darbovar

شارك على مواقع التواصل

''چودي''
كان صياح الصيادين لبعضهم البعض على شاطئ النهر المقابل لشرفة غرفتي العلوية صاخبًا للغاية ذلك الصباح، كعادتهم اليومية يحتفلون معًا إن قاموا باصطياد أعداد كبيرة من الأسماك دفعة واحدة في وقتٍ واحد، حتـى أنني اعتدت على صراخهم، وصار بالنسبة لي حدثًا ثابتًا.

أستيقظ كل يومٍ على صوت احتفالهم أو صراخ أحدهم، وأخرجُ إلى الشرفة؛ لأشير إلى أبي كي أحييه أثناء احتفاله.

لطالما كان يتمنى أبي سابقًا لو أنجبني ولدًا؛ كي أساعده في أعمال الصيد، لم يكن يعلم أنني سأفعل ما لم يستطع أن يفعله هو أو أي شاب آخر في بلدتنا بمرور السنوات. تذكرتُ كلماته عندما كان يتحدث مع أصدقائه عن كنز كبير يُسمى ''كنز مانتينيا''، فتمنيت وقتها لو كنت أستطيع أن أجد ذلك الكنز؛ كي أُثبت له أن ندمه على إنجابه لفتاة كان و سيظل بلا فائدة، قرأت الكثير عنه، ووضعتُ بداخلي أملًا أنني سأجده بإحدى الأيام مستقبلًا، كنت أعلم أن عدم استطاعتي على إيجاده لن تضرني بأي شيء، لكن ثقتي كانت تزداد أكثر يومًا تلو الآخر.

مانتينيا هي مدينتنا التي أسكن بها، أرقى المدن السبعة لإقليم الهضاب الحمراء، وأكثرهم اكتظاظًا بالسكان
نعلم جميعًا هنا أن السبب هو مناخها المعتدل، وأرضها الخصبة، والتي تختلف عن باقي أرضنا الصحراوية والصخرية، وأيضًا بسبب (نهر راياتيا) الذي يشق أرضنا إلى نصفين شرقًا و غربًا، بدءً من مدينة راياتيا في الشمال، وحتى بحيرة (لونار) جنوبًا، قرأتُ ذات مرة في أحد كُتب أبي أن اقليمنا يشتهر بكثرة كنوزه الموجودة في الكثير من مناطقه، وأكثرها في مدينة مانتينيا التي نعيش بها، ويوجد بها أيضًا أكبر كُنوزها ثروةً في أحد أنفاق جبالها، فأدركتُ أن ذلك هو الكنز الذي كان يقصده أبي عندما يتحدث مع أصدقائه.

وفي إحدى ليالي الشتاء كان يجلس أبي أمام موقد النار؛ ليشعر بالدفء، ويقرأ في أحد كُتبه، تقدمت إليه، وجلست بجانبه ممسكةً كتاب آخر أيضًا، ثم بدأت في التحدث معه قائلة: أبي، هل تسمح لي أن أتحدث معك في أمر ما؟
التفت إليّ، ورد مبتسمًا: بكُل تأكيد يا ابنتي، تفضلي.
- قرأت في إحدى كتبك عن كنز ما يُسمى كنز مانتينيا، هل يمكنك أن تُخبرني بالمزيد عنه؟
- إنها قصة طويلة، ولكن سأحاول أن أختصرها لكِ في بضعة نقاط قليلة
طال صمته لثوانٍ قليلة قبل أن يقول: مُنذ أكثر من قرنين تقريبًا، اشتعلت الحروب بين إقليمنا إقليم الهضاب الحمراء وبين إقليم آخر يُسمى (رانسي)، واستمرت إلى أكثر من ثمانين عامًا، يشتهر اقليمنا مُنذ آلاف السنين بوجود الذهب في كثير من أراضيه، وبالتأكيد أثار ذلك طمع حكام بعض الأقاليم المجاورة؛ لاحتلال أرضنا، ونهب خيرات بلادنا.

اضطر حكامنا إلى استخراج كميات كبيرة من الذهب، ودفنها في أماكن عديدة حتى لا يتمكن حكام البلاد الأخرى من إيجادها، ولكن ما كُنا نخشاه قد حدث.
كان يعلم الأماكن المُخبَئ بها الذهب هو حاكمنا وقتها، وبعض من حاشيته فقط، وتُوفي جميعهم في الحرب الشهيرة بين الإقليمين. استمرت الحرب تلك إلى أكثر من ثمانين عامًا كما أخبرتكِ، بلغ عدد الضحايا إلى الآلاف من سكان الإقليمين، و استطاع فيها حكام إقليم (رانسي) أن يحتلوا بلادنا، ولكن لم يستطع أحد منهم أن يعرف مكان الذهب المُخبئ، ولم يجدوا سوى كميات قليلة فقط. نشبت صراعات كثيرة بين سُكان إقليم (رانسي) وسكان اقليمنا استمرت طوال الأعوام الثمانين قبل أن يستطيع أحد جنود إقليمنا وقتها، ومعه مجموعة أخرى من الجنود أيضًا، أن ينتصروا على حُكام إقليم رانسي، واستطاعوا أن يضموا الإقليمين معًا، كان إقليمنا قديمًا به ثلاثة مدن فقط هي: راياتيا ومانتينيا، و مدينة أخرى تسمى (تاليا) وبعد ضم الإقليمين معًا أصبح به سبعة مدن.

سُمي بعد ذلك بإقليم بلاد الهضاب الحمراء، بعض من المؤرخين القدامى قالوا أن السبب في تسمية الإقليم بهذا الاسم يرجع إلى دماء جنود الإقليمَين التي سُفكت على الهضاب التي تفصل الإقليمين أثناء الحروب الكثيرة التي دارت بينهم، والبعض الآخر قال أن السبب في تسميته بهذا الاسم هو عند رؤيتك لها من مسافة بعيدة تحت أشعة الشمس فسوف تريها مكتسية باللون الأحمر، بعد أن استعاد حكامنا بلدتنا مجددًا حاولوا إيجاد الكنوز التي خبأها الحكام القدامى قبل بداية الحروب، كما توقعنا لم يتمكنوا من إيجادها كلها أيضًا، وتبقّى فقط كنز واحد كان يحتوي على كل المجوهرات الثمينة للعائلة الحاكمة، والعديد من أطنان الذهب الأخرى، سُمي بعد ذلك بكنز مانتينيا.

لم أستطع أن أُغلق فمي من الدهشة بسبب ما سمعته من أبي وقلت: يبدو أن بلادنا تمتلك حضارة عريقة حقًا!
قال: بالطبع، هذا جزء صغير فقط من قصة الكنز، ستكتشفين المزيد والمزيد في المدرسة في السنوات القادمة، و في كتب التاريخ أيضًا.

ثم سألني عن سبب اهتمامي بأمر هذا الكنز فقلت: أريد أن أعثر على ذلك الكنز.
ضحك أبي بسخرية، وقال: أنتِ مجرد فتاة فقط، تريدين أن تفعلي ما لم يستطع أن يفعله الكثير من الحكام من قبلك، وما لم أستطع أن أفعله أنا أيضًا!
قلت: هل يتعلق الأمر بكوني فتاة فقط؟
قال: لو كنتِ شابًا كنتُ أستطع أن أخبرك أنه يمكنك فعلها، تعلمين كنت في الرابعة والعشرين من عُمري تقريبًا، وذهبت أنا ومجموعة من أصدقائي إلى أحد جبال البلدة المتوقع وجود الكنز بها، وحاولنا أن نبحث عنه معًا وعندما مررنا بأحد أنفاق الجبل سقطت بجانبنا صخرة كبيرة كادت أن تنهي حياتنا نحن الأربعة ومنذ يومها، لم يقترب أحد منا من ذلك الجبل مجددًا، بعد كل هذا تقولين أنكِ تستطيعين أن تفعليها بمفردك!
أجبته بحماس شديد قائلة: سأحاول، وسأتعلم كل الطرق التي ستساعدني على العثور عليه.
- وكيف ذلك إذن؟
- سأشتري مزيدًا من الكتب، وسوف أذهب إلى تلك الجبال، وأحاول أن أجد ما يدلني على العثور عليه.
رد بغيظٍ شديد، وانقلبت أسارير وجهه قائلًا:
لا، لن تذهبي.
-ولكن يا أبي...
قاطعني، وقال: كما قُلت، لا ذهاب إلى تلك الجبال، ولا تفكري بذلك الأمر مجددًا.






''سليم''
مرت ثلاثة أعوام منذ اليوم الأول لي في مدرسة راياتيا، طوال الأعوام الماضية كان يقوم أبي بإيصالي إلى المدرسة بعربته، ثم أدخل المدرسة، وينتهي اليوم الدراسي، وأجده يقف بانتظاري خارجًا أمام البوابة بابتسامته الجميلة، واحتضانه الدافئ لي. عرَّفتُ أبي على صديقي حمزة، وأصبح يحكي لكلينا عن مغامراته معًا، أحبَّ حمزة أبي كثيرًا، وأراد أن يقوم برحلة بحث عن كنزٍ ما، كما كان يفعل هو في شبابه.

أخبرني أبي أنه سيستعين بي أنا وحمزة للقيام بأمرٍ ما، فأدركتُ بعدها أنه يريدنا أن نبحث أنا، وحمزة عن كنز مجهول يسمى (كنز مانتينيا) ولم يتمكن الكثير من الباحثين من إيجاده، لم يكُن يعلم أننا نمتلك أنا وحمزة ما لم يمتلكه أي باحث من قبل.
في نهاية العام الثالث لي في المدرسة أكملتُ الثانية عشر من عمري، ولم يستطع أبي أن يوصلني إلى المدرسة بعربته كالعادة بسبب اشتداد مرضه، فأصبحتُ أذهب إلى المدرسة بجواد عربة أبي، وحاولت الاعتياد على ذلك.
كان الأمر صعبًا في البداية بعض الشيء، فلم أكن ماهرا في ركوب الخيل، وكان الأمر يزداد صعوبة أكثر بالنسبة لي أن أذهب إلى المدرسة في تلك المسافة الطويلة بجواد عربة أبي، ولكن حمزة كان بارعًا جدًا في ركوب الخيول، وقيادتها، وقام بتدريبي عليها حتى أصبحت ماهرًا في السيطرة عليها إلى حدٍ ما مثله.
مرت السنوات الأربعة المتبقية لي في مدرسة راياتيا، ولم نتحدث أنا وحمزة طيلة أيامنا أو يشغل بالنا سوى عن أمر واحد فقط هو كنز مانتينيا.
كنا نجلس في أحد الأيام معًا بغرفتي، وبدأ بالتحدث قائلًا:
أنهينا الدراسة في مدرسة راياتيا الابتدائية، ويتبقى فقط أشهر قليلة للالتحاق بالمدرسة المتوسطة، ألم يحن الوقت للذهاب أنا وأنت؛ لنبحث عن الكنز؟!
قلت: لا أعرف متى سيسمح لنا أبي بالذهاب.
- أتمزح؟! أصبحنا في السادس عشر من عمرنا الآن، لم نعد أطفالًا كما في السابق، أنا متشوق جدًا؛ لأبحث عن ذلك الكنز.
- نحن لا نعرف أي شيء عن ذلك الكنز سوى اسمه فقط، لا نعرف كيف سنصل إليه؟ وأين سنبحث؟ وماذا سنستخدم في البحث؟ صدقني أنا متشوق؛ للبحث عنه أكثر منك لكن أبي لم يخبرنا بعد أي شيء عنه.
ظهرت على وجهه علامات الدهشة ثم قال: حسنًا، هيا بنا نذهب إليه الآن، و نسأله عن الكنز.
- لا، هو مريضٌ الآن ونائم في فراشه، لا تقلق سأسأله عن كل شيء بالتفصيل في وقت لاحق.
لا نعرف إلى أين سيكون مصيرنا في هذه الحياة، وكيف ستكون أيامنا القادمة، لا نعرف ماذا يخبئُ لنا القدر، وما إن كنا سننجح أو سنفشل، أنا وأنت لا نعرف شيئًا على الإطلاق إذن توقف عن التفكير في ذلك الأمر كثيرًا.
- أتخشى أن يصيبنا مكروه؟!
قلت: قلقٌ نوعًا ما.
أدار وجهه إلى الحائط، وأخذ نفسًا عميقًا ثم استدار إليّ، وقال: متى كانت الخيبات نهايتنا؟
تذكر تلك المرة التي ظننت أنها الأخيرة فكانت بدايتنا، ولا تنسى أن العثرات والخيبات التي نجنيها في كل طرق حياتنا، ما هي إلا مصباح يكشف لنا خبايا قوتنا، ولا شيء يحدث عبثًا نحن نستطيع أن نؤثر على ما هو قادم إذا آمنا بذلك.
وأضاف: لن نستسلم أبدًا في بداية الطريق.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.