الشعر الكستنائي، اشتقت لها كثيرًا.
لفت جزعها لتقابل عيناه العسليتان وشعره الذي خالط الشيب سواده، واضعةً رأسها على صدره لتستكين:
- أنا أيضًا لا زلت اشتاق لها.
طبعت على خده قبلة حانية ثم هَمَت بالمغادرة لتجهز طاولة العشاء.
جلس يطالع طعامه ببالٍ شارد لا يعرف كيف حالها الآن، مغادرته المكان وتركه لها بهذا الشكل خطأ فادح و هو لم يعتد أبدًا أن يعامل فتاة هكذا من قبل، مسك هاتفه مرسلًا اعتذار لها عن مغادرته مع طلب باللقاء غدًا في نفس الموعد والمكان، ما أن قرأت الرسالة حتى رفرف قلبها فرحًا وغناء، احتضنت هاتفها لتغط بعدها في نومٍ عميق.
شعر ببعض الراحة بعدما وافقت على طلب اللقاء، غفى قرير العين لأول مرة منذ عدة سنوات لتزوره بأحلامه، كانت تداعب الأطفال وتهدي لهم الحلوى والبالونات التي تكتظ بها حقيبتها، كيف تلعب معهم كأنها طفلة في مثل عمرهم! ملاك تجسد على الأرض، يهدي البشر السعادة والفرح، توجه نحوها كالمجذوب لا إرادة له وقبل أن يلمسها وجدها اختفت...
أشرقت شمس يومٍ جديد يحمل بين طياته أمل لها؛ فهو من حدد موعد اللقاء، شعرت أن كل شيء جديد، مختلف المظهر.
ارتدت فستان من اللون الأسود تزينه الورود البنفسجية فهي تعشق هذا اللون، تضع حزام جلدي عريض على خصرها يحمل نفس لون الفستان، وضعت بعض الحُمرة ثم جمعت شعرها لتخفي جماله تحت حجاب يحمل لون الزهور التي تزين فستانها، ما أن انتهت من تجهيز نفسها وخرجت من غرفتها حتى سمعت صافرة إعجاب من والدها بمظهرها:
- ما كل هذا الجمال اليوم! أخشى عليكِ أن تصيبكِ عين الحسد.
ضحكت لمجاملة والدها ثم طبعت قُبلة على خده وغادرت، فصديقتها تنتظرها، عندما رأتها سألتها:
- ما كل هذا الجمال؟
توردت وجنتاها خجلًا من إطراء رفيقتها:
- هل أعجبكِ حقًا؟
- أنه رائع والأروع هو أنتِ، لأنكِ من ترتديه، فروحك الجميلة تضفي عليه الكثير والكثير.
وصلت عملها وهي تبني آمال جَمّة للقائه اليوم..
"هل سيلاحظ جمالها كما لاحظه الجميع؟ أم أنها تُحمل الأمر أكثر من طبيعته، وطلبه اليوم للقائها فقط للاعتذار عما بدر منه باليوم السابق؟"
قررت ألا تحمل الأمر أكثر مما ينبغي وأن تنتظر حتى يكشف هو عن سبب اللقاء، مرت ساعات عملها بسلام إلى أن حان وقت الانصراف، توجهت نحو وجهتها تنتظر قدومه كطفلةٍ تنتظر ظهور هلال العيد لترتدي فستانها الجديد، انتشر في المكان عبق زكي تخلل أنفها كما الجميع ليعلن عن حضور صاحب الطلة السوداء والحضور الآسر، تقدم نحوها وهو يرسم ابتسامة صافية أضافت توهج لطلته، جلس قبالتها وهو ينظر للبحر الساكن مقلتيها:
- أعتذر عما بدر مني ليلة أمس، فقد اضطررت للمغادرة لأمرٍ هام يخص العمل.
ابتسمت وهي تنظر له ببراءة:
- لا عليك.. فكل منا له ظروف خاصة تتحكم في تصرفاته، لكني لا أعلم إلى الآن اسمك أو عملك! صفحتك مُبهمة، لا تحمل أية معلومات عنك حتى لا تحمل صورتك!
أطرق رأسه بكف يده:
- اعتذر لقد تقابلنا في ظروف غامضة، أدعى عمر مهندس معماري، أعشق القراءة والكتابة، يدعوني البعض بالشاعر، لدي شركة مقاولات أو بالمعنى الأصح هي شركة أملكها مع صديقٍ لي، عملت مع والدي منذ التحاقي بالجامعة، فهو أراد التأكد من اتقاني للعمل حتى استطيع تحمل المسؤولية كاملة لأريح عاتقه من مباشرة العمل، بعد التخرج بعدة سنوات أنشأت شركتي الخاصة.
- تشرفت بمعرفتك، أنا ياسمين مهندسة ديكور أعمل لدي شركة " zed" منذ عامٍ ونصف العام، أعشق القراءة بكافة مجالاتها.
ظلا يتبادلان أطراف الحديث عن العمل والقراءة والأشعار، أتفقا كلاهما أن نزار قباني لا يوجد منافس له، فهو من تربع على عرش الحرف ولا يوجد شبيه له، مر الوقت بينهما كلمح البصر لم يشعرا به، وجد سمات مشتركة بينهما كالعمل وحب الشعر والقراءة، تحدثا عن العمل لتجد ياسمين أن المشروع الجديد الذي تعمل على تصميماته المهندس القائم عليه هو نفس الشخص الجالس أمامها ولكن كيف ذلك فهي لم تقابله ولو صدفة أثناء جلسات التعاقد والتخطيط للعمل! سألته بحيره:
- لكنني لم أرك في أي اجتماع بالشركة!
- هذا المشروع المسؤول عنه شريكي، لذا لم نتقابل لأنني كنت أنهي بعض الأعمال الأخرى.
تبادلا أرقام الهاتف، غادر كل منهما في طريقة، هم بركوب سيارته للمغادرة، لكنه سمع صوتها توبخ أحدهم، التفت لموقع الصوت ليجدها بين حشد من الرجال تكاد لا تُرى من أجسادهم، اقترب من الجمع الغفير ليجد ما جعله يتحول لتمثال صامت يشاهد فقد ولا يتحرك..
" ياسمين تمسك بأحد الرجال من تلابيبه وتوبخه لضربه طفل صغير ثم تركته بعدما فصل بينهما الحضور، لتتوجه نحو الطفل تداعبه وهي تخرج من حقيبة يدها بالون باللون الأحمر وبعض قطع السكاكر والشوكولاتة، عندما حصل عليهم تبدلت دموعه لضحكات وسعادة وهو يحتضنها ويشكرها، قبلته من وجنته، داعبت بأصابعها خصلات شعره الناعم لتتوجه لوالد الطفل مرة أخرى محذرة:
- هؤلاء الأطفال هبة من الله يرزقنا إياهم لنحافظ عليهم لا لنضربهم مثلما تفعل، ما الجرم الذي أقترفه حتى تنهال عليه هكذا!
أجابها الرجل بصوت كساه الدمع:
- ماذا أفعل فأنا فقير الحال لا أملك ما يسد جوعه هو واخوته، طلبت منه مساعدتي في بيع بعض علب المناديل، لكنهم سُرقوا منه فصببت عليه جم غضبي.
- وما ذنب الصغير في معاناتك، خذ هذه الأموال ولا تعاود ضربه وإن أردت حقًا العمل اتصل بي، هذا الكارت به هاتفي وسوف أدبر لك عمل.
تهللت أسارير الرجل عندما سمعها، حاول أن يقّبل يدها إلا أنها سحبتها فورًا لتخبره:
- ديننا العظيم حثنا على التعاون والمساعدة.
انفض الجمع كلٌ في طريقه، غادر عمر وبداخله بركان عاد للثوران بعدما ظن أنه خمد بفعل السنوات التي مرت، كيف يحمل شخصان نفس التفكير ولهما نفس التصرفات! تُرى هل تجمعهما صلة قرابة؟ أم أن هذا التشابه مجرد صدفة؟
ظل على هذا المنوال إلى أن عاد لمنزله، لا يعلم كيف وصل إليه، كل ما سمعه بنصف عقل سُباب بعض الأشخاص له بسبب سيره بطريقة مخالفة، ما أن نزل من سيارته حتى تقدم بواب العمارة نحوه ليصّفها بموضعها، ترك له المفتاح وصعد نحو شقته في آلية ورتابة، فتح الباب ثم دلف إلى الشقة، فجأة شعر بمن يطوقه من الخلف، انتفض حينها من الفزع؛ فهو يسكن وحده منذ ثلاث سنوات حاول التحرر من تلك اليد إلا أنه سمع صوت ضحكتها فهدأت حركته وهو يحدثها:
- لن تتبدل عاداتكِ الطفولية بعد، فقد أصبحت عروسة لكن عقلكِ لم ينضج.
غضبت من كلماته ووصفه لها بالطفلة، ابتعدت عنه لائمة:
- سامحك الله يا أخي، أنظري يا أمي أصبحت على وشك الزواج وأخي يصفني بالطفلة.
خرجت من المطبخ سيدة في منتصف الخمسينات بشرتها بيضاء، تحمل نفس عيون عمر، متناسقة القوام، خالط ليل شعرها بعض الشيب، تضحك على أفعال أولادها، وجهت كلماتها لعمر قائلة:
- أنت من عودتها على هذه التصرفات الطفولة، لمَ الشكوى الآن!
تقدم نحوها يقّبل رأسها ويدها:
- اشتقت إليك يا أمي كثيرًا، ما هذه المفاجأة السعيدة لمَ لم تخبريني بقدومك؟
- ماذا أفعل فقد اشتقت إليك، طالت غيبتك يا بني، ألم يحن الوقت لكي تعود للعيش معنا مرة أخرى؟
- هذا الأمر انتهى منذ زمن بعيد، لمَ تظلين تتحدثين فيه طوال الوقت!
- يا بني والدك يحبك ويريد راحتك فقط، جميعنا نرغب في رؤية ابتسامتك مرة أخرى، لمَ تكابر!
انضمت لهما أخته متداخلة في الحديث:
- ألم تشتاق لطعام والدتنا، ضحكاتي، فدوى تسأل عنك طوال الوقت تتمنى أن تلعب معها كما السابق.
كانت كلماتهما تهرق وتينه، فهو يشتاق حقًا لهم لكنه لا يستطيع العودة، فوالده بمجرد رجوعه سوف ينصب له الشباك كما سبق ليقنعه بالزواج بحجه أنه يريد أن يحمل أحفاده كما حمل ابنة أخيه الأصغر، دام صمته لتقطعه والدته:
- فكر مرة أخرى، فنحن جميعًا نتمنى عودتك، لقد صنعت لك كافة الأصناف التي تفضلها كمان أن شقيقتك قامت بتبديل الشراشف والمناشف وغسيل ملابسك المتسخة.
- لمَ كل هذا العناء يا أمي! فقد صرت رجلًا أستطيع الاعتماد على نفسي.
- سوف تظل بنظري تحتاج لمن يعتني بك إلى أن تتزوج.
- هيا يا أمي فوالدي على وشك العودة للمنزل ولابد أن نعود.
قالتها شقيقته وهي تنظر نحو الساعة التي تزين الحائط.
قامتا بتوديعه ثم انصرفتا، نظر حوله ليجد المنزل يحمل لمسة دفء طبعتها والدته في كافة أنحاءه، رائحة الطعام الشهي، ترتيب السفرة، مفارش السرير كلها تحمل عبق والدته ومسك عطرها، أغمض عيناه، أراح رأسه على الوسادة ليشعر أنه بين أحضانها ملأ صدره بعطرها، صوت رسالة هاتفه أخرجته من سكينته ليجد المرسل ياسمين ـ تلك الفتاة التي اقتحمت وحدته دون سابق إنذارـ
(عُدت إلى منزلي، أرجو من الله أن تكون وصلت إلى وجهتك سالمًا)
ابتسم عندما شعر باهتمامها إلا أنه نفض هذا التفكير من داخل رأسه حتى لا يستولى على قلبه، فقد لاقى الويلات بسببه ولن يكرر ما حدث سابقًا عندما وثق في شعوره، أرسل لها..
(أشكرك لقد وصلت منذ قليل)
برغم كلماته القليلة إلا أنها تشعر بانجذابها نحوه، تشعر بخفقات قلبها له ولا تعلم سبب لها، هل غموضه ما يجذبها نحوه أم هو أعجاب أم حب من النظرة الأولى! لم تجد إجابة شافية لهذا الشعور وتلك الدقات غير المنتظمة، كل ما تعرفه أنها تشعر بالسعادة عندما تراه وكأنه خلق ليصبح عازف نبضها...
حملت ريشتها وبدأت في رسم لوحة جديدة، حياة تتمناها ولا تعلم ما يخبئه القدر لها في الأيام القادمة، كل ما تتمناه أن تحيا بسعادة مع عازف النبض...
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.