ركبنا خيولنا ليلتنا كلها. ومعشروق الشمس، أخذنا استراحة لم تتعدَّ عشردقائق، لتناول
طعام الإفطار الهزيل الذي كنا نحمله في أجربتنا، ثم عدنا لامتطاء جيادنا، شاقِّين طريقنا
عبر دغل كان يزداد وعورة أكثر فأكثر، وتحت شمس كانت حرارتها تزداد التهابًا.
لعلك لا تمانع الآن إخباري بالسبب الذي يحمل » : أخيرًا قلتُ لصديقي قليل الكلام
شخصين متحضرين، وآخر همجيٍّا لطيفًا، على خوض غمار هذه الغابة اللعينة، كما لو
«! أنهم يؤدون مهمةَ حياةٍ أو موت
«. أجل، من الأفضل أن تعرف » : قال
أخرج بريري من جيب قميصه الداخلي خطابًا قُرئ وأعُيدت قراءته مرارًا حتى اهترأ.
هذا خطاب من البروفيسور كويكفيرستش، من جامعة أوبسالا. وصلني وأنا في » : وتابع
«. فالبارايسو
قرأ بريري بصوت خفيضخطابَ عالِم النبات السويدي العظيم، متلفِّتًا حوله بحذر،
كما لو أنه يخشى أن تكون كل السراخس الشجرية في تلك البرِّيَّة الاستوائية مسترقة
للسمع، أو أن تكون الأكمام الشبيهة بالقبعات، التي تغطي أشجار الكلاديوم العملاقة
فوق رءوسنا، آذانًا تتربصلارتشافسرٍّعظيم من أسرار العلم.
ستُتاح لكم في هذه الجزر فرصة نادرة لبحث قصص » : كتب البروفيسور يقول
استثنائية بعينها، أتاحها لي منذ سنواتٍ المبشر اليسوعي بيوتو، بخصوص الشجرة
المهاجرة، شجرة الصبار التي عُني بها جانسين ومفكرون آخرون متخصصون في علم
وظائف الأعضاء.
يزعم المستكشف سبور أنه رآها، لكن ثمة سبب قوي، كما تعلم، يجعلنا نتعامل مع
جميع مزاعم سبور بحذر.
لكن الأمر اختلف بعد تأكيدات مراسلي الموثوق الأخير، المبشر اليسوعي. كان الأب
بيوتو عالم نبات محنكًا، وراصدًا دقيقًا، ورجلًا شديد التقوى والورع. لم يسبق أن رأى
الشجرة المهاجرة قط، لكن خلال زمن عمله الطويل في ذلك الجزء من العالم، جمع من
مصادر مختلفة ومتنوعة عددًا كبيرًا من الشهادات التي تفيد بوجودها وبخصائصها.
أهو أمر لا يصدقه عقل يا عزيزي بريري، أن يكون هناك في مكان ما في نطاق الطبيعة،
منظومة نباتية أعلى من الكرنب، دعنا نقول إن مثلها في ذلك مثل تفوُّق القردة على حيوان
البَوْلَب البحري، من حيث التعقيد والإمكانات؟ إن الطبيعة متصلة؛ فلا نجد في أنظمتها
أي ثغرات أو فجوات. قد يكون هناك روابط مفقودة في كتبنا وتصنيفاتنا وخزائننا، لكن
العالم العضوي لا يحتوي على أي روابط مفقودة. أَوَليست كل المخلوقات الأدنى، تكافح
للترقي للوصول إلى حالة من الوعي الذاتي وامتلاك الإرادة؟ خلال عملية التطور المتواصلة،
والتمايز، وتحسُّن الوظائف المميزة، ما الذي يمنع أن يصل النبات إلى هذه الحالة، فيشعر
«؟ ويريد ويفعل؛ أي باختصار: أن يحمل خصائصحيوان حقيقي ويمارسها
تهدج صوت بريري من أثر الحماس وهو يقرأ ذلك.
لا غرو أنك ستكون سعيد الحظ للغاية إن أنت » : تابع البروفيسور كويكفيرستش
عثرت على عينة من الشجرة المهاجرة التي وصفها بيوتو، ستجد أنها تمتلك نظامًا محددًا
من الأعصاب والعقد العصبية الحقيقية، التي تشكل — في الحقيقة — ركيزة الذكاء
النباتي. أهيب بك أن تتعمق جيدًا في دراساتك التشريحية لها.
وفقًا للدلائل التي أمدني بها الأب اليسوعي، فإن هذه الشجرة الاستثنائية، تنتمي إلى
فصيلة الصباريات. أما جذورها فتكاد تكون بدائية، ما يمنحها ارتباطًا ضعيفًا بالأرض.
ويمكن لهذا الارتباط أن ينفصم إراديٍّا، لترتفع الشجرة عاليًا في الهواء، وتنتقل إلى مكان
آخر من اختيارها، كأنها طائر يغير مسكنه. أعتقد أن هذه الهجرات، تتم بفضل خاصية
إفراز غاز الهيدروجين، الذي تملأ به الشجرة إراديٍّا عضوًا شبيهًا بالمثانة، يتكون من
أنسجة بالغة المرونة، وبذلك ترفع نفسها عن الأرض، وتنتقل إلى مسكن جديد.
وأضاف بيوتو أن السكان المحليين لطالما عبدوا الشجرة المهاجرة، باعتبارها كائنًا
خارقًا للطبيعة، وقال إن الغموضالذي أحاطوا به عبادتهم لها كان حجر العثرة الأكبر في
«. طريق الدارسين
هذا كل شيء! أَوَليست تلك » : طوى بريري خطاب البروفيسور كويكفيرستش، هاتفًا
مهمة تستحق المخاطرة أو التضحية بالحياة نفسها؟ لكي تضيف إلى الحقائق المسجلة
حول مورفولوجيا النبات، الوجود المثبت بالأدلة لشجرةٍ تطوف، شجرة تمتلك إرادة، وربما
قدرةً على التفكير؛ إنه مجد يستحق أن يُسعى إلى تحقيقه بأي ثمن! والراحل دو كندول
«… من جنيف
إذ كان الجو شديد القيظ، «! سحقًا للراحل دو كندول من جنيف » : صرخت فيه
وشعرتُ بأننا خرجنا في مهمة جنونية