قال الكولونيل:
ركبنا الجياد لعدَّة ساعات، من الساحل مباشرة نحو قلب الجزيرة. كانت الشمس
توشك على المغيب، حين غادرنا السفينة. لم نشعر بنسيمٍ يُذكَر، لا في البر ولا في البحر. كان
الصهد يخيِّم على كل شيء، وظَلَّلتْ سحاباتٌ نحاسية اللون سلسلة التلال المنخفضة التي
فهزَّ كيلوا رأسه. «! رياح » : تبعُد عدة أميال إلى الداخل. قال بريري
ظهرت آثار الجفاف الطويل الممتد، على النباتات من كل الأنواع. كانت العين تزوغ
بين الشجيرات الصغيرة المصفرَّة اصفرارًا مَرَضيٍّا — التي بلغت منها شدة الجفاف، في
بعض الأماكن، حدَّ أن تكسَّرت أوراقها وسيقانها تحت سنابك الخيول — وبين الأشجار
العطشى ذات اللون البني المصفر، التي حفَّت طريق الدواب. لم يكن ثمة شيء نامٍ أخضر
اللون، إلا الصبار ذا الأوراق الجرسية الشكل، القادر على الازدهار في أصعب الظروف، ولو
في فوهة بركان ثائر.
انحنى كيلوا عن ظهر الحصان، واقتلع الجزء العلوي من إحدى هذه النباتات الممتلئة
بالعُصارة، وكان حجمها مشابهًا لحجم الكمثرى التي تنمو في كاليفورنيا. سحق الورقة
الجرسية الشكل بقبضة يده، والتفت إلينا، ليقذف في وجوهنا الساخنة بضع قطرات من
مائها، تبعث على الامتنان.
الشجرة المنطاد
ثم شرع الدليل يتحدث بسرعة بلغته المكونة من حروف متحركة وأخرى ساكنة.
وتولى بريري مسئولية الترجمة لي.
أحَبَّ الإله لالالا امرأةً من الجزيرة. أتى إليها على شكل نار. أما هي، فلاعتيادها على
درجات الحرارة العادية، لم ترتجف إلا قبل اقترابه منها. ثم خطب ودَّها على شكل زخَّة
من المطر، وفاز بقلبها. كان كاكال إلهًا أقوى من لالالا، لكنه خبيث إلى أقصىدرجة. طمع
هو أيضًا في هذه المرأة التي كانت فائقة الجمال. لكن إلحاح كاكال ذهب سُدًى. وانتقامًا
منها حوَّلها إلى صبارة، وغرَسها في الأرض تحت الشمس الملتهبة. لم يملك الإله لالالا من
القوة ما يمنع به ذلك الانتقام، لكنه ظل ملازمًا للمرأة الصبارة، على هيئة زخات من المطر،
ولم يتركها قط، حتى في أشد الفصول جفافًا. ولأجل ذلك، فإن الصبار ذا الأوراق الجرسية
الشكل يُعد نبعًا لا ينضب للمياه العذبة الباردة.
بعد حلول الظلام بوقت طويل، وصلنا إلى القناة التي كانت المياه تجري فيها في
السابق، لكنها جفَّت، وقادنا كيلوا لمسافة عدة أميال، على امتداد مجراها الجاف. كنا متعَبين
للغاية، حينما طلب منا الدليل الترجُّل. ربط الخيول المتعَبة، ثم اندفع عبر الدغل الكثيف
على الضفة. قطعنا مائة ياردة بشق الأنفس، حتى وصلنا إلى كوخ متهالك، ذي سقف
من قش. رفع الهمجي كلتا يديه على رأسه، وأطلق لحنًا موسيقيٍّا مصطنعًا، قريب الشبه
بألحان قاطني الجبل. أخرجت هذه الصيحة ساكن الكوخ، الذي سلط عليه بريري ضوء
المصباح. كان الساكن امرأة عجوزًا، لها مظهر قبيح، إلى درجة تفُوق ما يمكن تخيُّله في
أسوأ الأحلام.
«! أومانانا جيلال » : هتف كيلوا
«! مرحبًا أيتها المرأة التقية » : ترجم بريري
دار حديث طويل بين كيلوا والعجوز الشمطاء التقية، باحترامٍ من جانبه، وبتعالٍ
أخلاقي ونفاد صبر من جانبها، في حين أنصت بريري بانتباه بالغ. قبضعلى ذراعي عدة
مرات، كما لو كان غير قادر على كبح توتره. بدا أن المرأة مقتنعة بحجج كيلوا، أو أن
توسلاته ألانت قلبها. أشارت أخيرًا إلى جهة الجنوب الشرقي، وهي تتلفظ على مهل ببضع
كلمات، كان من الواضح أنها أثلجت صدور رفاقي.
كان الاتجاه الذي أشارت إليه المرأة التقية لا يزال في جهة التلال، لكنه ينحرف
بعشرين أو ثلاثين درجة إلى يسار الاتجاه العام الذي سلكناه منذ غادرنا الساحل.
«. أسرعوا! أسرعوا! ليس لدينا وقت نضيعه